شبورة مجتمعات ما بعد الهزيمة.. قراءة في رواية “حندوق وشبورة اسكندرية” لأحمد الشريف

حندوق وشبورة اسكندرية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.عبد النور مزين*

بالرغم من أن شخصية حندوق متولي لم تظهر إلا في الصفحة 17 من الرواية وبدون ذلك الحيز الكبير المهيمن داخل النص، إلا أن دورها الرمزي استطاع أن يركز كنه المجتمعات التي أفرزتها الهزيمة وخاصة المجتمعات التي تعهدتها أنظمة آتية على أظهر الدبابات ملوحين بالآمال والتي سرعان ما آلت إلى خيبات تلت خيبات. حندوق بدا في الرواية وكأنه متزعم للعائلة وهو واجهتها المعلنة، بالرغم من أنه وإخوته يملكون مطعما وعدة محلات.

 ” سعد يعرف معظمهم(الزبائن)، يتكلمون عن آخر معارك حندوق متولي. حندوق ً وأخوته، لهم مطعم وعدة محالات بقالة، دائما يتعارك ويتشاحن مع العمال والزبائن، مدمن للحشيش والأفيون، يحبً مشاكسة الناس جميعا، خاصة النساء، معاركه لا تنتهي يشتم ُ ويضرب غالبا، لكن المعركة الأخيرة كانت ساخنة.[1]

هذه هي الصورة التي ظهر بها حندوق نيابة عن مجتمع إخوته الذين ظلوا خارج الصورة كأنهم موجودون دون وجود فعلي مؤثر في مجريات الأحداث، تماما كباقي مواطني مجتمعاتنا. بقية الشخصيات والأحداث تفاصيل مختلفة لحيوات تلك المجتمعات والتي في مجملها طبقات شعبية بشخوصها الهشة والمتشظية ابتداء من الراوي الذي تخرج بشهادة جامعية في علم الفلك الذي وإن تشابه فيما يخص حقول المعرفة مع علوم الذرة كحقلين مختلفين من علم الفيزياء، إلا أن علم الفلك الذي اختص فيه الراوي يحيلنا إلى أحلامنا، على اعتبار أن القمر، برمزيته وكذلك بتصدره للوحة الغلاف كإحدى عتبات النص، أقرب أجرام السماء إلينا. لكن الراوي او البطل إن جاز التعبير، لم يجد في القاهرة التي “أصبحت” “كابوسا تذكرني بكوارث الأرض ونظرية فناء الكون[2]، مكانا لتحقيق أحلامه ليضطر للرحيل عنها إلى الإسكندرية ويقيم أول الأمر في بيت الشباب حيث النافذة المطلة على مقبرة. هناك، وبدل أن يتمكن من الاشتغال ضمن تخصصه، يضطر الراوي، وعبر وساطة صديقه السكندري سعد، العسكري الذي تعرف عليه في القاهرة حين كان يشتغل معه في سوبر ماركت، خلال إجازته من الجيش، للعمل كموزع لأنابيب الغاز، رفقة زملاء آخرين مثل رضا، الموظف الحكومي كنيش، زيزو أو طه، تحت رحمة أعين مفتشي التموين. كل هذه النماذج الاجتماعية تشترك في المصائر نفسها المتميزة بالبؤس والتشظي وانسداد الآفاق أمامها لتلقي بها الحياة إلى دوامة الهامش التي تنتفي فيه الأحلام والكرامة. فسواء كانوا خريجي جامعات أو عناصر في الجيش أو موظفي حكومات، أو مستخدمين، تسحقهم آلة المجتمعات التي تعهدتها أنظمة ما بعد الاستعمار ليستحيلوا إلى كائنات معدومة الآمال بلا أي أمل في التغيير وتبني القيم المجتمعية التي طالما تغنت بها نفس تلك الأنظمة كالحرية والديمقراطية والتنمية والكرامة الاجتماعية.

هكذا تبقى فلسفة حندوق متولي كناطق رسمي عن ماهيات هذه المجتمعات، على اعتبار أنه الوجه البارز في الواجهة على عكس إخوانه، وقيمها التي زرعتها هذه الأنظمة والتي تتجلى في الأنانية والطموح الشخصي الميكيافلي، الخالي من أي قيم، كرد فعل على واقع هذه المجتمعات. فإدارة مشاريع عائلة حندوق متولي وأولاده يتم عبر علاقات العنف، حتى أنه سمى أحد أولاده بالبطش، والمكائد وتجارة الممنوعات والعلاقات المشبوهة بما يستتبع ذلك من هزائم تتبعها انتقامات وثأر وشبه انتصارات مؤقته تصل في مراحلها القصوى إلى أقصى درجات الهزل والمأساة حيت ترفض زوجته معاشرته على اعتبار أنه لم يعد فحلا، من كثرة الكيف والحشيش. “عادت زوجته إلى هدوئها بعض الشىء، وقالت جملتها الأخيرة بعد أن أعطته ظهرها واتجهت إلى غرفة النوم وأوصدتها دونها: خلينا زي أخ وأخت حندوقه! . [3] لكن هذا المآل الدرامتيكي لحندوق متولي ينسجم تماما مع مصائر باقي الشخصيات وانطلاقا من الأحداث التي ترسمها الرواية بتلك السخرية السوداء من واقع مجتمعاتنا في الفترة التي تلت الهزيمة والمراحل التي جربت فيها مجتمعاتنا أنظمة البزات العسكرية وكل ما لوحت به من أمال وردية لتنتصب خرائط الخراب حيثما أقامت تلك البزات أنظمة وباشرت حكما.

فمن سعد ورضا كعناصر للجيش التي تبحث عن اشغال يدوية أخرى كتكملة لمقومات الحياة، إلى البطل الذي ترك علوم الفلك لينتقل من موزع سري لأنابيب الغاز تحت مطاردة مفتشي التموين إلى العمل المؤقت في ملصحة البريد لفرز الطرود والرسائل، إلى كنيش، الموظف الحكومي الذي ينخرط في توزيع أنابيب الغاز سرا، إلى رضا التواق إلى الرسم والفنون التشكيلية والذي لم يتوفق في دخول المعهد نظرا لمعدله غير الكافي فظل يشتغل بطريقته الخاصة مستعينا بفنان سكندري الذي يستغله لإنجاز لوحاته لتنتقل العلاقة من الفنون التشكيلية إلى العلاقة مع زوجة الفنان. إن كل هذه المسارات المعطوبة والأحداث المتصاعدة داخل تلك الأوساط الاجتماعية الهشة والمهمشة قد تسعفنا في سبر أغوار رمزية البحر والشبورة في هذا المتن الروائي. فمنذ البداية هناك تلك الحركة الدافعة من المركز نحو الهامش. من القاهرة التي “أصبحت … لا تطاق” نحو الإسكندرية بضبابة البحر والشبورة.

المسارات المعطوبة قد لا تجد تفسيرا مباشرا لها في حيوات الشخوص، لكن تتجلى بشكل واضح في أنماط المجتمعات التي بنتها وأدارتها تلك الأنظمة التي تولت إدارة الأمور بعد أن قدمت على ظهور المجنزرات حاملة أمال الوهم بالخلاص. فبالإضافة إلى دورها المبطن في انكسار أحلام البطل وباقي الشخصيات الرئيسية في الرواية، يأتي دور السخرية السوداء كصرخات فاضحة لطبيعة تركيبة هذه الأنظمة وبالتالي طبيعة العلاقات الاجتماعية التي هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن هندستها. ولعل أبرزها التي تظهر جليا داخل الرواية، هي المرأة والقمع والإقصاء الاجتماعي التي ولَّد ما اصطلح عليه بالتطرف والتفاهة والتفسخ.

يقول الراوي : “وصلت محطة الرمل، مشيت مع السائرين هنا وهناك، من شارع سعد زغلول إلى صفية زغلول إلى شارع فؤاد أو الحرية”[4]. هذه الأسماء ليست اعتباطية نظرا لحمولتها الفكرية والنفسية في المجتمع المصري. سعد زغلول، صفية زغلول، شارع فؤاد أو الحرية. وكون الشارع له إسمان يدلان عليه يعني الكلمتان لهما من المعنى ما يفيد التطابق. الفؤاد والحرية. والراوي هنا يسير مع السائرين في مساراتهم بعد أن وصل إلى محطة الرمل، مؤكدا في جملة سابقة أنه يسير في الاتجاه الصحيح : “نزلت وأخذت الترام في الاتجاه الآخر، هذه المرة الترام الصحيح في الاتجاه الصحيح”. هنا يؤكد الروائي أحمد الشريف أن هذه المسارات التي تأكَّد من صحتها ومن أهميتها نظرا لرمزية الأسماء التي تحيل عليها، أوصلته إلى مقطع آخر أكثر دراماتيكية من مجرد الخطأ في خطوط الترام، لأن هذه الأخطاء البسيطة يمكن إصلاحها بسهولة عبر أخذ خطوط الترام الصحيحة. لكن ماذا يمكن للمرء أن يفعل غير التشرد والجنون والانكسار عندما لا تكون المسارات البديلة للسياسة والمسارات الاجتماعية بذلك اليسر والمحطات بتلك الرمزية.

أمام أحد محلات الزهور والورد وقفت مع الواقفين أشاهد ما يحدث، في منتصف الشارع رجل بملابس رثة يمشي بعرج وتعثر، ً يصرخ ويتكلم بلغة فصيحة، يا ناس يا أخواتي لقد كنت محامياً نشيطا بارزا، لي مكتب وأسرة. هذا حالي. يشير إلى ملابسه ويخلع حذاءه المهترئ ويرفعه لأعلى ليراه المارة. أريد أن أشكو حالي إليكم وأحدثكم عما فعله هذا الرجل الجبار بي، لقد حاولت أن أقف أمام تعديه على الممتلكات العامة وعلى فساده وجشعه، فسلط علي رجاله من المخبرين والشرطة السرية، أغلق مكتبي، حاصرني في بيتي وجعل زوجتي تتركني وتطلب الطلاق، انفض عني أصدقائي، شكوته لمن هم في سلطة أعلى منه بلا جدوى، طلبت العون والمساعدة مرا ًرا وتكرا ًر ً ا ولا من مجيب. أخيرا حاولت الفرار والهرب من ظلمه، فألقى القبض على بتهمة لا أعرفها، ألقى بي في السجن أذاقني صنوف العذاب وشوه جسمي، اريدكم أن تساعدوني كي آخذ حقي من هذا الرجل الذي قد قلبه من حجر ما أطلبه هوالعدل والقصاص[5]

العدل والقصاص هما بيت القصيد. أكيد أن حكاية ذلك المحامي التي استمع اليها الراوي وهو على مشارف أسماء شوارع وازنة من عيار “سعد وصفية زغلول” أو “الفؤاد والحرية” لم تتركه كما كان وهو يتوهم أنه يسير هذه المرة على “الترام الصحيح في الاتجاه الصحيح.” نهج سعد زغلول وصفية زعلول ونهج الفؤاد او الحرية. هكذا كونت هذه الأحداث العابرة في ظاهرها في المتن الروائي نقاط ارتكاز رئيسية لفهم انكسار وتشظي مسارات شخصيات الرواية، لأنها بكل بساطة ووضوح تشكل الخلفية السياسية التي أنتجت تلك المسارات، مسارات مجتمعاتنا خلا الفترات التي تلت النكبة وما أعقبها من أحداث وأحلام وأوهام.

إن هذا القهر الذي أوصل المحامي إلى تلك الحالة من الانكسار التام والنهائي دون أي أمل في ” العدل والقصاص” له وقع مضاعف على الراوي وعلى القارئ معا. إن سؤال “العدل والقصاص” له بعد عميق في نفسية المرء في مجتمعاتنا، إذ يشير في الآن معا إلى الغياب بما يعنيه ذلك من انكسار وتشظي مادي واقعي وفلسفي معنوي في ارتباط بمفهوم العدالة، وإلى “العدل والقصاص” في ارتباطه الديني وإذن بالتأجيل “للعدل وللقصاص” كأجل آت لا محالة. الوقع الثاني الذي يزيد الطين بلة والأمور تعقيدا لدى الراوي والقارئ معا هو ذلك الظلم والانكسار المضاعف وانعدام الحيلة لأن الضحية هو في الأصل محامي من منظومة العدالة نفسها.

إضافة إلى حكاية المحامي، حكاية إبراهيم جابر في المتن الروائي بقدر ما فيها من السخرية السوداء من الهوس المرضي من الأصوات المعارضة حتى وإن كانت تصب في مصلحة هذه المجتمعات عينها، فيها من التعرية لذلك الوهم التي انطلى على فئات عريضة أن مسارات التنمية والتقدم قد تأتي على أيدي من قدموا للسلطة على ظهور دبابات، ليس في مصر وحدها بل أن نظرة بسيطة على خرائط الخراب تستطيع أن تلقي الأضواء الكاشفة على أحشاء مجتمعات مشرعة لعقبان الغرب والامبريالية. إبراهيم جابر عامل الجمرك بميناء بالإسكندرية صدق أواخر الستينات أم محاربة الفساد والسرقات داخل مستودعات الميناء ممكنة. فقام بواجب التبليغ وكتابة الرسائل للمسؤولين بمختلف مستويات التسلسل الإداري، دون التوصل بأي رد أو إيقاف مسلسل السرقات. فقرر كما كان سائدا وكان جابر من المصدقين لذلك، أن يقدم على تلك الخطوة الحاسمة:

“(كتابة خطاب للرئيس جمال عبد الناصر) حينها كان المواطنون يرسلون خطابات للرئيس، إبراهيم لم يكتف بخطاب واحد أو اثنين أو حتى ثلاثة كعادة المواطنين، بل كتب خطابا كل يوم، وفي أحد الأيام وهو خارج من الميناء انقض عليه اثنان وضعاه بالقوة في سيارة وعصبا عينيه وأخذه إلى مكان حتى الآن لا يعرف أين؟ أنهك جسده من الجوع والضرب المستمر فلم يقدر على الحركة، كانت هناك كلاب مدربة تضع فكيها بين فخذيه وتجرجره على الأرض حيث يجلس الجلادون، في حومة
الضرب والتعذيب كانوا يسألونه لماذا يرسل خطابات للرئيس؟ من الذي كلفه بفعل ذلك؟ من وراءه؟ هل هو شيوعي؟ إخوانجي؟ جاسوس؟ ثم سألوه عن اسمه الحركي، كانت تلك هي المرة الأولى التي يسمع فيها أن له اسما حركيا: اسمك الحركي يا ابن الكلب؟ ليس لي سوى اسم واحد إبراهيم جابر. ازداد جنونهم وأتته الضربات والصفعات والركلات من كل مكان: اسمك الحركي إيه يا ابن الكلب يا ابن القحبة يا ابن… شيء بداخله هداه للإجابة على سؤالهم: المغفل”

بكلمة واحدة يفك الروائي أحمد الشريف شيفرة ولغز وحيرة جيل بل أجيال بأكملها ظلت تلوك أوراق وتشرب مداد حوليات الوحدة. فكان إبراهيم جابر أن أهتدى إلى اسمه الحركي الحقيقي الذي طالما عمل بها سرا وهو يؤمن بمداد الحوليات. المغفل. قال كلمته وصمت كأنه أصيب بالخرس. ونستطيع أن نهمس، دون تردد، في أذن أحمد شريف وعبره في أذن إبراهيم جابر. كلنا كنا مغفلين يا إبراهيم. هذا المقطع من الرواية يظل في هيكليته أقرب إلى القارئ وأكثر ملحاحية في ذلك القلق التواصلي الواضح مع المفكرين حول كنه وخصائص تلك المرحلة التي ارتبطت فيها أسئلة التقدم بالأسئلة التغيير وأسئلة الديمقراطية بجزمة العساكر التي زحفت بالدبابات على قفا ووعي مجتمعاتنا لتبيعنا وهم الكرامة والمسارات البديلة للهزيمة. إبراهيم جابر ظل صامتا تقريبا على طول أحداث الرواية وذلك في نظري ينسجم مع طبيعة اللطمة التي تلقاها في الوعي الشقي وفي القفا، فكان لا بد ألا يظل مسرفا في الكلام كما كان قبل لطمة الوعي. أن تكون مغفلا عن حسن نية شيء وأن تظل مغفلا شيء آخر. هكذا فطن الروائي أحمد الشريف أن الوعي يؤدي حتما إلى الانصياع إلى التمعن في أصل الجلبة، والصمت أقصر السبل إلى ذلك. لذلك والقارئ يمر عبر مأساة اللطمة والوعي لدى إبراهيم جابر لا يمكن إلا أن يحترم صمته وعدم إسرافه في نشر مأساته من أجل التباهي كما حال الكثيرين ممن مروا من تلك المحن. وقد تمكن الراوئي أن يجعل صمت إبراهيم جابر أكثر تعبيرا عن الصدمة، فجاء الصمت كتقنية رواية بامتياز في التعاطي مع الحادثة ومع تلك المرحلة التي تلت سنوات الستينات.

عندما يتم تسليط الضوء على الإشكاليات التي تتعلق بالمرأة بشكل عام، يطفو على السطح ذلك السيل الهائل من الكتابات والمواقف والتحذيرات والتطرف والمغالاة في أحايين كثيرة من هذه الجهة أو تلك وهي تقارب إشكالية المرأة في مجتمعاتنا، وكأن المرأة خطر داهم على المجتمعات تماما كقنبلة بشرية مشعة عابرة للأزمنة والفئات والديانات والفلسفات وجب التعامل معها بذلك الحذر الشديد الذي يروم التحكم في زر التفجير أو الأمان. وفي هذا الإطار تنافست الأقلام والمرجعيات ومختلف السرديات أكثر مما تنافست في مقاربة أكثر الإشكاليات تأثيرا على مسارات مجتمعاتنا كاندحار وهجنا مع سقوط غرناطة ولاحقا الغزو الامبريالي لجغرافياتنا وثقافاتنا. وليس غريبا أنه حتى في أوج مقاربتنا للظاهرة الاستعمارية يتم استحضار المرأة للتعبير عن الاستعمار كعملية اغتصاب للأرض والعِرض تزامنا مع عملية الخصي المعنوي للفحولة في مجتمعاتنا والتي ما زلنا نحاول، مع الكثير من الخيبات، استرداد الحدود الدنيا من لزمننا المخصي من طرف المستعمِر الغاصب في البداية ثم من طرف تلك الامبرياليات المحلية الهجينة التي تم تخصيب تلك المجتمعات بها والتي تناسلت لاحقا على رقعة جغرافياتنا. لذلك لا عجب أن تجد الكاتب تعامل مع هذه الإشكالية، أقصد إشكالية المرأة، في رواية “حندوق وشبورة اسكندرية” من الموقع المجتمعي العام الذي أنتجته البنيات أحكمت السيطرة على مجتمعات ما بعد الهزيمة والذي لا يختلف كثيرا عن موقف حندوق متولي من قضية المرأة في شكله الكاركاتوري وسخريته المرة والتي أدت في نهاية المطاف إلى الانكسار المدوي لفلسفة الفحولة التي انبنت عليها في إعادة صياغة مأساة خصينا الجمعي من طرف المستعمر الغاصب.

فحندوق متولى لا يرى المرأة عموما إلا كامتداد لبعده الجنسي الخاص به وفلسفته التي تختزل المرأة في هذا البعد. إضافة إلى نزعة التملك والسيطرة كلما تعلق الأمر بعلاقة ممتدة في الزمن. في الصفحة 17 من الرواية يكشف الروائي عن شخصية حندوق متولي وطبيعة نظرته للمرأة عموما والتي تغلف دوما بتلك الغلالة الجنسية التي لا تكاد تستر شيئا:

لكن المعركة الأخيرة كانت ساخنة.. كالعادة جاءت امرأة لتشتري الفلافل، حندوق يقلي الفلافل ويحرك مضغة أفيون
بين فكيه: الحلوة عايزة إيه؟/فلافل/الفلافل وصاحب الفلافل تحت أمرك./ تسلم يا معلم./ عاوزة الفلافل مستوية ولا نص مستوية؟/ مستوية./ مدورة ولا طويلة؟/ عندكم فلافل طويلة؟/ كل اللي عندنا طويل وجامد بس أنتي قولي آه. استجابت المرأة لتلميحاته وضحكت بصوت عال واشتركت معه في الكلام المكشوف وغير المكشوف، يبدو أنها أطالت الوقوف داخل المطعم ونسيت زوجها المنتظر في الخارج، زوجها الذي دخل المطعم لاستعجالها رآها تضحك وفي حالة انسجام، في الحال صفعها صفعة ألقت به أرضا. [6]

الجنس والعنف جسديا كان أو معنويا هما في العموم الأعم حظ المرأة من تطور مجتمعاتنا بمباركة صريحة أو مواربة من مالكي القرار السياسي منذ نهاية الخمسينات وعلى امتداد ما يقارب الثمانين سنة. والأمر يبدو مرتبطا دوما بذلك الخطر الداهم كلما تعلق الأمر بأمور المرأة والذي يترجم امتداد ما للرجل داخل كينونة المرأة تصل حد الاحتلال والاستباحة والتشييء في بعده السلعي حيث يلعب الجنس تلك الخلفية المؤطرة لنوعية العلاقات السائدة داخل مجتمعاتنا. في الرواية يقيم الكاتب هذا الفهم السائد في المجتمع المصري وفي غيره القائم على التملك المقرون بالفحولة قبل أن تنهار هذه البنى المشيدة بانهيار فحولة حندوق متولي في نهاية الرواية. زوجة حندوق متولى حصلت لديها تلك القناعة أن معمار حندوق المشيد على فحولته وسطوته قد انهار إلى غير رجعة لذلك لم تأسف على ذلك بل تصرفت بمنتهى العقل والاتزان، بالرغم مما في ذلك من سخرية سوداء، في محاولة لبناء علاقة جديدة مبنية على الاحترام والتآخي المبنيين على علاقة الدم والقربى كما جاء في المقطع التالي :

والزوجه تجيبه: حندوق حندوقه بطل بقى يا راجل وقوم نام عندك شغل.…. / لكنه استوقفها بقبضه بكلتا يديه على
احتضانها فدفعته فسقط على الكرسى: «جرى ً إيه يا مره»؟ صرخ منزعج ً ا معترضا./ أنا تعبانه وكمان كبرت، حندوقه وقت تانى ! قالت بصوت عادي ومتماسكة الأعصاب فرد حندوق بالصياح: «كبرت وحندوقهَّ وقت تاني بتضحكي علي ٍ يا بنت الكلب»؟ بعد ثوان استجمع قوته احتضانها وإجبارها على المضاجعة فدفعته ثانية, هذه المرة كانت تصيح وتصرخ فيه أن يتوقفَ ويذهب لينام بهدوء: «يا مره يا مجنونة، الولاد والجيران، هرمي عليك يمين الطلاق « . صرخ وتابع تهديده بأنه سوف يتزوج من امرأة ثانية، أو ربما سيجد امرأة يعاشرها وتصير تحت أمره في أى وقت، عادت زوجته إلى هدوئها بعض الشيء، وقالت جملتها الأخيرة بعد أن أعطته ظهرها واتجهت إلى غرفة النوم وأوصدتها دونها: خلينا زي أخ وأخت حندوقه![7]

نوعية العلاقة المبنية على السيطرة والتبعية والاستغلال الجنسي كصورة نمطية للمرأة في مجتمعاتنا كما تركزها فلسفة حندوق متولي المقرونة بالحشيش والأفيون والخمر كمقومات الفحولة والسيطرة هي نظرة يلقي الروائي عليها الضوء كنقد عنيف لنوعية العلاقة السائدة في مجتمعاتنا وبشكل أكثر سخرية حينما ترتبط الفحولة وأدوات السيطرة بالحشيش والأفيون. صورة المرأة كما صورتها الرواية هي في نهاية المطاف تفرعات عن الصورة النمطية الأصلية لحندوق متولي على الرغم من استثناءات قليلة تماما كما هي تلك الاستثناءات القليلة في الواقع المعيش لمجتمعاتنا. فالمرأة غالبا في عوالم اسكندرية الفئات المهمشة لا تظهر إلا كمرادف للجنس والمتعة المسروقة. في الدخيلة حيث أقام الراوي مع صديقي سعد، يرسم الكاتب صور المرأة عبر الجارات هالة المتزوجة وكذلك المرأة الأخرى وابنتها المشتغلتان في الدعارة المقنعة تحت حماية ومباركة الجيران المنافقين. هالة ورغم انها متزوجة لا تمانع في السعي في إقامة علاقة مبنية على نوع من التكافؤ الرضائي لأن زوجها متزوج من ثانية وكثير الغياب عنها رغم جمالها وأنوثتها الطافحة. لكن الدمغة الرئيسية في تصور مجتمع الدخيلة وغيرها عبر جغرافياتنا هي دمغة الجنس والسيطرة كما يقدمها تصور حندوق متولي. حتى وإن ابتعدنا قليلا من الأوساط المهمشة واقتربنا من الطبقات الوسطى، لا تتغير النظرة كثيرا، مثلا عندما يتعدى رضا تلك العلاقة الموجودة بينه وبين أستاذه في الفنون التشكيلية إلى علاقة مع زوجته التي تجاوزت ذلك إلى علاقات مع المترددين على زوجها الفنان. الاستثناءان الوحيدان في النص الروائي هما تلك العلاقة الموجودة بين فرج حامد، صديق إبراهيم جابر في المينا، وبين أمه التي خيرته بين تطليق زوجته أو طرده من الشقة التي جعلتها لهما بيتا للزوجية. وبالرغم من حبه الشديد لأمه وعدم عصيان أوامرها إلا أنه لم يرضخ في النهاية لرغبتها في تطليق زوجته بالرغم العواقب الوخيمة التي ترتبت عن قراره ذاك. الاستثناء الثاني هو تلك العلاقة الوطيدة المبنية على حب عميق بين المالك الأصلي للشقة التي يسكنها العجوز مصباح على سطح العمارة بالدخيلة حيث لا زال يحتفظ بصورة الزوجين العاشقين معلقة على الحائط. قصة الحب الحقيقية والدراماتيكية أرادها الكاتب أن تكون بتلك السخرية السوداء على طريقته. الزوجان رفضا مغادرة الإسكندرية بعد عدوان 56 كما فعل الكثير من الأجانب. غرقت زوجته في بحر الدخيلة في ليلة قمراء فظل هو منذ ذلك الوقت يطيل التحديق في البحر حيث غرقت حبيبته. بدأوا في مراقبته، فأطلقوا المخبرين في تعقبه، ثم تمت محاولات الإيقاع به وجره للكلام، بعد ذلك انقضوا على شقته فلم يجدوا إلا راديو قديم شكوا أنه جهاز ارسال واستقبال للتجسس، وما طول تحديقه في البحر إلا لتلقي الرسائل المشفرة حسب تفسيرهم. هكذا تم اتخاذ قرار اعتقاله. لكنهم لم يعثروا له على أثر. “بحثوا عنه في المنطقة ولكن بلا جدوى بعد أيام شاهدوا جثة الرجل طافية في المكان نفسه الذي كان يقف ويجلس فيه، انتشلوا الجثة وفتشوا ملابسه لم يعثرو سوى على رسالة كان قد كتبها، في الرسالة اعتراف بأنه ألقى بنفسه في مياه البحر… المياه نفسها التي غرقت فيها حبيبته وهي تستحم في ليلة قمراء“.[8]

هكذا لم تكن قصة الحب الحقيقية والإنسانية هناك في عالم الدخيلة والإسكندرية إلا قصة حب آتية من الخارج، من عالم غريب عن العالم الذي بنته مجتمعات ما بعد الهزيمة، وبالذات من اليونان كأنها دعوة من الراوي لاستحضار روح الفيلسوفة هيباثيا ودمها المسفوح على شوارع الإسكندرية حيث سحلت وتم سلخ جلدها بأصداف بحر الإسكندرية نفسه قبل حرقها أمام الجموع في نوبات هيستيرية، فقط لأنها استطاعت أن تكسر ذلك الطوق الجنسي الذي ما يزال يرهن واقع المرأة في مجتمعات ما بعد الهزيمة حتى اليوم.

عندما نقارب الرواية من ناحية الاختيارات الجمالية التي وظفها الروائي لتسليط الضوء على الشرائح المهمشة في المجتمع المصري وغيرها من مجتمعاتنا، نجد أن طرق الكتابة لديه منسجمة حتى التماهي مع شخصيات الرواية وخلفيتها الاجتماعية سواء من حيث اللغة أو الصور أو الإفيهات الحوارية وعمق رمزيتها الطبقية على اعتبار أنها تعبر بصدق لفظي ووجودي أيضا عن حقيقة تلك الشخصيات. لقد كان طبيعيا أو يكون الحوار بالعامية المصرية بل تسللت تلك العامية إلى جمل سردية لعبت دورا في تجسير تلك الهوة اللغوية التي قد تفصل السرد الفصيح عن الحوار العامي. لقد بدا طبيعيا أيضا ذلك النزوع المعقلن لاستغلال البعد الإيروتيكي ضمن تقنية الكتابة، حيث الحكي وتطور البناء الحكائي يتم ضمن خلفية اجتماعية معينة شديدة الهشاشة والتهميش وحيث المرأة بكل رمزياتها وحمولتها الجنسية كتعبير طبيعي عن حمولة حندوق متولي الفكرية حول المرأة، والتي تجسد، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، وإن بأشكال متفاوتة، نظرة هذه المجتمعات نفسها إلى المرأة، مهما حاولت أصوات هنا وهناك تجميل تلك الصورة. إن كل هذه الأشكال الجمالية في الكتابة في التصاقها بالخلفية الاجتماعية والنظرة النقدية الطاغية عبر السخرية السوداء للحالة العامة التي أضحت عليها شرائح واسعة من مجتمعاتنا إن لم تكن أغلبيتها، والمتسمة بواقع التهميش والإقصاء والاستغلال والقهر، تعتبر إضافة نوعية في تلك العلاقة التي من المفترض أن تجمع في ترابط وثيق موضوع المحكي بأدوات وطرائق الحكي.

تبدأ الرواية بجملة هي تعبير عن الطمأنينة التي يمنحها البحر في اسكندرية، بعيدا عن تلك القاهرة اتي أصبحت لا تطاق، ولكن أيضا عن الشك وانعدام اليقين الساكن في الأفق المرئي: ” البحر شاسع، هادئ ومريح، في البعيد سفينة تسير بهدوء، هل هي في الطريق إلى المدينة أم إلى خارجها؟[9] هذا الشك وانعدام اليقين رافق الراوي وهو ينتقل من سكن لسكن ومن شغل مؤقت إلى شغل مؤقت آخر كأنه تعبير عن شك وعدم اطمئنان حول وجهة السفينة أو المسار أو الترام الصحيح. ويبقى هذا الموقف الضبابي غير الواضح مسيطرا حتى نهاية الرواية كسؤال معلق حول أي مسار سيعلن عنه انحسار هذه الضبابية في الرؤيا كما يشير إليه المقطع التالي:

رويدا حندوق يمضي ببطء وينظرللأسفلت حينا وللأفق والضباب حينا أخرى ً , حزينا صامتا وكأنما صورة من ر جل غير الذي نعرفه, أرى في عينيه الحمراوين ذئبا مهانا,مضروبا ومكسورا .ندنو من الطوار والسور القصير الحاجب للبحر، يتكاثف الضباب، نحدق إلى الأفق الضبابي الشبيه بحياتنا: فهل يا ترى فيٍ يوم ما، فجر غيرهذا،سوف تشق الشمس هذا الأفق الضبابي الجاثم على سماء المدينة وناسها، لتأتي محملة بالأمل والخلاص رغم عتمة الطرق وانسدادها؟”[10]

يأتي هذا السؤال التي تقضم دواخل البطل وهو يقلب في ذهنه إمكانية الموافقة على اقتراح فرج حامد وبتأييد من مصباح الذي يقضي أن يحل محل فرج في العمل على ظهر السفينة ومغادر البلد إلى بلاد الله الواسعة لأنه ” لا يوجد ما يربطني بعمق بهذا المكان؟ كما قال في نفسه (ص112). هكذا يبقى الرحيل سؤالا مطروحا بإلحاح تماما كما هو مطروح في الواقع مه أمواج الهجرة الجماعية والفرار نحو مجاهل البحار.

……………………………..

* طبيب أديب ومترجم، باحث في الديناميات الثقافية والهامش.

 

[1] حندوق وشبورة اسكندرية ص17 (أحمد الشريف )

[2] نفس المرجع ص 6

[3] نفي المرجع ص 108

[4] نفس المصدر ض 12

[5] نفس الصدر صص 12 – 13

[6] نفس المصدر ص ص 17-18

[7] نفس المصدر ص ص 107-108

[8] نفس المصدر ص 78

[9] نفس المصدر ص 5

[10] نفس المصدر ص 109

مقالات من نفس القسم