قبل تشييع الجنازة.. في وداع مهنة الصحافة».. سعد القرش يحذّر من النفعيّة والارتهان عنوانًا لهذا الموات

قبل تشييع الجنازة.. في وداع مهنة الصحافة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. سمية عزام
يتناول الكاتب في عناوينه الستة والعشرين التي تضمّها دفّتا الكتاب (160 صفحة) معنى الصحافة: كتابةً، ديناميّة، دورًا، وأهميّة في أبعادها الاجتماعية الإنسانيّة، والسياسيّة ضمنًا، بوصف الإعلام مرآة لأحوال الأمّة، والسياسة نشاطًا مؤسّسًا لمفهوم المجتمع المدني في كيان حضاري اسمه دولة. هذا الكيان، وإن كان مستقلًا، فهو غير منفصل عن محيطه في القضايا الإقليميّة، وفي الشؤون العالميّة، من همّ إنسانيّ مشترك؛ خصوصًا أنّ مهنة الصحافة ارتبطت بالحداثة والتطوّر كما يؤكّد سعد القرش مردّدًا مع أحمد شوقي قوله: «لكلّ زمان مضى آية/ وآية هذا الزمان الصحف».
تأتي طروحات الكتاب – وإن جاءت إضاءة على الحالة المصريّة الخاصّة ووضعها الصحافي – في سياق تاريخي لحريّة الإعلام والرأي في سيرها القهقرى، كأنّما جاءت بمنزلة إنذار بما يحدث تباعًا من إقفال مؤسسات إعلامية وصحف عربيّة عريقة، «الحياة» و«السفير» على سبيل التمثيل لا الحصر، وتحجيم صحيفة «العرب» اللندنيّة دور الاستكتاب في ظلّ الظروف المستجدّة. أذكر ذلك لأنّ فصول الكتاب (الصادر عن دار ابن رشد 2020) قد نشرت بمعظمها مقالات في الصحيفة المذكورة أعلاه، بتوثيق التواريخ في الهوامش، عدا مقالين اثنين: في فصل الختام، بعنوان «عهد جديد، قديم إلى حدّ ما»، وهو افتتاحيّة أول عدد في مجلة «الهلال» في عهد القرش لرئاسة تحريرها (آب/أغسطس 2014- حزيران/ يونيو 2017)، و«مئويّة الشيخ زايد في«الأهرام» تثير شجون المهنة» وقد نشر في موقع «الدستور» القاهريّة.
يستحضر الكاتب عَلمًا فكريًّا مستنيرًا ينتمي إلى نهايات القرن التاسع عشر، هو الإمام محمد عبده بإصلاحاته في جريدة «الوقائع المصريّة» (تأسّست عام 1828) ليعقد مقارنة بين حال الصحافة آنذاك ومآلها على يد الإمام عبده الذي «رأى أن يكسبها طابعًا مهنيًّا شائقًا إضافة إلى حسن الانتقاد». فغدت صوت الشعب، تسهم في «التوعية بدور مؤسسات المجتمع المدني»، وبين مصير يحذّر منه، حين لم يعد يأبه للصحافة الورقيّة جيل اليوم، وهو جيل بات «لديه وسائل إخباريّة ومعرفيّة متطوّرة ومتجدّدة ومتجاوزة لضيق الأفق».
وتحت عنوان «معضلة التوثيق في الإعلام الإلكتروني» يتناول مسألة شائكة تحتاج بحثًا وجهودًا دوليّة؛ بحيث يلحظ أنّ «الفضاء [الإلكتروني] يبتلع مواد وثائقيّة نادرة، ويمسح أحيانًا ذاكرة إلكترونيّة لمؤسّسات صحفيّة كبرى». وقد أفرزت المواقع الإلكترونيّة للصحف وغيرها، على الرغم من حسناتها العديدة في تسهيل الوصول إلى المعلومات، مخاطر «إفساد جيل من الصحفيّين يستسهلون النقل والتحايل، بإعادة تدوير الأفكار وفقًا لمهارات اللص»، إنّما سهّلت بالمقابل كشف هذا السطو بطبيعة الحال.
يمزج الكاتب في أسلوب كتابته المقاليّة بين التجربتين الذاتيّة والعامّة. وغالبًا ما ينطلق من الحيّز الخاصّ به، لا ليبقى ضمن إطاره، بل لتبيان الفكرة وتعميمها بشاهد حسّي ملموس يثير انتباه القارئ؛ والإنسان يتّعظ، منذ فجر التدوين، من الأمثولة ويرغب بالخبر- القصّة، لا بالخطاب الوعظي الإرشادي المباشر الذي ينكره القرش، ولا يتوانى عن تفنيد مساوئه. فهو إذا تحدث عن تجربته في رئاسة التحرير لمجلة الهلال، وكيفيّة بلوغه هذا الموقع بغير منّة من أصحاب السلطة والنفوذ، فذلك لكي ينبّه إلى ضرورة الاجتهاد والقلق المعرفي، وإلى أهميّة الموهبة في هذه مهنة. كما أنّه في فصل الافتتاح «ما يشبه المقدمة رئيس التحرير.. أي إغراء في اللقب؟» يتسرّب إلينا يقين الكتابة بوصفها قيمة، ومهارة صنعة (وليس تصنّعًا)، وفائض حبّ، مخفّفًا من مغالاة البعض في الرؤية إلى لقب «رئيس التحرير» شيئًا عظيمًا. وتتّضح رؤيته – براغماتيًّا وليس تنظيرًا – إلى الأمانة في حمل القلم، والنزاهة لتولّي المنصب، حين يختم الفصل بالقول: «أبدأ تجربة رئاسة تحرير «الهلال» غير مثقل بأي فاتورة.. لا أخجل من مقال كتبته، ولا أضطر إلى أن أطويه طيّ السجل».
ومن مزايا النسق الكتابيّ الأسلوب الساخر في نقد صريح بغير مواربة، أو مهادنة بما يتّفق والمصالح الشخصيّة. يؤكّد ذلك مجانبة الكاتب الإقذاع، وعدم إيراده أي واقعة – لإبداء الرأي حيالها – عارية من دليل يعضدها، فلا يتّصف كلامه بما أدرجه من قول: «سخرية تلخصها كلمتا «كلام جرايد»». وقد أصاب نقده مناحي الحياة كافّة، في الخطابات الديني، والسياسي، والثقافي، انطلاقًا من الإعلامي؛ فأهل البيت أولى بالإصلاح والعبور نحو الأفضل. تكفي بعض العناوين.. وربما يتجلّى في العنوان الآتي: «رئيس التحرير.. اصطناع الغضب ليكون أكثر ترؤّسًا» ملمحًا من ملامح رصانة موقفه. ونقتبس من النص المعنون «استباقًا لمنتدى شباب العالم2018 تأميم الأجواء بإعلام ديني» بما يشي بالتهكّم المزدوج السياسي/ الديني، ناطقًا باسم شعب بات لديه حصانة ضد «الإعلام التعبوي»: «إذا كان توحيد الخطاب الإعلامي جعل المواطن يزهد عن متابعته، فإنّ تأميم خطبة الجمعة قد يصرفه عن الصلاة».
يندّد كذلك الأمر، بالإغراق في المحليّة حين أشار إلى ندرة الحضور العربيّ في مجمل الصحافة المصريّة، تحت عنوان: «مصر لؤلؤة في محّارة محكمة- الصحافة مرآة للانغلاق»؛ غير أنّه جعل من مجموع فصول كتابه سجلًّا تأريخيًّا للأحداث والأسماء والتواريخ لتشهد على مرحلة. ولم تكتفِ برصد الراهن، بل ثمة حركة ذهاب وإياب دائبة في الاتجاهين، ماضيًا ومستقبلًا، لحبك القراءة النقدية للمواقف ولما بعد الحدث. وهو ما ينتسب إلى ما نظّرت فيه «مدرسة الحوليّات»، خاصة أنّ هذا المنجز غير منفصل عن كتابين صدرا سابقًا لسعد القرش، «الثورة الآن.. يوميّات من ميدان التحرير» (2012)، و«سنة أولى إخوان»(2014)، فتشكّل معًا علامة فارقة في زمانها وفق ما أطلق عليه الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل«روح العصر».
 

مقالات من نفس القسم