في مثل هذا الوقت من العام الماضي

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
للكاتبة التشيكية ماجدالينا بلاتزوفا Magdaléna Platzovà* نسيتُ اسمها تلك الليلة واضطرَّتْ إلى أن تذكره لي عدة مرات. لم يكن الأمر أنني غير مهتم بها. ولكن كان علي أن أكون منتبهًا بشدة إلى ما تقولُ كي لا أتلعثم في الرد على أسئلتها السريعة المتلاحقة. كانت متحمسة، ولكن حماسها لم يكن زائدًا عن الحد. كما أنها لم تتوقفْ طويلاً عند موضوعٍ واحد بل استمرتْ في القفز من نقطة إلى نقطة دون توقف.

كانت الحانة التي التقينا فيها غارقةً في الظلام والدخان، وظهر ذرعاها العاريان من فستانٍ بلا أكمام في بياضٍ لا يصدق، كما لو كانا يمتصان الضوء ثم يشعانه من خلال فلترٍ مخمليٍّ أبيض اللون. في رواياتكِ الفرنسية، يصفون مثل هذين الذراعين بأنهما ذراعان من المرمر. لم يكن بإمكانها الادعاء بأن جلوسها بجواري جاء بالصدفة. ولِمَ لا؟ هذا شيءٌ لا أفهمه. عندما أدركتُ أنها مهتمةٌ بي، ونظرًا إلى أن هذا كان أمرًا مستبعدًا، كان أول ما تبادر إلى ذهني أنها تخلط بيني وبين شخصٍ آخر. كان هناك كثيرٌ من الناس، وفيهم من هم أكثر شبابًا وجاذبيةً مني. كما كان هناك كثيرٌ من المقاعد الشاغرة، وكان بإمكانها أن تجلس حيثما شاءت. فقط للتوضيح: كان توماس قد دعاني لحضور عرضٍ خاص لفيلم قصير مثلتُ فيه. هل تضحكين؟ حسنًا لقد بالغتُ عندما قلتُ “مثلتُ”، الوصف الأدق أنني كنتُ “أقف بدون أن أفعل شيئًا” في مشهدٍ ما.

لا يزال توماس نفس الشخص الذي عرفتِه، مخلصٌ لمبادئه الفنية، أطلق عليَّ النار من الخلف، وأنا أقف أمام نافذة. انبعثتْ الوحدةُ من ظهري المحدَّب، المظلَّلِ بالسواد، المحدَّدِ بإطار النافذة المستطيل المضيء. ربما كان هذا ما جذبها إليّ؟ شخصيةٌ كئيبةٌ في غرفةٍ ذات سقفٍ عالٍ وجدرانٍ باردة. هل عادتْ الوجوديةُ لتكون صيحةً رائجةً مرة أخرى؟ لست متأكدًا. ربما لم أكن أنا من يثير اهتمامها، بل حوارٌ مثل هذا، النشاطُ المعروف بتبادل الحديث.

كانتْ تُواصل الاقتراب مني خلال الأمسية، تُحرِّكُ كرسيَّها، تميلُ عليّ، تلمسُني بيدها وبركبتها المغطاة بجوارب شاحبة. وتركتْ رقم هاتفها على الطاولة قبل أن تغادر.

يمكنني أن أقول أنكِ تضحكين مرةً أخرى، لا يوجد سوى شيءٍ واحد برأسك، كما أنكِ لا تفهمين ترددي وارتباكي. ولكن هل لا يزال بوسعكِ أن تتذكري الأيام التي كنا نعتبر فيها – أنا وأنتِ وأصدقاؤنا – المحادثةَ نشاطًا يستحق أن نلتقي من أجله؟ كان تبادل الكلمات مهمًّا لنا كالحياة. عندما كنا نتكلم كنا نشعر بأننا نحقق اكتشافاتٍ عظيمة. هل من الممكن أن تريد هذه الفتاة رؤيتي فقط لنواصل الحديث؟

ظهرت لوسي المرمرية بأسئلتها فجأة في حياتي لتجد أنني غير مستعد لهذا. كان عليّ أن أكبح نظراتي الهازئة، ضحكاتي، سخريتي، فقط لأبدو جادَّا بقدرها. ولكن هذا جعلني أشعر بالارتباك والخجل. وبينما كانتْ تطلق العنان لنفسها من خلال كلماتها كنتُ أبدو دائمًا وكأنني أخفي شيئًا.

جاوز الوقت منتصف الليل عنما غادرتُ الحانة. قررتُ أن أتمشى للبيت. لاحتْ الظلال المرتعشة على الجدران والأرصفة، وتسارعتْ السحب التي تعبر القمر. تذكرتُ أنكِ كنتِ تحبين الليالي التي تعبث فيها الريح مثل هذه الليلة، وأنه قد انقضى عامٌ كامل، وبدأتُ في التحدث إليكِ.

أقول إن التحدث مع فتاةٍ شابة أمرٌ يجلب البهجة والكآبة في الوقت نفسه، لأنه من المستحيل أن تفهمني حقًّا دون أن تجدني مثيرًا للاشمئزاز. ولا أتحدث هنا عن انعدام إحساسي بالأمان، فأنتِ تعرفينني. لا أعتقد أنني أكثر سوءًا من أي شخصٍ آخر، أنا فقط أعني أننا بمجرد وصولنا إلى سنٍّ معين، وإذا لم نكن على درجة عاليةٍ من الحرص، فإننا نبدو عاجزين في أعين من هم أكثر شبابًا وجمالاً وإشراقًا. كلما تقدم المرء في السن، قلت قدرته على الإفصاح عن ذاته.

ولهذا، كانت الطريقة الوحيدة لاستمرار الحديث مع لوسي هي التخفي والمناورة. أن ألتهم شبابها في مقابل أن أشاركها الأجزاء التي أعتبرها لائقةً من نفسي. ربما لم تفهم الأمر، ولكن ألا يتطلب هذا الكثير من الجهد؟ أجل، الجهد.

أنا متأكد أنها ترى الأمر بطريقةٍ مختلفة. إذا لم أتصل بها بعد هذه الليلة، ربما تظن أنني لم أفعل لأنني أخاف أن يحدث شيء، بينما الحقيقة هي أنني أخاف ألاَّ يحدث شيء.

“ومع هذا، فالأمر يستحق المحاولة، أليس كذلك؟”

سألتُ نفسي كما لو أنني أنتِ، أفعل هذا كثيرًا عندما أكون ثملاً.

“ألا تفهمين، أخشى أن لا تكون راغبةً في مضاجعتي؟”

هناك شيء أريد أن أسألكِ بشأنه:

هل تذكرين عندما توقفنا، أنا وأنتِ وأصدقاؤنا، عن التحدث بجدية؟ متى بالتحديد بدأنا نأخذ كل شيء بخفة بما في ذلك أنفسنا؟ متى أصبحنا غير قادرين على استخدام كلماتٍ معينة دون سخرية؟ لقد حاولتُ أن أفعل هذا الليلة، بإخلاص، رغم إحساسي الشديد بالارتباك. ثم لاحظتُ أن لوسي تبدي انتباهًا شديدًا جدًا لما أقول، كما لو كنتُ كائنًا فضائيًّا من كوكبٍ آخر تحاول أن تفهمه لأنها قد تتعلم شيئًا منه. هل تفهمين ما أعني؟ فَمُها المفتوح وجذعها المائل، كل بوصة في جسدها الأبيض الشاحب كانت تعبِّر عن الجهد الذي تبذله. شعرت أنني جدّ وحيد.

وفكرتُ بكِ.

في هذا الوقت من العام الماضي عندما خطوتِ خارج الشقة وأغلقتِ الباب خلفكِ، ونزلت عبر ذلك الدَّرَج المألوف، ولكن عند نقطة ما، أثناء هبوطكِ، توقفتِ، وبدلاً من الاستمرار في طريقكِ، فتحتِ النافذة، وقفزتِ.

أحب أن أتخيل أنَّ النافذة كانت مفتوحةً بالفعل، وأنها كانت منخفضةً وكبيرة، ليكون بإمكانكِ عبورها بسهولة، كما لو كانت بابًا. أود أن أرى موتكِ كما لو كان فعلاً عفويًّا. ولكن هل يمكن أن يتحقق شيءٌ بشكلٍ بسيطٍ ومباشرٍ كفكرة.

كان ينبغي أولاً أن تُلقي حقيبة ظهركِ الجلدية على الأرض، ثم كان يجب أن تديري المقبض وتفتحيه بكل قوتِك، ثم كان يجب أن تتسلقي الحافة، التي كان يكسوها العفن. ربما انزلقت قدمكِ لذا توجب عليكِ المحاولة مرةً أخرى. هل خلعتِ نظارتكِ؟ أنا متأكد أنك فكرتِ في ذلك على الأقل.

هل تعلمين، أدركُ الآن، أن تلك الصدمات، والانحناءات، والتمزقات، والإعياء المصاحب لها، هي ما كنتُ أخفيه عن لوسي.

 

*عن ترجمة Alex Zuker الإنجليزية. نُشرت الترجمة الإنجليزية في Words without Boarders عدد نوفمبر 2014.

* الكاتبة التشيكية ماجدالينا بلاتزوفا Magdaléna Platzovà:  ولدت في 1972، وترعرعت في براغ. درست في واشنطن العاصمة وإنجلترا، وحصلت على ماجستير الفلسفة من جامعة تشارلز في براغ. وتعمل حاليًا محررة ثقافية في جريدتي Literární noviny و Respekt التشيكيتان. عاشت في نيويورك بين عامي 2009 و 2012 حيث حاضرت عن فرانز كافكا في جامعة نيويورك. أم لثلاثة أطفال وتعيش الآن في ليون-فرنسا حيث يعمل زوجها في معهد WHO لأبحاث السرطان. نشرت مجموعتين قصصيتين وروايتين، وتُرجمتْ روايتها Aaronův skok إلى الإنجليزية في 2014 تحت عنوان Aaron’s Leap .

مقالات من نفس القسم