السرد الماكر وإثارة الدهشة في “شوكولاتة نيتشه” لصابر رشدي

شوكولاتة نيتشه
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. أشرف الصباغ

يخدعنا الكاتب صابر رشدي في مجموعته “شوكولاتة نيتشه” باستهلال لغوي، إذ نتوقع أن تتواصل اللغة الصوفية بإشاراتها وتلميحاتها، وبمفرداتها الطازجة التي تمس الروح مباشرة. فهو يتحدث عن “المنام” و”الجمال” و”المغمور بالضياء” و”النشوة” و”الاستغراق” و”الوصول” و”الابتسام” و”المحبة” و”يمضي” و”أروقة الخفاء” و”الانجذاب” و”الغبطة” و”الذهول” و”الكلام”..

كما يخدعنا مرة أخرى في استهلاله هذا تحديدا حينما نتصور أن هذا مجرد استهلال أو تقديم لتفاصيل ما آتية فيما بعد. ولكن عندما نتعامل مع هذا النص “الاستهلالي” كنص قائم بذاته، سنكتشف أنه بحد ذاته قطعة فنية تمتلك دلالاتها الخاصة وتأويلها لتلك العلاقة الخفية بين ذلك الصبي وبين ذلك الذي يريد الحكي والكلام مثله، بين الكاتب الكبير وبين الكاتب الصغير الذي يظهر في الحلم وهو يمسك “بيده ريشة ذهبية يخط بها على الأوراق”، بين الكائن الكبير في مرحلة رجولته وبين أصله الصغير في طفولته.

تلك المشاهد الحياتية الصغيرة بتفاصيلها التي تلتقطها ليس فقط عين الطفل والصبي، بل وأيضا عقلهما ووعيهما، تشكل عالم أبطال القصص الستة والعشرين التي تضمها مجموعة “شوكولاتة نيتشه”. إن عين الطفل الكبير وذاكرته تتجاوران مع عين الطفل الصغير وحدود وعيه بالأشياء والتفاصيل. وهو ما ينقذ الحكي من المباشرة وينقله إلى مستوى “التحرش الثقافي” بالقارئ، وبوعيه وقرينته الثقافية وتفاصيل حياته. إننا هنا بصدد خلطة تجمع بين إثارة الدهشة والغرائبية وخفة الظل والتناقضات الدرامية والحياتية المحرضة على إلقاء الأسئلة.

تتجلى مقدمات النقد الاجتماعي الذكي في قصص مثل “العلاج بالماعز” و”المترنحات وذكور البط” و”سرادق صغير” و”طابور” و”ضاربة الودع”، حيث الأحداث الخاطفة تدور في بيئة شعبية، أو بالأحرى في الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، وبعضها في قلب الطبقة الدنيا بشرائحها المختلفة والمليئة بالتناقضات التي لا تقل إثارة للدهشة عن تلك التناقضات التي تميز شرائح الطبقة الوسطى نفسها. إن الكاتب يتجول بنا في الأسواق الشعبية والعلاج بلبن الماعز الذي قد يعادل العلاج ببول الإبل وكل الإسقاطات المرتبطة بذلك، ثم يأخذنا إلى سرادقات العزاء وعالم النفاق المتداخل مع بيع الدين والوهم والتجارة بمشاعر تتعلق مباشرة بروح لإنسان وإيماناته. وبعد ذلك إلى عالم الزار الذي ينطوي على العديد من مستويات الوعي والحياة و”الفعل” عند المصريين. وفي “الطابور” يأخذنا إلى عالم المستشفيات الحكومية والمهازل التي تدور هناك. وفي مشاهد سريعة دالة يحكي لنا بعين الطفل، وبشكل يكاد يكون حياديا تماما إلا من بعض مراقبات وملاحظات الطفل الأكبر قليلا، عن تجارب وخبرات مررنا بها جميعا أو سمعنا وقرأنا عنها أو عشنا بعض جوانبها. وبالتالي، علينا أن نلجأ إلى قرينتنا الثقافية – الاجتماعية، وإلى بعض تفاصيل حياتنا، لندخل إلى صلب المعنى الملفوف جيدا في خفة ظل أو مزحة أو نكتة عابرة. علينا أن نلجأ إلى خبراتنا وقرائننا لنمد الخطوط على استقامتها، ولنكمل اللوحة التي استفزها الحكي، ونضع أقدامنا على الطريق الصحيح لفهم تلك المعادلات الاجتماعية والمثيولوجية ومغزاها ودورها في حياتنا، ومدى ارتباطنا بجملة من المفاهيم والتصرفات التي تشكل جوانب مهمة من حياتنا.

في “برطمان زجاجي” و”انتصارات” و”سينما فلوريدا” و”النيل عند وكالة البلح” و”النافذة” يطرح الكاتب صابر رشدي ليس فقط نماذج شعبية مصرية، بل نماذج مرتبطة ببيئة وشريحة اجتماعية ووعي وطريقة حياة. نماذج تكاد تتطابق مع كل قارئ على حدة لتعيده سيرته الأولى ووجه إليه سهام الدهشة والعجب وهو يرى نفسه، مثلما رأى الكاتب نفسه في “الاستهلال”، أحد أبطال هذه القصص بنفس التفاصيل أو بتفاصيل أخرى أكثر أو أقل. إننا هنا أمام حالة من “إثارة الدهشة”، و”الإرغام” على الدخول من أبواب جديدة إلى حكايات قديمة عادية لدرجة الاستثناء.

في بعض القصص مثل “أنامل” و”الطريق إلى الاستاد” و”ريح أمشير” و”هناك شيء يحترق” و”مخدرات الطفولة” يتدرج الحكي من مناطق الخطر والمغامرات الطفولية إلى مناطق السخرية التي تسير على الحد الفاصل بين المزاح المُغْرِض وإثارة الدهشة بعفوية تكاد تكون مقصودة ولكن عيون الطفل تنقذ الحكي من المباشرة وتلفلفه جيدا في لغة بسيطة تخدعنا ببساطتها وسهولتها ومكرها ومقاصدها.

هذه اللغة الماكرة التي تنتحل ملامح الطفولة وترتدي أقنعة الصبا، وتبدو أداة طيِّعة لحكي أقرب إلى التقليدية والابتذال، تخدع العين المتسرعة. ولكن العين النافدة التي تنظر إلى ما وراء الحدوتة أو الحكاية التي نكاد نعرفها جميعا، ترى شيئا آخر تماما وتدرك ما يدور خلف القشرة الأولى المباشرة. فالمسألة هنا ليست ما يجري سرده أو ما يتم حكيه أو الحكي عنه، بقدر ما هي في كيف يتم حكيه وفي أي سياق. وهنا يكمن مكر الكاتب، وقدرة الحكي على إثارة الدهشة.

هناك بعض القصص التي تبدو خارجه عن السياق العام للمجموعة مثل “سيدة النهر” و”وسط البلد” و”الرئيس سيمر بعد دقائق”. تكاد كون قصص “تسجيلية” للحظات حقيقية لم يتمكن السرد من نقلها إلى مستوى أعلى من الواقع لتقترب من صياغة واقع آخر أو تستشرف أفقا إنسانيا أقرب إلى الفن. ومع ذلك فقصة “الرئيس سيمر بعد دقائق” يمكنها أن تؤرخ لزمن حكي القصص الأخرى والسياق الزمني العام الذي يحكم مسار الأحداث وتراكيب الشخصيات والمَشاهد بشكل عام. هذا النوع من القصص، في وسط قصص أخرى، يمكنه أن يكون مؤشرا عاما لمسار المجتمع وتوجهاته في فترة زمنية معينة، وإشارة إلى المشاكل الاجتماعية والسياسية الأساسية، وقد يكون شكلا من أشكال الاجترار الخاص الذي يبدو في ظاهره مجرد شهادات مبتسرة على وقائع وأحداث حقيقية، ولكنه في حقيقة الأمر – الحقيقة الفنية هنا – يعكس تأريخا مباشرا لزمن حقيقي ملئ بالفشل والنجاح والانهيارات، وبالأحلام والطموحات والكوابيس، وبالنزوع إلى الحق والعدل والمُثُل العليا. في هذا السياق تحديدا تتحول قصة “اشتباك” إلى مدخل للسياق العام لقصص المجموعة ولعالم أبطال تلك القصص القصيرة بمشاهدها ونتوءاتها البارزة ومنحنياتها الخفية. فهي ببساطة تدور حول احتجاجات 18 و19 يناير 1977. أي أن هذه الأحداث تكاد تكون مركز المجموعة، بما فيها الإشارة إلى اغتيال الرئيس أنور السادات في 6 أكتوبر عام 1981 في قصة “الرئيس سيمر بعد دقائق”.

إن المقصود بمركز المجموعة، هو التأريخ للأحداث وللفترة الزمنية التي شهدت تحولات اجتماعية وسياسية شَكَّلَت بدورها خلفية تاريخية لحركة الشخصيات ووعيها وإدراكها للواقع بكل هشاشته في تلك المرحلة. هكذا تشير جميع القصص تقريبا، وهكذا ينظر الراوي بعيون الطفل إلى أحداث مهمة ويطرحها بوعي الطفل وتوقه إلى تشكيل عالم مثالي في بعض القصص، والتوق إلى هذا العالم على الرغم من التناقضات التي يلاحظها ولكنه لا يفهمها حتى النهاية كما في قصة “خراط البنات”. هذا النزوع لعالم مثالي يتجلى أيضا في قصص مثل “جولات س. ع.” و”أنامل”، حيث الطفل مشبع بقناعة “العدل” بمعناه الساذج والمباشر، وحيث تنتصر العدالة في النهاية. تلك العدالة التي يتم تنفيذها من جانب واحد، عندما ينتصر رجل الشرطة على “المنحرفين” و”الأشقاء” ويهزمهم ويحط من شأنهم أمام العامة بصرف النظر عن القانون، وبصرف النظر عن الإعجاب الخفي الذي يكنه الطفل الصغير لهؤلاء المنحرفين والأشقياء “المجرمين”!!

في قصة “شوكولاتة نيتشه” يصل صابر رشدي إلى ذروة الإدهاش القائم على الغرائبية والتركيز على التناقضات. وفي الحقيقة، فالمجموعة بشكل عام تحتوي على عدد من القصص المرتبطة بالجن والعفاريت والزار والكائنات الماورائية والماتحت أرضية والسفلية. ولكنه في هذه القصة يطرح نموذج الإنسان الانتهازي على خلفية الحدوتة الشعبية المعروفة حول المرأة الملبوسة أو المرأة “المخاوية”. وفي الوقت الذي لم يتعمق فيه الكاتب في أصل الحدوتة أو في بحث أصولها، وفي تلك الحالات التي تظهر فيها المرأة الملبوسة أو المخاوية، وأسباب ذلك، فقد تناول حدوتة حياتية أخرى على خلفية الأسطورة المعروفة ليطرح أمامنا سلسلة من التناقضات والظواهر العجيبة المتعلقة بالنفعية والانتهازية وانحدار الإنسان أمام التفاصيل المادية وتنازله عن جوانب كثيرة من منظومته القيمية من أجل المكسب والربح.

مجموعة “شوكولاتة نيتشه” لصابر رشدي مكتوبة بمفردات لغوية متناسقة كأن الكاتب يغزل فستانا لطفلة فتحت عينيها للتو على عالم من الدهشة والعجب واللهو، أو لصبية من لحم ودم وذكريات تتعامل مع الحياة كمزحة. حالة من خفة الروح وخفة الدم والحكي السلس الذي يستعرض شقاوة الطفولة وتشكيل الروح على خلفية تفاصيل اجتماعية مستترة ومتوارية قد يحددها القارئ بذات نفسه، وربما بذات وعيه وبقرينته الثقافية – الاجتماعية.

 

مقالات من نفس القسم