ياسر سلطان
في زمن بعيد، بعيد جداً، كان لي ابن صغير؛ ما زلت أتذكر نظراته الحائرة ووجهه المستدير الهادئ حين يخلد للنوم، ويحيطني طيفه حتى أكاد أشعر بأنفاسه الدافئة. كان يحبو حين ارتحلنا إلى أحد التلال تجنباً للمطر الغزير الذي ظل يهطل لأيام دون توقف. غمرت السيول جميع الأراضي المنبسطة وجرفت بيوتنا التي بنيناها من أغصان الأشجار. في طريقنا إلى أعلى التل كنا صيداً سهلاً للوحوش الجائعة، وكان النحيب يسري موجعاً كأغنية حزينة يتناوب الجميع على ترديدها.
أتذكر الآن جيداً صوت هذه المرأة! كنا قد توقفنا قليلاً، وانشغلنا في جمع الثمار حينما شق صراخها الفضاء؛ عندما وصلنا إليها كانت الوحوش قد نهشت جسدها واختفت مع طفلها بين الأشجار. لم تحتمل المرأة مشقة الطريق؛ ماتت وعيناها تستنجدان بالسماء. تركنا جسدها إلى جانب صخرة قبل أن نعبر جدولاً صغيراً، غير أن صوتها المستغيث ظل يتردد في الفضاء مختلطاً بصوت المطر، حاداً كعواء طائر، ومنكسر كصوت حيوان جائع.
حين وصلنا جلست منهكاً مع من تحلقوا حول النار مستمعين إلى أحد الآباء؛ كان يروي حكايات عن النجوم اللامعة في السماء، وكيف أن أرواحنا ستستقر يوماً إلى جوارها، مؤكداً أن من رحلوا يراقبوننا الآن ويحرسون خُطانا. كان الرجل يتحدث بصوت متهدج ومتعب، ويدور حولنا بين الحين والآخر فيلامس رؤوسنا بأطراف أصابعه. لم أستطع مغالبة النعاس، كان ضوء الصباح يتسلل في الأفق حينما وضعت رأسي على كومة الحطب بجواري واستسلمت للنوم.
عندما استيقظت وجدت نفسي مستلقياً على العشب، ومحاطاً برجال يلفون أجسادهم بجلود ملونة؛ في أيديهم قطع مضيئة، يقربونها من أفواههم ويتحدثون إليها بصوت مسموع. دفعني هؤلاء داخل سلة كبيرة وصُلبة، تُصدر صوتاً مخيفاً حينما تتحرك. أعطوني ملابس ملونة وطرية تشبه ما يرتدونه، ووضعوني في كهف له جدران ملساء، قضيت فيه أياماً كثيرة لا أعرف عددها. كان يأتي أحدهم ويتحدث إليّ بكلمات لا أفهمها ثم ينصرف، تاركاً أمامي آنية لامعة عليها طعام لم استسغه وقتها.
أعي الآن ما تعنيه بالطبع؛ تقولين إنك زوجتي وأنني والد هذا الصبي ذو العينين الواسعتين والشعر المجعد. آه.. يبدو أنني فعلت أشياء عديدة لا أتذكرها! ولكن، أتعلمين؟.. إن ملامح هذا الصبي الذي تقولين إنه ابني تشبه ملامح ذلك الطفل الصغير الذي تركته أعلى التل نائماً بجوار أمه، ربما في زمن بعيد؛ بعيد جداً.