أحلام ممنوعة.. حين يكون العجز سيد الموقف

أحلام ممنوعة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عاطف محمد عبد المجيد

كان يمكن لـلكاتبة نور عبد المجيد أن تُسمي روايتها ” أحلام ممنوعة ” التي صدرت منها عدة طبعات عن مكتبة الدار العربية للكتاب بـ ” مأساة أنثى “، وكان هذا العنوان سيكون أكثر اتساقًا، من وجهة نظري، مع محتوى الرواية ومتنها، إذ تحكي الرواية مآسي عدد من النساء اللاتي تعذبنّ كثيرًا في حياتهن، ولم يرين فيها، تقريبًا، يومًا سعيدًا واحدًا. المأساة الأولى هي مأساة نجية، زوجة جابر الذي فقدَ رجولته منذ سنوات، ولم يعد قادرًا على أن يكفيها لا جنسيًّا ولا ماديًّا، بعد أن عجز عن توفير متطلبات الحياة لزوجته ولولديْه، وكانت تُضطر للعمل كخادمة، كي تحصل على نقود قليلة، لتشارك بها في نفقات البيت والأولاد. نجية، رغم عجز زوجها هذا، كانت ترى أن الرجل الحقيقي هو من يمنح كل ما يكسبه لأبنائه، وإن كان هذا على حساب ملابسه وأدويته..الرجل لا يترك أبدًا ابنته التي تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا تخرج إلى المدرسة بحذاء ممزق، ليشتري بالنقود كبسولة زرقاء، أو ” صاروخ ” من العطار: ” هل يتغير لون كل الأشياء التي يطول استخدامها.. هل تصبح مثيرة للاشمئزاز..هي مثل إناء الشاي هذا..تسعة عشر عامًا زوجة وأم..هل أصابها الصدأ أو أكلتها البارومة”. 

 لقد وصل الحال بنجية إلى أنها رأت الحمار أكثر جمالا وكرامةً منها..الحمار لا يحيا مع جابر الذي يجردها من ملابسها كل ليلة، ويتجول فوق جسدها ثم يتركها، تارة وهو يلعنها وتارة وهو يبكي، كأنه يستغيث منها، وكأنها وحدها عجزه.والحمار كذلك لا تلعنه ابنته إن تمزق حذاؤها، ولا يلعنه ابنه عندما يرى صحن الطماطم اليومي وقطع الجبن.المأساة الثانية عاشتها وداد الفتاة المتفوقة، ابنة نجية وجابر، والتي لم يستطع أبوها أن يفي بمصاريف تعليمها، حتى إنها تذهب إلى مدرستها بملابس رثة وبحذاء قديم كله ثقوب.ورغم هذا كافحت واجتهدت وذاكرت حتى التحقت بكلية الطب. ولم تنتهِ المعاناة بعد دخول الجامعة، بل بدأ وجه جديد لها: ” تفوّق وداد..ذكاؤها..أبحاثها ودراساتها هي ناقوس خطر، يدق في وجه أبنائهم الذين ألصقوهم بمقاعد الكلية، ويخططون لإقحامهم هيئة التدريس.كل طالب يتفوق، ويعمل بأمانة وشرف، هو عدو يجب أن يحاربه كل أستاذ له ابن أو ابنة يريدها أن تصبح مثله أستاذًا في القسم.

والمأساة الثالثة لسيدة، أم مرزوق الحلوجي، التي باتت قعيدة ولا تتحرك إلا على كرسي متحرك، ويحزنها أن ابنها الوحيد مرزوق لم يُرِدْ أن يتزوج، رغم أنه رفض فكرة الزواج حتى لا يأتي لها بزوجة قد تضايقها، أو لا تقوم على خدمتها كما ينبغي.

أما المأساة الرابعة فهي لوزة التي اضطرها مرض أختها الصغيرة، وبعد أن ابتزها الطبيب المعالج، إلى أن تنحرف وتعمل عاهرة، تنام كل يوم في حضن رجل مختلف، حتى توفر نفقات علاج أختها، رغم أنها تؤنب نفسها وترى حرمة هذا وترفض أن تذكر اسم الله على لسانها لأنه ليس طاهرًا بالمرة مثلما ترى هي: ” لن تقول يا رب أبدًا..قد يغضب الله كثيرًا إن ذكرت اسمه على شفتيها..لا يجب أن تقولها أبدًا “.

لقد عانت كثيرًا في رحلة حياتها وعُوملت بشكل سييء من كثيرين أكلوا لحمها وبعدها ألقوا بها إلى الشارع: ” أقسمت ألا تتعامل مع العرب أبدًا..لكن من قال إن المصريين لن يفعلوا بها ما فعله ذاك الدنيء..الطبيب الذي ساومها على شرفها لقاء شهر من جلسات علاج لأختها كان مصريًّا..الدناءة ليست لها هوية أو جنسية “. 

كل هذه الشخصيات التي نلتقيها في أحلام ممنوعة أكلت وشربت من الأوجاع والمآسي اليومية، حتى لحقت بها، من جراء ما أصابها، حرائق هائلة، اسمها حرائق اليأس والحقيقة.

العجز قاتل

أحلام ممنوعة التي تأتي أهميتها من أنها تسلط الضوء على بقعة من بقاع المناطق الشعبية التي لا تكاد تجد ما تسد به رمقها، دائرة في فلك العديد من المشكلات والأمراض المجتمعية والجسدية التي تنخر في عضد المجتمع كالسوس، تناقش مشكلة الفقر والعجز ” العجز..العجز يا نجية قاتل “.. ” إنه عاجز..عاجز عن كل شيء إلا التفكير في..”، ليس عجز الإنسان جنسيًّا فقط، بل عجزه عن القيام بكل ما هو مطلوب منه، عجزه عن توفير سُبل حياة كريمة لأسرته، عجزه عن الحصول على فرصة عمل آدمي، لا مهانة فيه ولا ذل، عجزه عن إصلاح وتربية أبنائه.

الفقر الذي يحل ضيفًا ثقيلا هنا، ويخيّم على أجواء الرواية ويفتك بمعظم شخصياتها، مردّه أن ثمة أثرياء جشعين نهبوا حقوق الفقراء ومنعوهم منها حتى أُتْخِموا ثراءً، مما خلّف تفاوتًا شاسعًا ما بين الطبقات، طبقة الباشاوات الأثرياء، وطبقة الفقراء المعدمين.هذا التفاوت أثّر أيضًا على غياب العدل ومعاملة الناس حسب موقفهم من الثراء، هل ينتمون إليه أم أُبعدوا عنه: ” الفرق كبير..كبير جدًّا..حتى العدل فتح عينيه، أصبح ينتقي جيدًا مَن يوقع عليهم أحكامه “. 

 لكن هل يفتخر الناس بصداقة العلماء والناجحين، مثلما تتساءل وداد، أم يفتخرون بالأثرياء ولا يعرفون سواهم؟

التحدي

غير أن الرواية لا تتجه ناحية المناطق المعتمة في المجتمع وحسب، بل تُظهر حالة التحدي التي عاشتها وداد، الفتاة التي كان ترتيبها الأول على المحافظة في المرحلة الاعدادية، رغم أنها نشأت في بيت فقير، بين أم وأب جاهلين، طحنهما الفقر والاحتياج، حتى صار طعامهم الدائم قطعًا من الطمام والجبن: ” وإن لم يعد بنقود، أو إن أنفقها فليناموا جميعًا جوعى..مازالت هناك بعض حبّات الطماطم وقطع الجبن “.

نور عبد المجيد تناقش كذلك مشكلة أخرى مهمة وهي مشكلة الجهل الذي يؤدي بالإنسان إلى أن يفعل كل الأخطاء والخطايا، حتى إن الراوية ترى النار مثوًى للجهل والجهلاء: ” تدرك جيدًا المشكلة التي يعانيها والدها.. مشكلته ليست مرضه وعجزه عن أن يكون رجلًا، لكن مشكلته الحقيقية أنه بلا علم..لو كان لأصبح عجزه عن مضاجعة أمها تمامًا كهذا الثقب الصغير في ملابسها..يزعج لكنه لا يقتل..يؤلم لكنه لا يمنعها عن الخروج والحضور إلى المدرسة، واجتياز الاختبارات بهذا التفوق”. 

إلى جانب هذا لا تدعو نور عبد المجيد في أحلامها الممنوعة إلى حب الأشخاص، بل تدعو إلى حب الرموز: ” أخبرها أنه تعلّم أن حب الأشخاص خطأ..حب الأسماء خطأ..حب الرمز وحده هو الصواب..وأن هناك رموزًا كبيرة، يجب أن تكون هي عشقنا الحقيقي وهدف حياتنا..هناك رموز اسمها الوطن..الحرية..العدل.لو عشق كل واحد منا رمزًا منها ووهبه وفاءه فإن خارطة الأرض ستتغير “.

عالم يكسوه الفساد

في أحلام ممنوعة ترصد نور عبد المجيد تفاصيل حياة الفقراء وعجزهم وضغط ظروف الحياة عليهم، وضياعهم في عالم يسيطر عليه الأثرياء وأصحاب السلطة، عالم يكسوه الفساد ولا يعرف رحمة بأحد، كما يغيب العدل عنه، حتى إن الفقير يضيع عمره باحثًا عن حقه ولا يصل إليه.غير أن أحلام ممنوعة التي تصور أن الفقراء لا يجوز لهم أن يحلموا بأي شيء، بل عليهم فقط أن يرضوا بالفتات الذي يتركه الأثرياء لهم، ترى أن هناك أيضًا مناطق مضيئة على ظهر هذا المجتمع، وما زال ثمة أمل يمكن التشبث به وعدم التفريط فيه رغم قسوة الظروف المحيطة، ورغم توحش الآخرين. أحلام ممنوعة التي تنتهي زمنيًا مع انبثاق ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وما حدث فيها وتوابعها، وتُنهيها الكاتبة بمقطع من قصيدة ” لا تصالح ” الشهيرة للشاعر الراحل أمل دنقل، تريد أن تقول باختصار: الواقع سييء للغاية، لكن ليس علينا أن نستسلم لما يحيط بنا، وعلينا أن نقبل التحدي لنصل إلى ما نريد، مهما كلّفنا هذا التحدي من معاناة، أو عذاب، ومهما وضع الآخرون، أيًّا من كانوا، من عراقيل وعقبات، يحاولون بها تعطيلنا عن السير في طريقنا التي رسمناها لأنفسنا، أو إقصاءنا من المشهد الحياتي بشكل نهائي.

 

مقالات من نفس القسم