علاقته بالطبيب الذي كاد أن يودي بحياته, تلك العلاقة المُلتبسة التي شبهها بالعلاقة بين القتيل والقاتل, وما طرأ عليها من تقلبات مُربكة, بداية من الإحساس بالذنب نحو مريضه حتى التجاهل والإنكار, يحكي علاقته أيضاً بالمرضي من حوله الذين يصارعون من اجل البقاء مجتمع كامل ,وحياة جديدة يسبر أغوارها جّدة لا تعني الأفضلية لكن تعني التغير.ومن خلال التجربة يعيد اكتشاف معني الحياة والموت والبعث, الرحيل والفقد, العلاقة بالجسد والموجودات والكون.تتقاطع علاقاته مع رأيه وأفكاره وفلسفته وتغيراته النفسية التي فرضتها الحياة عموماً عليه وفرضتها تجربة الاقتراب من الموت خصوصاً..
“مسار الأزرق الحزين” وهو العنوان الذي إختاره علاء لكتابه يفسره داخل دفتي الكتاب يقول خالد:” أن قراءات النبض المتذبذبة باستمرار صعوداً وهبوطاً , تشكل لي أهمية وتتحكم بشكل عام في لون نفسيتي أغلب الوقت كانت تحصره في الزرق الداكن المائل للبنفسجي بتراثه الحزين“.
يقول أيضاً عن دلالة اللون عنوان الكتاب “وخزة الإبرة كانت تخلف ازرقاقاً في الجلد, ظل معي لفترة بعد خروجي من المستشفى, بالإضافة للازرقاق الذي سببته “الكانيولا” في رقبتي و”كانيولا” المحاليل في سطح يدي اليمنى وباطن ذراعي اليسرى هذه العلامات شكلت مساراً للأزرق المائل للبنفسجي بتراثه الحزين“.
في أي مستشفى الموت حدث عادي . لا يشعر به العاملون في المشافي, فبين صراع المر بين الحياة والموت عجائز يستعدون لإعطاء ظهورهم للحياة للمرة الخيرة وبين اللذين يكافحون الغيبوبة لأسباب مختلفة يناقش العاملون بالمستشفي خلافاتهم التافهة وغلاء الأسعار, وتقسيم النوبتجيات, بينما الموت يحصد الأرواح بمنجله في الجوار, يقول خالد”لا يشعرون به كالجلد الميت. كلنا كان لنا نصيب من هذه الفطيرة التي يخبزها الموت طازجة كل يوم, كل ساعة.كل دقيقة,كل ثانية, للمستشفيات راحة خبز طازج“
العلاقة بالموت ومواجهته أيضا تعيد اكتشاف وتنظيم العلاقة بـ”الله” كخالق ورب للموت, الثنائية التي تتأرجح داخلها الخلق والعدم, الحياة والفناء. فبسبب خطأ بشري آخر, واجه خالد الموت سابقاً في حادث حريق في أحد القرى التي كان يقيم بها في ألمانيا من اجل الكتابة ,اندلع حريق خطير كاد يودي بيده اليمني التي يكتب بها, اليد اليمنى أداة الخلق لدى أي كاتب كاد وحش الموت أن يلتهمها, صار في مواجهة الموت والعدم لمرة ثانية, الاقتراب من الموت أتاح له إعادة صياغة العلاقة مع القدر/ الإله. الإله بتصرفه المنفرد في أقدار البشر. فيقول “كنت أشعر أني أعيد صياغة علاقة جديدة عادلة مع قدري بدون أن أتعالى عليه, بل امنحه مكانه الرفيع ولا أبخسه قدره ودوره وغموضه”هذه الفواجع التي كنت أمر بها كانت تجهز الميزان لاتزان جديد انتهى عهد الصراع وتخلصت من هذا الإله الذي كنت أريد أن أدمره بكل أقداره المُعانِده, وبدأت انظر لإله أبعد بكثير, يحتاج صفاء سريره كي أفهم كنهه,ودوره في حياتي“.
علاقة خالد بزوجته تشكل جزءا هامًا من الحكي فالزوجة هي الحبيبة وهي الابنة وهي شريكة الحياة والرحلة, والراعية في وقت المرض, التي يخاف من الموت فقط لأنه هو الذي سيُسلبها إياه, التي يفكر طول الوقت في شكل وداعهما الأخير يقول” كنت أخشى أن اترك سلوى وحيدة. حياتنا معاً أخذت تفريعات عميقة في الروح, كأنه زلزال صنع صدفة جغرافية سعيدة لروحين, لصخرتين عالقتين في الأعالي . غيابي عن الحياة كان سيعرض هذه الطبيعة وهذه الصدفة الجغرافية للخطر ولتصدعات جديدة قد لا تجد الصدفة الجديدة التي تحفظها“.
يمنح علاء زوجته كل يوم اعترافاً في المستشفى, ويقول أنه ربما الرحيل دون وداع هو ما يليق بالخروج من الباب الكبير للحياة لان حياتهما معاً هي السلام الحقيقي, الزوجة عاشقة تارة تتلمس أصابع حبيبها في المشفى حين تخف الزيارات وهي المقاتلة التي تتصدى للطبيب المهمل وتكشف ضعفه وهي العقل الحامي التي ترفض مقاضاة الطبيب لأن حياة زوجها مازلت معلقة في مرحلة الخطر رغم نصح الأصدقاء.
العلاقة بالطبيب من أجمل فصول الكتاب, فالطبيب الذي تسبب في الخطأ الفادح يتهرب سريعا من الإحساس بالذنب وينفضه عن كتفيه في انتصار لذاته المُهانة بعار الخطأ. يعترف الطبيب لمريضه ثاني يوم العملية بأنه تسبب بخطأ طبي كبير وأنه سوف يصلحه مهما كان الثمن, يقدم الطبيب الرعاية لمريضه, لكن الخوف يكبله تلاحظ الزوجة بحصافة الأنثى وحدسها شيئا ما يزعجها فحين تناول الطبيب أتعاب العملية ظهر ذلك الضعف البشري الكامن في عينه , يعترف الطبيب بخطئه, ويقول لمريضه أنه لم ينام لمدة ثلاثة أيام, وبدأ خالد يتعاطف مع طبيبه وخوفه الأصيل من الفشل, الذي كان يتابع مريضه بكل دقة يقول خالد” كان يفرق تردده ووساوسه على الممرضات, بعيد الشيء والخطوة والكلام عدة مرات يريد أن يتأكد أو يؤكد له أحدهم أو إحداهن , أثناء تكرار ومد زمن الكلام, صحة وصواب خطوته, مهما كان بسيطة” يتعافي المريض وبعد أسبوعين من التردد على العيادة يقطع الطبيب اتصاله المعتاد للاطمئنان على مريضه نهائياً وحين يزوره خالد بعدها لأمر طارئ يتوتر غير راغب في من يذكره بما حدث, وكأنه “استهلك الإحساس بالذنب حتى لم يعد يؤتي أثره لوقت طويل” .
التجربة القاسية التي مر بها علاء خالد وقذفت به علي تخوم الموت, استحضرت في الحكي عنه , عوالم السينما المبهرة ,الكتاب ملئ بالحكايات والمشاهد السينمائية التي يتقاطع فيها الموت مع الحياة, الحياة هي “مجموعة من التجارب العنقودية كما يراها لا تتقاطع ولا يعرف بعضها البعض, لكنها تجتمع عند الموت مثل شريط السينما الذي تجتمع فيه متعة الفرجة مع كونك أصبحت أحد أبطال هذا الفيلم تنفصل عن نفسك مثل قشرة برتقالة سميكة رويداً رويداً حتى تظلم السينما تماماً“
الموت يأتي في السينما كما يرى علاء علي هيئة امرأة جميلة ويرتبط بلذة الجنس كما في فيلم “كل هذا الجاز “لبوب فوس, وعلي هيئة طفل صغير كما في فيلم حدوتة مصرية ليوسف شاهين في فيلم الختم السابع لإنجمار برجمان يأتي الموت بشحمه ولحمه للبطل صريحا واضحاً حين يعود من الحرب ليجد بلاده تحت وطأة انتشار الطاعون في المشفي تختفي الأعضاء كأدوات حسية, بل تصبح مشيئة, قطع من اللحم والعضل للحقن والوخز والثقب والخياطة, أما الطبيب او الممرضة فتنشأ بينه وبين المريض علاقة حميمة أحيانا يتداخل فيها الحب الأمومي بالرغبة بشرف المهنة , وفي عودة الي السينما يشرح خالد هذه العلاقة المعقدة قائلا””جولييت بينوش” الممرضة الكندية وبطلة فيلم”المريض الإنجليزي” كانت تمرض وتداوي ألم ويأس هذا المريض الميئوس من شفائه, بعد أن انتقل جسده من الصحراء وشجرة حكمتها الطبية, إلى سرير في دير ايطالي قديم,أواخر الحرب العالمية الثانية,شرف المهنة جعله ترى بعين جديدة,لا بد من الاستمرار, هناك نسبة أمل لا تتعدى الواحد في المائة داخل هذا الواحد في المائة , أو هذا الحيز الضيق من الأمل,كانت تتحرك رغبتها, لتمنح هذا المريض وجسمه المشوه بالحروق, بعضاً من جسدها وروحها, هذا الشرف يتحول مع الوقت إلى حاسة جديدة تجعلها ترى الأشياء من حولها بعين جديدة مزيجاً من الرحمة والقسوة والأمل اللانهائي ,وأيضا اليأس اللانهائي“.
ليست السينما فقط التي تتقاطع في الحكي عن تجربة الاقتراب من المرض في “مسار الأزرق الحزين” لكن الأدب أيضاً, حين يتحدث خالد عن فترة إقامته في ألمانيا بعد الثورة مباشرة لشهور عدة, يصف علاقته بالخارج / الغرب,بأنها علاقة تشبه علاقة الفراشة بالنار, أو علاقة يشوبها الانبهار والكراهية الناتجة عن تفوق الآخر في نفس الوقت, ذلك التمازج بين المشاعر المتضادة لم يصب علاء فقط لكنه أصاب مصطفي سعيد في موسم الهجرة للشمال للطيب الصالح, وأصابت بطل يحيي حقي في قنديل أم هاشم, وبطل سهيل إدريس في”الحي اللاتيني” يصف خالد أبطال الروايات السابقة بالثورية, وكأن حياته تتشابه مع حياتهم ,كانت ثورتهم علي مجتمعاتهم تشبه خروج للغرب بعد الثورة في ثورة موازية على الذات وعلي الوضع السياسي في مصر2011.
عن الحياة بعد النجاة لا يعتبر خالد هذه السنوات الجديدة منحة إلهية تستحق الفرح, ولا حتى تشبه الميلاد الجديد, لأن الميلاد الأول لا تختلط فيه معاني الرحيل والموت, بعكس الميلاد الثاني أو (النجاة) بل يصف خالد هذه السنوات بفضلة القماش الملحومة في العمر, وان إدراك تلك الهبة ربما يحتاج لسنوات أخرى لم تأتِ بعد.. يقول خالد:”أفكر ماذا أفعل بسنواتي الجديدة المنزوعة من فم الأسد, هل هي منزوعة بحق,أم أن الأسد وجدها نيئة ولا تصلح للالتهام؟ دائما ما كنت أعمل حساب هذه السنوات المتبقية في قاع العمر, كتفل الشاي المر المخلوط بالسكر, الذي لم يذب وكيف سيكون أدائي وقتها, كنت أتخيلها امتدادا طبيعياً وإن كان مختلفاً وتيرة أخرى كلحظة تصاعد مفاجئة في سيمفونية, لم أتخيلها أبدا كفضلة قماش ملحومة بالعمر بعد أن كادت تنفصل عنه وتصبح هذه الفضلة والخيوط التي تتخللها, جزءاً من طريقة إحساسي بالحياة لا أنتمي لها كلية ولا يربطني بها سوى ثغرات وخياطات واضحة!
مسار الأزرق الحزين كتابة شعرية عن تجربة إنسانية شديدة القسوة والالتباس ,تضرب الثوابت في المشاعر ولأفكار وتهز الوجدان هزا وتخلق رؤية جديدة للذات وللعالم , دون الإغراق في التراجيديا ولا السقوط في فخ الدفع إلى التمسك بتلابيب الحياة. ليس الهدف من السرد بث الأمل في نفس القارئ, ولا الإشارة الصريحة ولا الخفية إلى قيمة الحياة, ولا الربت على أحزان القارئ, بل تبدو الحياة كلعبة سحرية عبثية داخل دفتي الكتاب, كلعبة الأفعوانية في مدينة ملاهي كبيرة, تحدث تلك التجربة ليعيد القارئ النظر إلى الحياة من عدة زوايا ومناظير مختلفة,يخرج من التجربة (اللعبة) ليس كما دخلها في المرة الأولى أبدًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة أخبار الأدب المصرية