من هي ”ليسيا أوكراينكا“ الشاعرة التي تحتفل أوكرانيا بمرور 150 عامًا على ولادتها؟  

ليسيا أوكراينكا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. سمير مُندي

تحتفل أوكرانيا هذا العام بمرور مائة وخمسين عامًا على ميلاد شاعرتها الكبيرة ”ليسيا أوكراينكا“. و”ليسيا أوكراينكا“، التي قد لا يعرفها الكثيرون، واحدة من أهم أدباء وكتاب أوكرانيا الذين بفضلهم وُلد الشعور القومي الأوكراني وترسخ، سواء في الأدب أو في الوعي الجمعي الأوكراني ككل.  فمن المعروف أن ”أوكراينكا“ كانت بمثابة الضلع الثالث في المثلث الذي أخذ على عاتقه تطوير اللغة الأوكرانية، وإيقاظ الشعور الوطني بالهوية والثقافة الأوكرانية. بدأ هذا المثلث على يد الشاعر الأوكراني الكبير ”تاراس شفتشينكو“  (1814-1861م) الذي تُعتبر مجموعته الشعرية «كوبزار» المنشورة عام 1840م المانفيستو الحقيقي الذي أعلن استقلال الأوكران أدبيًا وفكريًا. ”شفتشينكو “ الذي اجتهد في دمج اللهجة الدارجة الأوكرانية بلغة الأدب، كان قد وضع، بذلك، اللبنة الأولى التي مهدت لظهور اللغة الأوكرانية التي نعرفها الآن.  بعد ”شفتشينكو“ يأتي دور ”إيفان فرانكو“ (1856-1916م).  الذي تركز على مسألة تطوير لغة أوكرانية موحدة من بين اللهجات المتنوعة التي كانت سائدة في عصره. وكان ”فرانكو“ يرى أن اللغة الأدبية يمكن أن تكون هي الضامن الوحيد لترسيخ أسس لغة موحدة منشودة.  ولعل كتابه «اللغة الأدبية واللهجات» 1907م خير دليل على قناعاته في هذا الجانب.

فمن هي ”ليسيا أوكراينكا“ الشاعرة التي تحتفل أوكرانيا هذا العام بذكرى مولدها المائة وخمسين؟ هي لاريسا كوستاش-كفيتكا المعروفة باسم ”ليسيا أوكراينكا“ والمولودة في 25 فبراير عام 1871م في مدينة ”زفياهيل“ المعروفة حاليًا باسم ”نوفوهراد-فولينسكي“.  ولدت ”لاريسا“ أو ليسيا، الاسم الأدبي الذي اختارته لها أمها، في بيت تأتي الكتابة والنشر على رأس أولوياته. فالأم كاتبة وناشرة، والأب واحد من أهم الفاعلين في مجال النشر وتطوير الثقافة الأوكرانية بوجه عام. في هذه الفترة، أواخر القرن التاسع عشر، كان استخدام اللغة الأوكرانية لغةً للتواصل، أو للتعليم من المحرمات التي يعاقب عليها القانون. إذ كانت اللغة الأوكرانية محظورة بأمر السلطات الروسية آنذاك. وعلى الرغم من هذا التحريم، فإن الأم أصرت على أن تكون الأوكرانية هي اللغة اليومية التي تتواصل من خلالها الأسرة. كما حرصت على أن تتلقى ابنتها مبادئ لغتها الوطنية في المنزل، طالما أن تعلمها خارج المنزل لم يكن ممكنًا آنذاك. ربما يفسر هذا القمع ما أولته “ليسيا”، فيما بعد، من اهتمامٍ للغة الأوكرانية القومية، وللعمل على استمرارها وتطورها. سواء من خلال جمع الأغاني والمأثورات الشعبية الأوكرانية، أو التعريف بالتاريخ الأوكراني ككل. أو من خلال الحلقة الأدبية التي أسستها بالتعاون مع أخيها تحت اسم ”بلِيَادي“،التي جعلت من الترويج للغة الأوكرانية أحد أهم أولوياتها.    

ويعود التقدير الذي يكنه النقاد والشعب الأوكراني بصفة عامة لشاعرتهم ”ليسيا أوكراينكا“، إلى أن “ليسيا”، كما أشرنا، معدودة واحدة من أهم كُتاب “أوكرانيا” الذين ارتبطت جهودهم بالصحوة القومية الأوكرانية. لا تتعلق هذه الجهود بما أبدوه من حماسٍ للدفاع عن قوميتهم المقموعة وحسب. إنما تتعلق، أولاً وقبل كل شيء، بقدرتهم على تفجير طاقات اللغة الأوكرانية الأم، والتدليل على قدرتها على أن تكون لسانًا للآداب والفنون المتنوعة. وبقولٍ واحد، قدرتها على أن تكون لغة حضارة. علاوة على ذلك، فقد تمتعت “أوكراينكا” بثقافة موسوعية عميقة.   إذ أتقنت، وهي لاتزال طفلة، العديد من اللغات الأوربية، كالفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية، علاوة على اللغات السلافية كالروسية والأوكرانية والبولندية. بالإضافة إلى ما أتقنته من فنون الموسيقى والشعر والمسرح. مما جعلها جديرة باحترام القراء والنقاد الغربيين، ومكنّها من الدفاع عن قضايا بلدها ولغتها بلسان أدبي بليغ. وعلى الرغم من أن ”أوكراينكا“ كانت تعاني منذ طفولتها من مرض في العظام عجّل بوفاتها، فإنها لم تتوقف يومًا عن الكتابة، ولم يفتر حماسها في الدفاع عن قضايا بلدها. مما زاد من تعاطف وتقدير شعبها وقرائها لها.

و”لليسيا أوكراينكا“ قصة طريفة مع عالمنا العربي. فقد زارت مصر أوائل القرن العشرين أكثر من مرة. وبالتحديد مدينة ”حلوان“ المصرية التي تتمتع بمناخ جاف يلائم صحتها المعتلة. خلال هذه الفترة التي قضتها ”أوكراينكا“ في مصر كتبت ديوانها الفريد من نوعه ”الربيع في مصر“. والديوان، كما يدل اسمه، يتضمن أشعارًا تعكس افتتانًا بجو مصر خلال الربيع. لاسيما رياح الخماسين. خلبت الريح الساخنة لب ”ليسيا“ التي أتت من الشمال البارد، بلونها البرتقالي الذي يحجب الرؤية تمامًا حتى أطلقت عليها اسم ”الانتفاضة الصفراء“. وذلك في إشارة إلى قوتها وهجومها المفاجئ الذي يشبه، كما تقول، هجوم الوحش ”تيفون“. ألهمت هذه ”الانتفاضة الصفراء“ شاعرتنا ديوانها الصغير ، “الربيع في مصر“، الذي لا تزيد عدد قصائده عن عشر قصائد. وفي قصيدتها ”الخماسين“، مثلاً، تعيد ”أوكراينكا“، قراءة الطبيعة المصرية في ضوء الحضارة الفرعونية القديمة، وترى إلى تقلباتها باعتبارها تمثيلاً طبيعيًا لصراعات آلهة مصر القديمة، وللصراع الأبدي بين قوى الخير والشر. فرياح”الخماسين“،باندفاعاتها العنيفة والمفاجئة وهبَّاتها الصفراء ليست إلا طريقة ”ست“ الشرير في احتفاله بذكرى قتله لأخيه الطيب ”أوزوريس“. في المقابل تأفل الشمس، ربما استنكارًا للجريمة الشنعاء، وربما مواساةً ”لإيزيس“ الزوجة الثكلى التي مزَّق بكاؤها السموات. تقول ”أوكراينكا“: ”أنا الإله القديم، أنا هو “ست” الجبار/الذي مزَّق جسد أوزوريس الخالد/ورمى به في الصحراء/أوه، كيف عندها أجهشت إيزيس بالبكاء؟/ وفرحت الخماسين للذكرى/كأن الصحراء كلها اندفعت للأعلى صوب السماوات/وغابت الشمس، عين أوزوريس، في قلب الغيوم الصفراء/أظلمت كأن العالم كله أظلم“ (الخماسين).

ليسيا أوكراينكا

لكن عندما يصفو الجو، فإن ”أوكراينكا“ التي تعتدل صحتها المعتلة باعتدال المُناخ، ترى أن ابتسامة الفرح التي لا تفارق شفاه المصريين هي بمثابة هبة من هِبَات هذه الطبيعة الدافئة. تقول في رسالتها إلى ”بوريس هرينتشينكو“: ”المناخ هنا، وخاصة الأجواء المحلية، يجعل الناس ميَّالين إلى الفرح، السماء الصافية دائمًا،…لطافة الأجواء المحلية، وخفة الهواء التي لم ألاحظ مثلها في أي مكان في أوربا“. غير أنها تحاول أن تجد تفسيرًا آخر  لهذه الابتسامة من واقع الحضارة المصرية القديمة، لاسيما وأنها كانت على دراية واسعة بتاريخ الشعوب الشرقية. تقول، مثلاً، في قصيدة ”هبة سرية“. حيث “الفرح” هبة من هبات “قديسات حكيمات”  أهدينَ  أبناء النيل الفرح الدائم: ”من أين يأتي هذا الفرح؟/أتساءل ويتخايل في رأسي أن صوتًا خفيًا يهمس بأسطورة منسية/ كان ياما كان لما ولد النيل في الصحراء وضعته أمه في مهد أخضر ثمين/وكان الأب يراقب من السماء العالية، بعين الرضا، كيف كان الابن يكبر على مر الساعات، لا الأيام، سريعًا/ وكيف كان يزداد قوة، وكيف كان يحمل تلك القوة إلى البحر/ وإذ اجتمعت لحظة الولادة هاتورات حكيمات بلغ عددهن سبعا، حملت كل واحدة منهن هدية للطفل/ فقالت الأولى سأهبكَ أرضًا خصبة خالصة ملك لك/ وقالت الثانية، وستحصد ثلاثة محاصيل في السنة/ وقالت الثالثة وسيكون “رع” رحيمًا بك دائمًا/ ومدت الرابعة يدها قائلة وهذا درع النخيل يحرسك من شرور “ست”/ أما الخامسة فوضعت البردي واللوتس والحجر في صمت/وهمست السادسة لن يُذاع لك سر/ ابتسمت السابعة من خلال دموعها، وقالت بصدق لأنها تحسدك فقد توعدتك الآلهة بالعبودية الأبدية لأولادك، أما أنا فلسوف أسلح روح الشعب بفرحٍ لا ينتهي، فلا يقهره ظلم فراعنة أو نير غزاة/ هكذا وعدت هاتورات حكيمات منذ غابر الزمان، وأنا واثقة أن كلمات الإلهات لن تُنكث أبدًا“.     

ومع ذلك فقد كان احتفاء ”أوكراينكا“ بالطبيعة المصرية، طريقة أخرى في تذكر بلدها الأم ”أوكرانيا“.  فأوكرانيا أيضًا ذات طبيعة خلاّبة، وهي، علاوة على ذلك، ملعب الطفولة وموطن العائلة والأجداد. وهناك تجد الشاعرة سكينتها وراحة بالها هي التي كانت في تنقل دائم وترحال لا ينقطع. فحلم العودة لايزال يراودها ويأخذها إلى بلدها. تقول، مثلاً، في قصيدة ”حلم“: ”كم أشعر بالهدوء والراحة، هل نحن في أوكرانيا؟/نعم، نحن في أوكرانيا/هاهو البستان والمروج الخضراء، ومنزل العائلة/هاهي أشجار  الحور الرومي الغامقة/والبركة على سطحها يطفو عَدَس الماء/ نعم إنها أوكرانيا/ توقف أيها المسافر/توقف هنا/ ولتكن نهاية ضياعك هنا“.   

الآن بدأ العالم العربي يعيد اكتشاف الثقافة الأوكرانية بوجهٍ عام، والأدب الأوكراني على وجه الخصوص. وذلك من خلال الاهتمام بنشر مؤلفات هذه الشاعرة والكاتبة الكبيرة. وسوف يلاحظ القارئ العربي الترجمات التي تتوالى لأعمال هذه الكاتبة، والمحاولات المتصلة للتعريف بها وقراءة أعمالها من خلال اللقاءات العلمية التي تُعقد لهذا الغرض.  فقد ترجمت ”أولينا خوميتسكا“، على سبيل المثال، مختارات من أشعارها ورسائلها بعنوان ”ليسيا أوكراينكا: مختارات من أشعارها ورسائلها“، نُشرت في  ”دار العين“، القاهرة 2017م، وترجم عماد الدين رائف أعمالها النثرية بعنوان ”ليسيا أوكراينكا: الأعمال النثرية ج1“، منشورات ”دار المصور العربي“، 2021م.  وبفضل هذه الجهود لم تعد ”ليسيا أوكراينكا“، المتوفاة عام 1913م مجهولة في عالمنا العربي. بل وأصبح القارئ العربي في عِداد القراء الذين يمكنهم تذوق أعمال هذه الشاعرة الكبيرة والاستمتاع بها. فهي جديرة باهتمام هذا القارئ الجديد، مثلما هو جدير بمعرفتها وقراءتها.

مقالات من نفس القسم