إيناس عيسى
تعددت الأسباب و القتل واحد؛ إسدال الستار على حياة شخص ما بدافع معين، في لحظة بعينها، ينتهي بعدها دافع القتل والذي قد يكون سرقة- ثأر- خيانة.. إلخ
ولكن ماذا لوكان دافع القتل هو القضاء على عين أحدهم والتي كانت تشبه عين النسر؟ هل يبدو ذلك منطقيا؟ بالطبع لا. ولكنك ستجده دافعا ذو أدلة منطقية ومبرهنة إذا كانت قصة للأديب الأمريكي الكبير إدجار آلان بو(1809-1849) والذي يَعتبر من الآباء المؤسسين للقصة البوليسية ورائد من رواد القصة القصيرة التي تقوم على أفكار التحرّي في الأدب الأمريكي.
يقوم بو بتقديم جرعة شيقة من البوليسية في قصته القصيرة (القلب الواشي) التي تم نشرها عام 1843، والتي تحكي عن جريمة قتل، يتم سردها على لسان القاتل، الذي يرفض أن يصفه أحد بالمجنون ” مجنون، هذا ما ينادونني به. إنني حقا عصبي.. شديد العصبية. ولكن لماذا يقولون إنني مجنون؟!”
يبدأ الراوي قصته بهذا التساؤل الذي يرى فيه اجحافا وهجوم شرس على كونه شخص سليم، هو فقط شديد الحساسية للأصوات نتيجة حمى أصابت حواسه بالحدة، خاصة حاسة السمع، لكن ذلك لا يعني كونه مجنونا؛ حتى قيامه بقتل أحدهم ووضع جثته أسفل ألواح الأرضية الخشبية لا يُعد جنونا، هو فقط محاولة للحفاظ على الذات مما يهددها . كما أنه لم يكن مشوش الذهن، بل خطط لكل شيء بحكمة وعناية وكان يعمل بحماس، فكيف به أن يكون مجنونا؟!
عملية قتل مبرَّرة
يعترف الراوي بعملية القتل، بل ويصفها بدقة دون خوف أو تردد. فلقد استأجر سكنا لدى ذلك العجوز- الذي سيكون ضحيته فيما بعد- وكان يجده شخصا طيبا. لكنه ما لبث أن وجد من عين ذلك العجوز مصدرا لإزعاجه، بل خطرا يهدد حياته بأكملها. فهو يصفها قائلا ” كانت عينه هي التي تزعجني..كانت زرقاء باهتة عليها غشاوة. وكلما نظرت هذه العين نحوي، أشعر بدمي يجري باردا..”
يرى مجنون بو أن كل ما قام به مبررَا، كما أنه لم يقم به دون قصد، بل كان عاقدا العزم، وساق الأدلة على ذلك. فهو لم يقم باي عمل دون إبداء الدافع له، وان لم يكن منطقيا، لكنه يرى في كل ما قام به عملا منطقيا له أسبابه: فعين العجوز الزرقاء الباهتة والتي تشبه عين النسر أصبحت خصمه الذي سيسعى للتخلص منه للأبد بأي شكل كان. ففي الواقع، لم تكن خصومته مع العجوز ولم يكن يحمل له ضغينة ، لكن ماذا يفعل حتى يستعيد راحة باله وهدوءه؟ ربما قتله يصبح أكثر الحلول واقعية ” انني سأقتل هذا الرجل العجوز. وبالتالي سأتخلص من هذه العين إلى الأبد”.
ولتعزيز الدليل على أن خصومته كانت مع العين لا العجوز، فأثناء مراقبته للعجوز ليلا لمدة سبع ليال متتالية لم يستطع أن يقوم بأي فعل، فلقد كانت تلك العين مغلقة، لذلك لم يقم بشيء “كنت اجد العين مغلقة..لذلك كان من المستحيل أن أؤدي عملي لأنه كما ترى لم يكن العجوز هو الذي أغضبني ولكن عينه الشريرة هي التي كانت تغضبني.”
لكن في الليلة الثامنة، وأثناء تسلله لحجرة العجوز كعادته، وجدها مفتوحة؛ فلقد هب العجوزمستيقظا إثر شعوره بدخول أحد غرفته، والآن ماذا عليه أن يفعل “كانت العين مفتوحة..مفتوحة على اتساعها. اشتعل غضبي عندما حملقت فيها، لقد رأيتها بالتفصيل، يلفها كلها لون أزرق معتم ويغلفها حجاب بشع! لقد دفعت بالقشعريرة الباردة إلى داخل نخاع عظامي، ولم أستطع أن أتبين أي شيء آخر من وجه الرجل أو جسده لأني كنت موجها شعاع المصباح بالتحديد إلى عين النسر.”
مع ارتفاع صوت ضربات قلب العجوز، مع شعوره بأن أحد ما اقتحم غرفته، بينما لا يستطيع رؤية شيء لأن الغرفة غارقة في الظلام الدامس، تسبب ذلك في استثارة المجنون وزاد من غضبه وقاده لفزع لا يقاوم، كما أنه كان قلقا بشأن أن يسمع أحد الجيران تلك الدقات الصارخة. فقرر أن ساعة العجوز قد حانت. وبعد قتل العجوز يقوم المحنون بإزالة بعض ألواح الأرضية الخشبية ليواري الجثة أسفلها.
مجنون إدجار آلان بو
لقد صنع بو قصة نفسية تنتمي إلي أدب الرعب بأسلوب بسيط وغير متكلف ، فهويسرد قصته من خلال راو، هو بطل القصة والمتهم، وهو شخص غير موثوق بشهادته لأنه يعاني من مرض جنون العظمة والاضطهاد. لا يمكن بالتحديد معرفة إلى من يقوم الراو رواية قصته، فلربما كان قاضيا، أو طبيبا نفسيا، أو محققا. يقوم الراوي بوصف انفعالاته بدقة شديدة ليضع القاريء بحالة نفسية معينة تجعله مترقبا لما سيحدث بعد كل خطوة. كذلك لم يتم ذكر أسماء الأبطال أو المكان الذي تمت فيها الجريمة، فلقد صب بو جل اهتمامه على حبكة القصة وحالة البطل العصبية.
على مدار القصة لا يقوم الراوي بمحاولة تبرأة نفسه من الجريمة، لم يكن ذلك دافعه من الحكي، بل كان دافعه هو التأكيد على أنه ليس مجنونا وأنه في حالة ذهنية وعقلية جيدة. بينما يقوم المشهد الأخير برسم صورة حية عن شعوره بالذنب وتأكيد خلله العقلي؛ فما لبث أن شعر بالانتصار بعد التخلّص من تلك العين للأبد حتى طرق بابه ثلاث من ضباط الشرطة جاءوا إثر بلاغ من أحد الجيران بعد سماعه صرخة القتيل، لكن ثقته وفرحه بالانتصار جعلته يستقبلهم بترحاب في غرفة القتيل وأن يضع كرسيه فوق الألواح التي ترقد أسفلها الجثة. لكن بالبرغم من أنه عمل على إظهار أنه شخص طبيعي غير مجنون ودفاعه المستميت عن سلامة عقله، إلا أن مرضه العقلي، أوحدة حاسة السمع لديه، كما يزعم، قد دفعته للاعتراف على جريمة القتل، وذلك عندما تهيأ به ارتفاع صوت دقات قلب القتيل، فقام بانتزاع الألواح الخشبية لإظهار الجثة.
أدب بوليسي
تعد قصة (القلب الواشي) من النماذج الأولى عالميا للأدب البوليسي الذي كان بو من رواده. كان بو، بجانب حسه النقدي، مولعا بالعمل البوليسي لدرجة أنه كان ينتقد المحققين ورجال الشرطة الذين لا بلتفتون إلى تفاصيل صغيرة مهمة في البحث عن قاتل ما.
كان بو كاتب قصة فصيرة وشاعروروائي وناقد أدبي وكاتب مسرحي، كما أنه كان غزير الانتاج بالرغم من أن حياته كانت قصيرة، فلقد توفي في الأربعين من عمره. كانت شخصيته غريبة زاخرة بالتناقضات وذلك نتيجة لحياته البائسة التي عاشها ما بين يتم ومرض، فعندما كان بو في أوج شهرته أدركه المرض والذي لم يبرأ منه حتى وفاته. فهذا المسار المتعرج والصعب ترك آثارا واضحة على مجمل أعماله. لذلك لم يكن من الصعب تقبّل وفهم شخصية القاتل في قصة القلب الواشي، فلربما لم يكن مجنونا!