ماكيت القاهرة.. حين يقاوم الفن المحو

ماكيت القاهرة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد صفوت

ـ يبدو طارق إمام في روايته الأخيرة ماكيت القاهرة أكثر إخلاصا لمشروعه الروائي الذي بدأه مبكرا، واضعا لبنة وراء لبنة، ومجسما فوق مجسم، حتى صار عمارة كاملة لها معالمها الواضحة، يفعل ذلك جادا ومنكبا على مشروعه ودون أن يتعثر أو يفقد حماسته له، مـُراهنا على نجاحه رغم خطورة المغامرة.

هذا المشروع الذي يقوم على محاور لا تتغافلها العين، وهي المدينة، والتجريب، والعجائبية، هذه هي “الخلطة السرية” للكتابة التي يعرف طارق إمام أسرارها وتفاصيلها وطرق طهيها جيدا، وهذه الخلطة ليستْ بمقادير منفصلة ومتضاربة، هي توليفة متناغمة ونسيج واحد، فلا يمكن فصل هذه العجائبية والغرائبية في عوالم طارق إمام عن طموحه ونزعته التجريبية، وعن رؤيته الخاصة للمدينة وللواقع في كل أعماله.

جاءت ماكيت القاهرة لتؤكد أن مشروع طارق إمام بلغ ذروته، نص من النوع الثقل، تقريبا هي اكثر رواياته طولا(405 صفحة)، رواية بناء شاق، ربما كلفت طارق إمام جهدا كجهد مهندس يصمم مدينة كاملة بمفرده، ورغم ان هناك إشارات في النص جعلتني أظن في البداية أن فكرة الرواية ربما قفزت لذهن الكاتب كفكرة مجردة من وحي بناء عاصمة إدارية جديدة للدولة، لكنني أكاد أجزم أن الرواية احتاجت إلى سنوات طويلة من الكتابة قبل ان يفلتها طارق إمام من بين اصابعه لتأخذ طريقها للنشر، هي رواية مغامرة، ربما مقامرة، نعم كان طارق إمام يقامر وهو يكتب مثل هذه الرواية بتلك الهندسة الصعبة والمتداخلة، حد انني كنت انتظر خلال القراءة تلك اللحظة التي سينهار فيها كل ذلك البناء الفني وذلك المعمار الروائي مخلفا وراءه سحابة ضخمة من قصاصات الورق وغبار كثيف من السرد والحكي والخيال والكلمات والمجاز، لكن ماكيت الرواية كان وراءه كاتب مهندس بارع يدرك ما يفعل ويعرف جيدا أبعاد تصميمه، ودروب وطرق مدينته رغم وعورة الطريق الذي اختاره.

يمارس طارق إمام في روايته كتابته المغايرة والموغلة في التجريب ، وصولا إلى بنية سردية فريدة، تتناقض مع تخوم الكتابة المستقرة والتقاليد الثابتة، فيصبح السرد في تدفقه سردا مموها، يـُخفي أكثر مما يـُظهر، يتنقل بك في خطوط غير مستقيمة وهو يصف أحداثه، سرد كأرجوحة ماكرة، تعلو بك وتهبط، وفي كل مرة تنطلق أو تنحدر من نقطة مـُغايرة، سرد غائم وغير هرمي ولا تراكمي، كما تصبح اللغة قلقة، حـّمالة أوجه، وموغلة في المجاز، ومن خلال كل ذلك تتشكل عوالم غريبة، وتتفـّجر طاقة الخيال ألا محدودة التي يملكها تاجر الخيال “طارق إمام” من أجل أن يـُسبر أغوار مدينته.

تمثل المدينة دائما في كتابات طارق إمام هاجسا خاصا ، سواء مدينة واقعية مثل الأسكندرية في “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس و”طعم النوم” أو مدينة شبحية تحفل بمسوحها وأشباحها وظلامها في روايات اخرى عديدة، لكنها هنا هي القاهرة، ليست قاهرة نجيب محفوظ القديمة، ليست القاهرة 30 بظروفها السياسية والاجتماعية التي قهرت شخوصها ، لكنها هنا هي القاهرة، 2011 ، 2020، 2045، القاهرة الشائخة الكابوسية المظلمة ، المدينة المشوهة، بعشوائيتها وارتجالها ألا نهائي وقبحها المعماري ، المدينة التي عندما ثارت لم تجن من ثورتها سوى المزيد من القبح والفوضى وأشخاصا أكثر تشوها فقدوا عيونهم (بلياردو) ربما حتى لا تطمح في رؤية النور ثانية، القاهرة بمسوخها حيث تعشق امرأة(نود) رجلا يعيش داخل المرآة فتضاجعه من بين الزجاج لتنجب منه ولدا يرث ملامح أب أخر ، القاهرة العبثية التي يحكمها الا منطق والجنون حيث يمكن لطفل صغير(أورتيجا) يمارس لعبة مع والده فيشهر أصبعه في وجهة وهو يتمتم” بوم”، فتنطلق رصاصة من إصبعه ليقتل أباه، وحيث تنطلق في شوارعها كائنات مشوهة على هيئة مانيكانات من الجبس ترتدي ملابس داخلية، القاهرة التي تحكمها سلطة نهائية قاهرة مشوهة كآلهة الأساطير القديمة وهي هنا مثلة في “المسز” التي لها نصف جسد وثلاثة أرجل، القاهرة التي يرى شخوصها تاريخهم ومستقبلهم في كتاب قدري “كتاب منسي عجرم”

هنا القاهرة وهي في طريقها للسقوط والمحو تمهيدا لعاصمة إدارية جديدة تأخذ طريقها إلى الوجود، وحيث تصبح نسخة ماكيتها أكثر واقعية من الأصل، وحيث كل نسخة من القاهرة تخلق قاطنيها.

مما يلفت الانتباه في الرواية أيضا هو تداخل الأزمنة، حيث بدأت الرواية من زمن مستقبلي القاهرة 2045، لنرى فيه حاضر القاهرة الأن2020 تاريخ كتابة الرواية، وماضيها 2011 أيام ثورتها، وزمن آخر غير معلوم تمثله”مانجا”، وتجلت براعة الكاتب في التلاعب بالأحداث خلال هذه الأزمنة، لنكتشف في النهاية “ان جميع الأزمنة هي الحاضر”، فالعمل يستكشف حاضر القاهرة من خلال ماضيها ومستقبلها، ليؤكد لنا حقيقة يؤكدها التاريخ وربما نبؤة يراهن عليها مستقبل القاهرة “ان أي مدينة لم تتعرض للمحو هي مدينة لم توجد”.

*** إضاءات سريعة حول النص

ـ ربما يبدو التكرار ثيمة و فكرة محورية في الرواية، ” ما الذي يجعل حكاية ما تتحوَّل كلّ مرَّة إلى حكاية مختلفة رغم أن جوهرها هو نفسه؟”

فالرواية تنطلق من فرضية، ماذا لو كرر المكان والتاريخ والأشخاص أنفسهم؟ لتصل بنا إلى نتيجة حتمية من خلال احداث الرواية، أنه لا جديد، فليس ثمة في عام 2045، أطباق الفضائية طائرة، ولا حروب كونية ليكتشف اورتيجا أن واقعه وحاضره لا يختلف عن واقع والديه نود وبلياردو في 2011 و2020

“أيُّ شَغَف في ذلك كلّه يجعلنا نعثر على أنفسنا في التكرار، في خَلق نُسخٍ لا نهائية من المكان الواحد، ومن اللحظة الواحدة، ومن الشخص الواحد، ونعيد إنتاجها في الذاكرة والتخييل عندما ينتهي الواقع أو يُخفق في تجديد نفسه؟”

 ـ لا يمكن لعين القارئ ألا تـُدرك هذه الثنائيات والتناقضات التي يحفل بها النص، واقع القاهرة /الماكيت، الأصلي /التقليدي، الزائف/الأصلي، الوجود/المحو ، اللغة/المجاز، شكل/مضمون، واقع/خيال. وهي في تعددها غير مجانية، لكنها تكشف عن قصدية جاءت تؤكد واقع القاهرة مدينة التناقضات العجيبة التي نجح النص في رصدها.

ـ تحفل الرواية بعشرات الأسئلة، هي رواية أسئلة بالأساس، والقاهرة هي مدينة الأسئلة المـُلغزة التي بلا إجابة، لكن سؤال الرواية الأكبر هو عن قدرة الفنعلى المقاومة، على الوقوف في وجه المحو، فأبطال الرواية جميعهم فنانون، يمارسون الفن داخل ” جاليري شغل كايرو” كنوع من المقاومة في وجه الفن، والذي أيضا يمتلك كقدرة مغايرة على تشويه وطمس الحقيقة.

ـ الرواية في بعض مناطقها جاءت لغتها جافة، مـُحملة بفلسفة مـُرهقة، وبعيدة كل البعد عن لغة طارق إمام المـُحملة بالشعرية، كما أن بعض مقاطعها كان يمكن تهذيبها، فالرواية في ظني طالت بعض الشىء لكنها حافظت في النهاية على إيقاعها.

ـ في النهاية نحن امام نص مـُرهق في كتابته كما هو مـُرهق في تشريحه وقراءته وهو لا ينفي أنك أمام نص ممتع بديع، بل نص قد يكون هو نص العمر لطارق إمام وإن كان هذا أيضا لا ينفي أن جـُعبته قادرة على إدهاشنا.

 

مقالات من نفس القسم