ســعدي يوســف
” قصائد نائية ” هو عنوان مجموعة محمد الأشعري الشعرية، الصادرة في العام 2006 عن دار توبقال للنشر، بالدار البيضاء. تقع المجموعة في ثمانين صفحة، وستٍ وعشرين قصيدة تعتمد في مُعظمِها قصيدةَ النثر شكلاً.
يبدو لي، من الارتطام الأول بالعنوان ” قصائد نائية “، أن صاحب المجموعة ذو رأيٍ ما في ثنائية النأي والاقتراب، وبخاصة في ما اتّصَلَ بالنصّ الشعريّ، وربما حاولتُ أن أجد تبريراً لهذه التسمية في زعمي أن طبيعة الاقتراب التي تمنح المجموعة لونَها، هي من نمطٍ مختلفٍ، نمطٍ قد يبدو نائياً لفرطِ اختلافه. أي أن الاقتراب هنا، أُلْحِقَ بالنأي.
قد يمكن القول إن هذا الـحُكمَ ربّما أصدرَه قاريءٌ ألِفَ تقليداً معيّناً في تبلورِ الثنائية المذكورة ِ نصّاً شعرياً، لكنه، أي الـحُكم، ليس صادراً، بالتأكيد عمّن كتبَ ” قصائد نائية “.
رأيي هذا ينطلقُ من متابعةٍ أمينةٍ للجهد المبذول في تأسيس علاقة : علاقة بين شخص وشخص، وعلاقة بين شخص ومُعْطى طبيعةٍ.
ثمّتَ جهدٌ مرموقٌ في رأب الصدعِ، في الصلة، في التخلّص من رهَقِ النأي، في الاندماج بالعالَم بالرغم من فداحة العوائق.
من السهل تأسيس علاقة، عبر العامّ، والشائع، وإعلاءِ الشعار.
هذه السهولةُ رفضَها الأشعريّ ؛ ومن هنا جاءَ التأكيدُ على النأي احترازاً، وتخوُّفاً من اللُبْسِ، ومجاهرةً بالاختلاف.
وهاهوذا، يتابعُ ” خيطاً واهياً يربط بين اللفظ والمعنى ” – ص22 من قصيدة ” مشارف نائية “.
وسيظلّ يتابع هذا الخيط الواهي، بعنادٍ عجيبٍ، حتى لو ألَحَّ الموضوعُ إلحاحاً، كما في القصيدة الأخيرة ” مدافن بابل ” وهي مرثيةٌ لبغداد.
*
في قصيدة ” مثل طفلٍ باغَتَه الثلجُ ” ص 24-27، اشتغالٌ جادٌّ على تأسيس العلاقة عبر الحواسّ
( وهو أمرٌ طال ما أخطأه الشعراءُ فأخطأوا سبيلَ الشعر ).
محمد الأشعري في هذه القصيدة يبدأ أوّلاً بحاسة اللمس :
منتفضاً من رعشةٍ خفيفةٍ
تنتابني رغبةٌ أولى
مثل رغبة الحياةِ في بذرةٍ منسيّة
أن أمدّ أصابعي مفتوناً وهادئاً
وألمس الجبل.
ص24
ثم تأتي حاسّةُ البصر :
الثلجُ بكاءٌ جامدٌ
يصلُني حيث تسقط الشمسُ مغسولةً
وينبت الضوءُ كأعشابٍ مقلوبة الجذور.
ص25
والآنَ حاسّة السمع :
الصوتُ يقول اسمي
مفصولاً عني
كأن الصوت وحده
سيدفع الباب
ويفسح للعابر ممرّاً نحو صمتي.
أسمعُه متقطعاً، بعيداً
وأسمعُ خطواً يمضي نحوه
بحذاءٍ ثقيلٍ يرنّ معدنُه في ممراتٍ لا أعرفُها
ولكني أحدسُها من الصوت
معقوفةً كممرات الصوامع
أتبعُ الرنين واجماً
لا أتوقّع أبعدَ منه
ولا أقربَ
وأدفنُ كل حواسي في الرنين وحده.
ص26-ص27
*
العلاقة البشرية، أعني العلاقة بين شخص وشخص، رجلٍ وامرأةٍ مثلاً، لها مداخلُ عدّةٌ، فنّيّـاً.
المدخل الإيروتيكي إلى هذه العلاقة، يفترضُ مُسْبَقاً أن تلك العلاقة قائمةٌ. وعلينا، فقط، أن نتابع كيف أن العلاقة قائمةٌ بالفعل. نحن ننتظر ُ المشهَدَ، حسبُ.
لا يعني هذا أيّ إقلالٍ من شأن الشعر الإيروتيكي.
إنها محاولةُ تصنيفٍ فقط.
*
في القصيدة الأولى من المجموعة، القصيدة المعنونة ” مكانٌ فسيحٌ… حيث لا أحد ” ص5، استغراقٌ في عمليةٍ شاقّةٍ لتأكيدِ علاقةٍ طافيةٍ على السطح.
ثمّتَ مسعىً إلى أن تكون العلاقةُ أغورَ عمقاً، وأقلَّ عاديّــةً.
المسعى، كسؤاله، صعبٌ فنّياً، في الأقلّ :
جالساً
في أقصى السرير
حيث أزهارُ الـمُلاءةِ صامتةٌ
وترسل الشرفة خيط مصباح بعيد
بينما يدي خلف خصرِها
تمتدّ من جسدي إلى غيمِ هجْعتِها.
كم سنحتاج من كلماتٍ ملقاةٍ
في سماء الغرفةِ
مترددة
مبتورة
قبل أن نعثر على الجملة التي تهوي
يَتبعُها الماءُ والترابُ
وأصواتٌ مكتومةٌ.
تَعَيَّنَ على كاتب النصّ أن يتقدّمَ، مستغرقاً المسافةَ بين الصفحة الخامسة ( حيث مبتدأُ القصيدة ) إلى الصفحة الرابعة عشرةَ ( حيثُ المبتدأُ الآخرُ للقصيدة ) كي يقول :
جالساً في أقصى الســرير
أعدُّ نبضي
وأنظرُ صوبَ نافذةٍ
في الجهة الأخرى من الشارع
حيث ينمو ضوءٌ خافتٌ
بينما تتساقط في السرير نفسه
أوراقٌ باردةٌ من شبح الخريف.
أردتُ أن أقولَ إن التواصلَ سيظلّ عسيراً، وإننا سنحاول أبداً، تحقيقَ غيرِ المتحقق : اندماجِننا حتى مع مَن نحبّّ !
*
القصيدة المهداة إلى محمد القاسمي، وهي تنهل من فنِّــه، تعود بالسؤال إلى بدايته :
أن الرجل المترنح
ربما سقطَ
من شُــرفةٍ بعيدةٍ !
ص16
*
بعد قراءتي الخاطفة لـ ” قصائد نائية “، أشعرُ بالفخر لأننا مترنِّحون…
فالشرفة البعيدة تظل بانتظارِنا.
ومَن يدري…
عسانا نظلّ بها متشبِّثين !