نشر ياسر عبد اللطيف روايته “قانون الوراثة” أوائل العام 2002 وكان قد نشر قبلها مجموعة شعرية بعنوان ” ناس وأحجار” عام 1995 . والحال أن هناك مداخل عدة لمقاربة ” قانون الوراثة” وربما اعتبرها البعض نوعا من أدب السيرة الذاتية فيما يرى محمد بدوي أن “الكاتب أعلن انحيازه ” إلى المقولة الشهيرة ” لا تكتب إلا عما تعرفه” وهي النصيحة التي التقطها كتاب الستينات في مصر من هيمنجواي وعلقوها كالتميمة على صدروهم” ويرى بدوي أن ثمة اختلافا واضحا بين هذه الكتابة وكتابة الستينات.
وسوف نقوم نحن بمقاربة الرواية من زاوية أخرى مستعينين بالمصطلح الذي اشتغل عليه الناقد والبروفيسور الإسباني مانويا ألبركا Manuel Albera ونقصد مصطلح Autoficción بمعنى “التخييل الذاتي”.
ويبدو لنا هذا أقرب المداخل للتعامل مع رواية ” قانون الوراثة” فالمصطلح يقدم في طياته نوعا من السيرة الذاتية، لكن يمكننا القول إنها سيرة ذاتية غير اعتيادية، بمعنى أن الكاتب لا يقدم وقائع حقيقية ثابتة بل يقدمها كما يعرفها هو فتصبح هناك حرية أكبر فيما يكتبه ربما ينطلق من ذاته من وقائع عاشها أو حكيت له وهذا هو الجانب Auto الذاتي لكن يظل الأمر واقعا بين ما هو ذاتي وما هو خيالي أو إبداعي. والحقيقة أن هذا المصطلح يقوم بتجاوز هذهالثنائية وينتقل بها إلى نوع جديد أو إلى تفكير آخر يضع الكاتب والناقد على السواء على أرض أكثر حرية في التنقل خلالها.
ويشير ألبركا إلى أن الكاتب الفرنسي” سيرج دوبروفسكي” Serge Doubrovskyهو من أطلق هذا المصطلح عام 1977 عندما وضعه على الغلاف الخارجي لروايته: Fils (ابن).ويقدم ألبركا شرحا وافيا للمصطلح لن نتمكن هنا من عرضه بالكامل وسنكتفي بما ذكرناه من قبل مؤكدين على أن هذا المصطلح يمكننا من عدم مماهاة البطل داخل النص مع الراوي ومع الكاتب. لأن هذا التماه من شأنه أن يكدس مجموعة من الإشكالات والعقبات على طريق مقاربة نص ما وقراءته ويصبح هناك نوع من تداخل الأصوات واختلاطها يتسبب فيه النقد وليس النص نفسه.
وما سنحاوله في هذه القراءة هو التعامل مباشرة مع النص ومحاولة رؤية خصائصه وآلياته السردية واللغوية ولا ندعي أننا سنحيط بها جميعا بل فقط ما يبدو لنا أنه يمكننا من الاقتراب من النص وكشف حركته.
تتكون الرواية من خمسة أجزاء: مقدمات الفاشيون الحرب الأخيرة… ظللها الباهتة جدول اللا معقول…أو المعادي صيف 1988 أحمد شاكر…أو ربيب العائلة. والملاحظة الأولى أنه يمكن قراءة كل جزء على حده وقراءتها مجتمعة في الوقت نفسه. فنحن هنا لسنا بإزاء حدث ممتد في الزمان والمكان ونعني حدثا واحدا أو مجموعة من الأحداث والشخصيات تنمو وتتطور على طول العمل. بالطبع هناك أحداث وشخصيات لكنها تكاد تكون منفصلة وما يجمعها في النهاية هو صوت الراوي. وربما يكون هذا ما دعا محمد بدوي لأن يقول: “ يحمل غلاف الكتاب كلمة رواية فإن قام القارئ بترجمتها إلى شكل ونوع وخصائص على الوجه الذي تفهم به الكلمة على نحو تقليدي ومستقر أحبط توقعه إذ سيدرك أن الكاتب يستخدم الكلمة في شكل مجازى” . والواقع أن معظم من تناولوا الرواية موضوع البحث بالدراسة إنما اتفقوا في معظمهم على هذه النقطة. إذن نحن أمام نوع آخر مما يمكن تسميته رواية ويمكننا القول بكثير من الاطمئنان إنها رواية ذات نبرة مختلفة يتمثل أول ما يتمثل اختلافها في طريقة بنائها. هذا من حيث البناء الخارجي أو الهيكل العام وكذلك من حيث لغتها.
وكما قلنا من قبل إننا لا نود الدخول في نوع من المماهاة بين الراوي والبطل والكاتب لذا فإننا سنركز على الراوي باعتباره محرك الحدث. ونرى أن الكاتب هنا ارتأى أن يكون الراوي هو الراوي العليم وهو الذي يسرد الحكاية وهو غير الراوي المتكلم الذي سيظهر لاحقا. إذن يختار الكاتب صيغة الراوي العليم في الجزء الأول من الرواية وهو “مقدمات” ثم يقوم بتغيير هذا الراوي العليم في الأجزاء الأربعة المتبقية محولا إياه إلى الراوي المتكلم بصيغة الأنا. والمفارقة التي تبدو هنا هي أن الجزء الأول “ مقدمات ” هو الذي يفصح أكثر عن “ البطل” لو جازت تسميته كذلك، نقول إن الجزء الأول هو الذي يرسم ويحدد هذه الأنا في بداية اشتباكها مع العالم في صيغة الراوي العليم بينما الأجزاء الأخرى التي سنجد فيها “ البطل” بطبيعة الحال والتي ستظهر فيها شخصيات عدة وأحداث متفرقة إنما اختار لها الكاتب صيغة الراوي المتكلم. والراوي المتكلم يقوم في الجزء المعنون ب “ الفاشيون” باستعادة الأب حيث يقول: ” وهو الذي رأيناه عائدا في المطار يدفع أمامه عربة الحقائب في أول صفحات هذا الكتاب” نعتقد أن هذه الاستعادة تقوم بتأكيد صوت الراوي ووضع الصوتين العليم والمتكلم في الموقع نفسه. على أن السؤال لا يزال قائما: ما الداعي للتعامل مع نوعين من الراوي؟ ربما نرى في تأويلنا الخاص في هذا نوعا من التملص من الأنا كما يتحدث الراوي عن أنه لا يحاول التملص من رومانسيته لكن يحاول تقليصها بقدر الإمكان. هذا التملص من الأنا في صيغتها المباشرة والتي يمثلها الراوي المتكلم إنما تتيح نوعا من الدخول على النص دون تهيب كبير وكأن الأنا بعد اطمئنانها إنما تعود لتظهر في شكلها المباشر مستعينة بالراوي المتكلم وكأنها ارتاحت قليلا من عناء بداية ” الكتاب” كما يقول الراوي. ولعل الوعي بفكرة ” الكتاب ” هذه هي التي تجعل النص حرا في
اختيار أدواته دون قسر فالكتاب في النهاية هو عمل محدد ومحدود لا يمكن أن تقول فيه كل شيء.
من جانب آخر سنجد أن الذين تعاملوا مع الرواية باعتبارها سيرة ذاتية إنما تساءلوا عن دور الأم، الأخوة الحبيبة، ولعل تساؤلات محمد بدوي كانت في محلها عن غياب المرأة ولم يرها بدوي من زاوية السيرة الذاتية بل رآها من زاوية غياب المرأة عموما أو حضورها الباهت “شحوب النساء عموما في هذا الكتاب الذي يبدو كأنه سرد ذكوري”. والذين رأوا في الرواية سيرة أجيال إنما تعجبوا من الحضور الخفيف والمتعجل للأب والتعامل معه في أسطر قليلة باعتبار الحضور البارز لشخصية الجد والحفيد كذلك. والحال أننا لا نستطيع قراءة العمل بما ليس فيه بل بما فيه وقد يقول البعض إن الغياب أيضا له حضوره مثله مثل الحضور وهذا يردنا ثانية إلى المنطق الثنائي الذي يعوق الفهم أكثر مما يساعده.
آلية التقطيع أي وضع النص في أجزاء منفصلة تقوم بدور هام في العمل إذ أنها تتماشى مع التقليص والتشذيب للحدث وهذا نراه في اللغة كذلك فالحدث غير مطلق له العنان وإنما يدخل في صرامة شديدة تجعله يؤدي دوره في الحدود المرسومة له وهي بالفعل حدود لا تشأ أن تخرج بالحدث في استرسالات وتداعيات ولعل من هنا يمكن أن يأتي غياب الحوار لأن للحوار وظيفة أخرى من حيث كشفه الخفي وإسقاطاته وجلب دوائر أخرى من المعنى تكشف عنها كلمات الشخصية عندما تبدأ في التحدث بصوتها. نعتقد أن غياب الحوار هنا كان أمرا ضروريا لأن الحدث لا يستدعيه ولا يحتاجه من جهة ومن جهة أخرى لتلك الصرامة في بناء الحدث نفسه وتقليصه قدر الإمكان وهذا ما تقوم به اللغة في النص وسنأتي لها بعد قليل.
غياب النواة أيضا، ليس هناك حدث مركزي أو نواة تنطلق منها الشخصيات والأحداث. الشخصيات مرسومة بعناية وتبدو في معظمها شخصيات ” أدبية” تملك خواص الطرافة والإدهاش. فكل شخصية رئيسية في الرواية كالجد وفتحي على سبيل المثال إنما تمتلك جانبها الغامض أو لنقل جانبها الميتافيزيقي والذي يبدو إشكاليا ومتعارضا في بعض وجوهه مع مجتمعه المحيط كبطل إشكالي من نوع خاص.
المكان والاعتناء به في حد ذاته وكما لاحظ ناصر كامل فإن “علاقة الراوي بالمكان علاقة فريدة فهو يمتلك عينا دقيقة حساسة قادرة على رصد خصوصية المكان والتعبير عنها تعبيرا خاصا به وكأنه يصنع مكانه الخاص عبر شعوره به ومن خلال وعيه الخاص بالمكان.” ونتفق مع ناصر كامل في هذه النقطة تحديدا وهي صنع المكان الخاص ونقله إلى مستوى رئيسي على طول العمل. تتنوع الأماكن من البيت إلى الشارع إلى الجامعة إلى البار إلى المقهى وإلى المدن. كل شخصية سواء أكانت رئيسية أم هامشية إنما تتحرك في مكان فيزيقي يخصها وربما لن نجد حدثا واحدا يتحرك في فضاء متخيل مثلا. وليس فقط الاعتناء بذكر الأماكن والغوص فيها كملاعب الطفولة مثلا كالحضانة والحي القديم الذي نشأ فيه الراوي من حي عابدين إلى المعادي من جزيرة رودس إلى شرق السودان ومن المترو إلى عربة الميكروياص. الانتقال في المكان هو الحدث نفسه وكأن المكان هنا هو المحرك الخفي والظاهر لمصائر الشخصيات وتحولاتها
هناك مكان آخر غير مرئي في النص ألا وهو وقوف الراوي على التخوم التاريخية للحدث. هذا الاستدعاء التاريخي لبعض الأحداث لا يأتي اعتباطا وإنما لسبر المكان من موقع آخر وليسن في تقديرنا، كما رأى ناصر كامل أنه تأويل سياسي لمطاردة الفاشيين لفتحي وذكر الراوي للامتيازات الأجنبية وأنه يود أن تدور حكايته في “منعطف تاريخي” ولا نرى الأمر من هذه الزاوية فالراوي بإصراره على الوقوف على تخوم الحدث التاريخي إنما يقوم كما أسلفنا بتوسيع للمكان فالجد يهبط المدينة عشية الحرب الأولى والأب إلى السعودية بعد السد العالي وحرب 1967 والحفيد أو الراوي على تخوم أحداث حرب الخليج وهكذا والصحة التاريخية هنا للحدث لا تهم كثيرا فهو ليس تأويلا سياسيا بقدر ما هو تأويل مكاني يصنع للمكان ألفة جديدة ويعطيه حياة أخرى.
بقي لنا عنصر واحد سنختم به هذه القراءة ونقصد به عنصر اللغة. اللغة عند ياسر عبد اللطيف تكاد تكون، في تقديرنا، هي “بطل الرواية” لغة مصنوعة بإتقان شديد متخلصة من زوائد كثيرة ومشذبة إلى حدود كبيرة. الملاحظة الأولى أن ثمة نفسا واحدا على طول العمل سواء كان الراوي هو الراوي العليم أو الراوي المتكلم، المنطق نفسه نراه على امتداد الرواية. وهذه اللغة تود أن تقع في مكان يخصها وتنجح كثيرا في هذا وسنستشهد هنا بمقطع من محمد بدوي يقول فيه:” كان شعر ياسر يتكئ على السرد نائيا عن تدفق الذات وهذيانها مفضلا الشح اللغوي والرصانة. فتشعر بالتأمل الفلسفي جافا ضاغطا وكأن الصوت الشعري يتحدد بصعوبة. لكن ما كان يحاصر الشعر ويرهقه يتحول هنا إلى مزايا.”هذا التفريق الذي يضعه بدوي بين لغة الشعر ولغة السرد هو دقيق بالفعل ويفسر لنا هذه اللغة المنضبطة التي نراها في الرواية والتي ترغب
في أحيان كثيرة في استدعاء مفردات قديمة وإلباسها ثوبا جديدا ويمكن أن ندلل على هذا باستخدامه للجمل سابقة الإنشاء كأن يقول ” وضعت الحرب اوزارها” أو كسرت شوكتهم” وكذلك التناص مع النص القرآني واستدعاء مفرداته كالعهن المنفوش على سبيل المثال. هذا الجلب للغة قديمة داخل نص حديث لا يتم بمنطق الاستعراض المعرفي اللغوي وإنما نرى له وظيفة أخرى داخل النص تتمثل في كسر الإيهام مثلا على طريقة بريخت بمزج الغريب بالمألوف ومن هنا ولع الكاتب بالمفردات الكلاسيكية كما نجد ذلك في كلمة ” القمطر” وهي الموضع الذي تحفظ فيه الكتب وتصان، لكن ياسر عبد اللطيف يضعها في سياق يومي حياتي حديث مما ينقل المفردة من مجال لغوي بعينه إلى آخر.
لا يمكننا القول إن كل شخصية تستدعي هنا لغة تخصها اللغة تمضي بين شخصية وأخرى محافظة على نبرتها وحتى لو كان السرد موزعا بين ما هو تأملي وسردي وشعري كما يشير بدوي فإن اللغة تظل في حركتها واحدة. واللغة ليست ساخرة تماما بل تحافظ على موقع ما بين بين، يمكن أن تضحك لإحدى مفارقاتها كالحرب من الباطن والعلاج من الباطن في حفر الباطن. لكن لا يمكننا القول بوجود لغة ساخرة في مطلقها على طول العمل.
نود أن نختم قراءتنا هذه مؤكدين أننا أمام عمل جاد وإضافة هامة للسرد المصري الحديث لم نستطع أن نقاربه من جميع جوانبه لظروف البحث نفسها وإن كنا حاولنا رؤية تقنياته وآلياته.
يبقى أن نشير إلى أن الترجمة الإسبانية لرواية ياسر عبد اللطيف “قانون الوراثة” قد صدرت بالإسبانية عام 2007 تحت عنوان:
Herencias de El Cairo
Icaria Editorial. Barcelona 2007
Traducción del árabe de : Álvaro Abella
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ورقة بحث قدمتها نهاية العام الدراسي 2006- 2007 في إطار برنامج الدراسات العليا في جامعة كومبلوتنسي مدريد إلى البروفيسورة المستعربة ميلاجروس نوين المشرفة على مادة الرواية في قسم الدراسات العربية والإسلامية. وهذه نسخة مختصرة من البحث الأصلي)