قصائد متشحة بالحب.. قراءة في “روزالين” للشاعر العراقي فائز الحداد

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد فاضل

سألته الأديبة الشابة أن يكتب إهداء لها على غلاف مجموعته الشعرية التي قدمها لها فقال:

- عذرا.. لا أكتب إهداءاتي على كتبي !

ولو قرأت هذه الأديبة الشابة ما كتبه "الحداد" في إهداءه المجموعة: "الى روزا – لين.. إنها التي لا تتكرر"، لما تعجلت ولكتمت سره كما حاول كتمانه لأكثر من 23 سنة منذ أصدر ديوانه الأول "القمر الغائب" عام 1989.

 

كنت أجلس خلفه في قاعة ” ثقافة وفنون الكاظمية ” حينما ضمنا سوية ملتقى النور الرابع للأدب المترجم، في أصبوحة جميلة ورائقة من صباحات تلك المدينة العريقة المقدسة، وبعد أن عاد الى جلسته التفت إليّ بحركة سريعة قائلا :

– هل أعطيتك نسخة من الديوان ؟

فلما هززت رأسي بالنفي، ناولني نسخة منه فهمست في أذنه:

– سأكتب عنه لاحقا..

فانطلقت كلمات منه ومن شاعرنا المبدع “صباح محسن جاسم”، الذي جالسه كتفا بكتف:

– إن شاء الله..

وكعادة من يفتتح كتابه بمقدمة، والتي أصبحت لازمة أبدية لكل الكتب، “الحداد” هنا اقتصر على كلمات قليلة في مقدمته لمجموعته الشعرية: ” روزالين “، الصادرة عن دار العراب بدمشق 2012، لكنه سيثير حتما قارئها وسيضعه أمام متاهة العلاقة بين الحبيبة ومؤخرات الساسة، الذين عزف لهم على ربابة طفولته أغنية إدبارهم ؟!

ويبدو أن “روزالين” هي المرأة التي صاغ لها قلائد هذا الديوان شعرا من دون النساء، وقد توجها مليكة لقلبه، بعد أن شطب التواريخ والنهارات والعطور البائسة وجعلها آية لملاذه، ذاعنا لتاجها كما يقول في قصيدة “معرّب بك”:

“لا تنظري.. لتاريخ صلاحيتي على علب النساء

لقد شطبت التواريخ والنهارات والعطور

البائسة”

يا آية الملاذ في غرور العطر

ياااااااااااا..

لحوارك الوردي في أظافر الليل

ملمسك الشوكي أبرحني عابدا يا زهرتي

ذاعنا لتاجك الغرير ..

 

ونحن نجول القصيدة تختلط فيها الحنكة التصويرية مع القيمة البلاغية المتجددة لدى الشاعر، الذي يعود ليقول لها:

يا امرأة..

تأكلني كواعبها برعشة الأرض

ولا يأخذني غير نرجسها المتباهي

يعود لينهل ثانية من ذلك الوصف الذي تحفل به أكثر قصائده :

انفخي اذا بروح الزجاج لنطير رملا

فما اكتملنا .. لنتحف العين بالتيجان

يااااااااه ، ويا ..

لغرورك في خاتمة الملاذ !!

 

وبعد أن قطع الشاعر أشواطا بعيدة في ترسيخ قصائده، كمعترك أولي في تجديد محتواها، أكان تصويريا أم بلاغيا، من خلال اصداره عددا من الدواوين حملت رؤية حداثوية جديدة، الهدف منها ليس تجريبيا فقط أو مسايرة لوسائل كتابة حديثة مستوردة، إنما الغاية منها منح النص الشعري لديه فرصة التجديد من خلال تزويده بطبيعة حيوية جديدة، كما في قصيدة “آآآآآآآه.. رمادك أنا ؟” وهي الثانية في مجموعته يقول فيها:

أيتها المورقة بالنار كتحفة اللهب

الذاهبة لجنات عدني بذهب النبيذ

اللاذعة الوقت في استفهام القبل

خذي الليلة حرير طيفك السادن

واقرعي نواقيس الكأس

ستحلق الأجراس أجنحة ونهرب كالأطفال

أهربي إليّ ملآنة بالراهبات ..

كدير ثقيل .. غارق بالمد ؟!

 

من يقرأ هذه الأبيات سيتعرف حتما على كتابة جديدة داخل لغته، التي اعتاد قديمها قد تكون غير مفهومة بداية، لكن معانيها تأخذ بالتكشف بيتا فبيت ما دامت القصيدة لم تنته بعد، وهي لعبة حاذقة حقا، أتعرف عليها لأول مرة يأخذنا الشاعر فيها الى محاولة تجريف كل ما هو معتاد، ليهيل عليه كل جديد في إطار الموصوف وهو الحبيب هنا، مستخدما الأسماء التي سيحتاجها في بعث الحدث المراد معالجته، والزمان يضع الأسماء فيه كيف شاء قد يكون ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا، والمكان كصورة نهائية له كما في بقية أبيات القصيدة:

كدير ثقيل .. غارق بالمد ؟!

إنما هي يدي ..

المجداف والبحر وجريمة الطوفان

أعرفها مصيبة لاتنام على سندس بارد

والفيروز كأغاني فيروز تهز بجدوى

سلي مئذنة النهد حين أوذن بالفلاح !؟

كم من ملاءة سأعفرها بحسنات النار

ثم أحرقها بأديم الناسك وأغفو رمادا

آآآآآآآآآآآه هل رمادك أنا ؟

 

تجربة “فائز الحداد” هذه تذكرني بكلام الباحث اللبناني: “|بيار أبي صعب” حينما تناول ديوان أدونيس: “تاريخ يتمزق في جسد امرأة” يقول: إن أدونيس في ديوانه هذا يسترسل في ” نحته الواعي ” للعبارات والصيغ والإيقاعات والصور، كي تتسع للرؤيا ويستعيد تلك الأرض الخراب، التي تحتضن حضارة على شفير الزوال، ليصوغ قصيدة درامية طويلة ربما على طريقة “إليوت” ويستسلم إلى هجرة لا قرار لها، وهكذا يمضي “الحداد” في قصائد ديوانه: ” روزالين ” مستخدما ثيمات غير راكدة كما في ” طفلا … سلوت فمي ” و ” الشاهنازة ” و ذاكرة مرقنة ” و ” التي .. تغارها المرايا ” و ” آخر المريمات ” حتى قصائد ” يا .. لنون جهنم ” و ” أدعوك .. لنوبل ليلي ” و ” سليفا ” ، وبقية القصائد منها ” حين انتحار الحب ” التي بانت منها رائحة الوداع والتي تفصح عن تلك النقلات الحسية والجمالية، التي عبرت عن تطور الكلمة لدى الشاعر:

كالمراكب التائهة ، تهاجسنا عن بعد

وتجاذبنا بعناد ..

نغذ الرؤى لريح القبل !

كأننا خصمان .. تقربنا بحمية الود

أو ندان ، في مآخذ الوله

تقادحنا بعينين ضاريين .. نتوق نهمنا

وما بغينا كبحرين ، بل تباغينا ..

فالحب علة .. ! فمن تعلل فينا ، ومن تعلل ..؟!

 

هذا التعلل أعقبه عزاء الفراق كما في خاتمة ديوانه ” عزاء ستان ” التي يمكن أن نتوقف حيالها لمقارنة ما بدأناه من قراءة اولى قصائده يقول :

” ربما يستحينا الحب فيقرع الكأس

لكننا سنحتسيه ولو بقبلة وداع “

كرقيم .. تعدى حروف العزاء

أعد مسامات الحصى في لعنات الصور

وأرجم ذوات العلل على الجدران !!

أتحالم معك في نبوءة الخسران ..

يا ربح الخسارة .. فيما أعد !!؟

 

الآن وضحت الرؤية .. روزالين أصبحت خسارة حتى بعد أن تمناها بقبلة وداع ، والرقيم الذي احتوى هذه القصة تعدى بحروفه كل العزاءات ، إنها نبوءة الخاسر فيما كان يحسبه ربحا !

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحمد فاضل

ناقد ومترجم

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم