فيلم “اشتباك”.. تسع سنوات ويستمر الاشتباك

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود عماد

منذ تسع سنوات، وتحديدا في العام 2016 تم عرض فيلم “اشتباك” للمخرج محمد دياب، سيناريو وحوار محمد دياب وخالد دياب، وذلك في مهرجان كان السينمائي الدولي، في افتتاح مسابقة “نظرة ما”، ومن بطولة نيللي كريم، طارق عبد العزيز، هاني عادل، أحمد مالك، وآخرين.

حصل الفيلم على إشادة دولية كبيرة في المهرجان، حيث اعتبر فيلما جريئا يقدم واقعا سياسا بنظرة إنسانية كبيرة، الفيلم إنتاج مشترك بين فرنسا ومصر وألمانيا والإمارات العربية المتحدة، وتم اختياره لتمثيل مصر عن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية في جوائز الأوسكار لدورة التاسعة والثمانون، لكنه لم يُرشح.

استقبال الفيلم في مصر كان متباينا بشكل كبير، حيث حصل الفيلم على إشادة نقدية وفنية كبيرة، ولكنه واجه هجوما سياسيا كبيرا من جميع الفئات السياسة التي رأت أن الفيلم ينحاز لأعدائها، ويجرمها بشكل ما.

أما بالنسبة للرقابة فقد عرض الفيلم كاملا دون حذف أو تعديل في دور العرض، مع إضافة جملة واحدة بحجم خط يكاد لا يرى قبل بداية أحداث الفيلم، وهي: «بعد ثورة 30 يونيو قامت جماعة الإخوان باشتباكات دامية لمنع الانتقال السلمى للسلطة»، وحدث هذا بالتوافق مع جهة الإنتاج والتوزيع الخاصة بالفيلم، وذلك رغم اعتراض المخرج محمد دياب، وهو اعتراض مفهوم وفي محله، وذلك لأن الجملة تجعل الفيلم يبدأ منحازا لطرف على حساب الآخر، ولكنها جملة وضعت بالتوافق مع الرقابة من أجل عدم اقتطاع أي مشهد من الفيلم، والفيلم على مدار أحداثه سينتصر عليها في كل مشهد رغم اعتراض مخرج محمد دياب.

الفيلم جاء في لحظة شديدة الحساسية في التاريخ المصري الحديث، مرت البلاد بثورتين متلاحقتين وتغيرات في الأنظمة والأفكار، وحجم الاستقطاب كان شديدا، وإن لم تكن معي فأنت عدوي.

ومع اقتراب ذكرى ثورة 30 يونيو، وانتهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين، وعزل الرئيس محمد مرسي بالإرادة الشعبية الجارفة، نحاول استعادة الفيلم بتحليله فنيا، ومحاولة طرح السؤال ماذا حدث منذ “اشتباك”، وحتى هذه اللحظة بعد مرور 12 عام على ثورة 30 يونيو.

الفيلم يدور بعد أيام من ثورة 30 يونيو، وعزل الرئيس الإخواني محمد مرسي، بعد مظاهرات واحتجاجات شعبية واسعة، انحاز لها الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع في ذلك الوقت، ويدور الفيلم في الجزء الأعظم منه إن لم يكن كله في عربة ترحيلات.

تبدأ أحداث الفيلم التي تظهر المظاهرات والاحتجاجات التي تنظمها جماعة الإخوان المسلمين اعتراضا على عزل مرسي، وتحاول قوات الشرطة فضها والتعامل معها، وهنا نرى صحفيين يحاولان تصوير ما يحدث ونقله، يتم الإمساك بهما، ونكتشف أنهما من مؤسسة إعلامية أجنبية، وأحدهما يحمل جنسية أمريكية بجانب جنسيته المصرية، وهو آدم “هاني عادل”.

يدخل الاثنان إلى عربة الترحيلات كأول نزيلين في رحلتنا مع الفيلم، نرى بشكل ضمني عنف الشرطة في الإمساك بهما والتحفظ عليهما داخل العربة، وحتى عدم الأخذ في الاعتبار أن أحدهما يحمل الجنسية الأمريكية، في رؤية أنه خائن وعميل ضد البلد في هذا الوقت العصيب.

نرى فكرة التخوين تلك ثانية في إحدى المظاهرات المؤيدة لثورة 30 يونيو، والتي يشارك فيها أناس عاديون للغاية يؤيدون الجيش، يرون عربة الترحيلات فيقذفونها بالحجارة، متهمين الصحفيين بأنهما من الإخوان، ولكن المفارقة أنه يقبض على تلك المجموعة من الناس بتهمة أنهم إخوان هم أيضا، وكأنها رسالة بأنه في ذلك الوقت التفريق أصبح صعبا، هنا نرى مشهدا عبثيا بعض الشيء أنصار النظام والجيش والثورة داخل العربة في القفص متهمين بخيانة الثورة.

في مشهد آخر تسير العربة حتى تصل لإحدى مظاهرات الإخوان ليحدث اشتباك لن يكون الأخير في فيلمنا المعنون بالاشتباك، وهنا تتسع العربة إلى فصيل جديد أنصار جماعة الإخوان المسلمين.

لنرى عربة الترحيلات شديدة التباين تمثل أطيافا واسعة وشديدة التنوع والاختلاف، هنا الإعلام، والأجنبي، مؤيدو ثورة 25 يناير، ومؤيدو الجيش وثورة 30 يونيو، هنا أناس عاديون، عائلة مكونة من الأم نجوى “نيللي كريم”، والأب حسام “طارق عبد العزيز”، والابن فارس “أحمد داش” مؤيدون للجيش، لكنهم دون توجهات سياسية أيدلوجية.

يتواجد أيضا من هم لا يعلمون عن السياسة شيئا، فيشو “حسني شتا” الذي لا يملك توجها سياسيا هو مشجع لكرة القدم، ورأى في المظاهرة مصلحة جيدة، ومنص “أحمد مالك”، والذي بشكله المميز لا يعرف معنى السياسة من الأساس هو فقط يحاول أن يكون دي جي مناسبات، أو يود أن يكون كذلك.

ونرى أيضا الإخوان ومحبيهم، فهنالك أعضاء التنظيم والنافذون فيه مثل معاذ “محمد علاء”، والمحبون مثل الفتاة عائشة “مي الغيطي”، ووالدها الشيخ العجوز.

تتحول عربة الترحيلات بكل ما تعنيه من ضيق واختناق لا يستطيع قاطنوها أن يتنفسوا جيدا بداخلها إلى رمز للمجتمع، هي رمز لمصر، تلك هي بلدنا بكل أطيافها المختلفة الذين يشتبكون معا ويختنقون معا مصيرهم واحد رغم اختلافاتهم، ورغم كون كل فريق يظن نفسه الفريق الناجي، وصاحب الحق.

تظل العربة تسير بلا أمل في خلاص حقيقي، وكأن هذا هو الوطن في عصر الاستقطاب يتخبط في رحلة غير معروفة الأهداف، تنتقل العربة بقاطنيها من اشتباك لآخر، اشتباكات محمومة بين الإخوان، وبين الشرطة، نرى بعض المشاهد التي توضح الانقسام الكبير فالشرطة تضرب في الإخوان، ومؤيدو ثورة 30 يونيو يهللون لها من داخل العربة، وعندما قام أحد أفراد الإخوان وهو قناص بالقتل في أفراد الشرطة هلل له أنصار الإخوان داخل العربة أيضا معتبرين أن ذلك هو القصاص الحق.

المشهد يؤكد الانقسام الشديد بين الفريقين، ولكن ما يؤكد عليه الفيلم هي اللحظة الإنسانية، والتي نشعر بها مع مقتل أفراد الشرطة، ونشعر بها مع مقتل فرد الإخوان، وهو تباين يؤكد حيادية الفيلم، وانتصاره في كل مواضعه لرؤيته الإنسانية البحتة، بحيث يصبح كل فصيل هو الجلاد والضحية في آن واحد.

مع الوقت ومع بقاء أفراد العربة معا تبدأ تتراءى لنا سردية جديدة عن أبناء الوطن الواحد الذين من الممكن أن يتعايشوا معا، باختلاف أفكارهم وأيدلوجياتهم مهما تباينت، وهذا ما يحاول الصحفي المصري الأمريكي آدم “هاني عادل” توثيقه بكاميراته في حلم وردي بمستقبل قد يكون أفضل.

ولكن مع نهاية الفيلم نرى أن ذلك التوافق صعب الحدوث بعد اشتباكات دامية تقع العربة تحت سيطرة الإخوان، والذين يأمرون سائقها الجديد بالذهاب إلى أحد مظاهراتهم مع وعد بعدم المساس برفاق الترحيل، وذلك رغم رفض الأطياف الأخرى في العربة لذلك، وهي عادة قديمة في الإخوان بالاستئثار بالقرار عندما يحصلون على السلطة.

تنطلق العربة حتى تصل لمظاهرات وتجمعات كبيرة من الناس، لا يعرف أحدا هل تلك مظاهرات الإخوان، أم مظاهرات تدعم الجيش وثورة 30 يونيو، تختلط الهتافات بين مؤيدة للجيش، وأخرى للإخوان، تقع العربة ضحية الاحتجاجات، وتنقلب مع كاميرا تهتز مثل العربة حتى تنقلب هي الأخرى في مشهد مظلم معلنة، استمرار الاشتباك.

“اشتباك” هو فيلم مميز للغاية بتقنياته الإخراجية التي تعتمد على إضاءة خانقة أقرب لظلام في أحيان كثيرة، وكاميرا واقعية تستمد حركتها من واقع الأحداث فتؤثر وتتأثر بها، وتتفاعل معها، حتى تضحى الصورة حقيقية كأنها توثيق لما حدث، وليس مجرد فيلم مصنوع.

على مستوى السيناريو فالفيلم ليس له بطل أوحد، فكل من في العربة أبطال، كلهم أخيار هذا العمل، وكلهم أشراره، لقد اعتمد السيناريو على البساطة والسلاسة، ربما وقع في بعض التنميط في بعض الأحيان، ولكن ذلك لم يكن بالأمر الكبير، وبالنسبة للحوار فلقد كان متزنا، ليس مزخرفا، وبالطبع ليس مبتذلا، كان منطقيا بشكل كبير.

ومن نقطة السيناريو والحوار، والإخراج أيضا نرى أن تمثيل فريق العمل، هو تمثيل متباين فالسيناريو والحوار لم يتركا مساحة للإبداع التمثيلي في أحداث الفيلم بشكل كبير، فكل الممثلين كان تمثيلهم جيدا، ولكننا لا يمكننا أن نقول أن هذا الممثل أو ذاك قد أدى دورا عظيما.

الفيلم يحاول أن يقف على حياد فني كبير، فهو لا ينتصر لفريق على الآخر، بل يعري كل طرف أمام الآخر، وأمام نفسه بالدرجة الأولى، فنحن نرى مؤيدي الجيش وثورة 30 يونيو أناسا حقيقيين، ولكنهم لا يملكون توجها حقيقيا، نرى الشرطة بشرا مثلنا تخطئ في التعامل بعنف مع الإعلام والصحافة وفي القبض على الناس، ولكن بها أفراد يملكون الإنسانية مثل المجند الذي عرض نفسه للخطر من أجل من في العربة، أو حتى من مشاهد الاشتباكات مع الإخوان واستشهاد بعض أفرادها.

نرى أيضا الصحفي آدم “هاني” وزميله المصور، واللذان يمثلان بشكل ما الإعلام، وحرية التعبير، وربما بقدر ما يمثلون أيضا مؤيدي ثورة 25 يناير، ولكنهما في نفس الوقت يفتحان قضية التمويل الأجنبي ومن يقف وراءه، فتلك الشخصيتان تحديدا من الممكن أن يتم تأويل الفريق الذي يمثلانه بأكثر من شكل.

الإخوان هم الآخرون نراهم أناسا يصدقون ما يفعلون يرون في سرديتهم الصدق عن المظلومية والشرعية، هم قريبون للغاية منا، بشر يشبهوننا، ولكنهم منقسمون عنا، بل يظهر الفيلم انقسامهم حتى مع محبينهم، يرون في أعضاء التنظيم فقط هم الناجية، يمارسون الاستعلاء على البشر بشكل مزر.

وهنا تكمن اللحظة الفنية، والتي تحاول أن تغلف السياسة بالإنسانية، تحاول أن تعالج الاستقطاب، أن تؤرخ للحظة شديدة الحساسية والخطورة في تاريخنا، فالفن دائما هو المؤرخ الأصدق بشكل كبير خاصة عندما ينبع من لحظة صادقة وحيادية تنتصر للإنسان أولا، وهذا ما تحقق في فيلم “اشتباك”.

ما سيظل يحسب لفيلم “اشتباك”، حتى هذه اللحظة أنه من الأعمال القليلة للغاية التي وثقت تلك اللحظة الهامة، وفي نفس الوقت لم يتخل الفيلم عن الجرأة في الطرح، بل تمتع بروح نقدية عالية تجاه جميع الأطراف، دون الانحياز لطرف، وربما كان الهجوم العنيف عليه من جميع الأطراف، هو شهادة كبيرة على نجاح الفيلم ورسالته.

الآن في لحظتنا الراهنة، وبعد مرور تسع سنوات على العرض الأول للفيلم، وفي الذكرى ال 12 لثورة 30 يونيو، تكون محاولة استعادة فيلم “اشتباك”، ومحاولة تحليله وفهمه، ليس فقط محاولة فنية أو نقدية، بل هو سؤال كبير بعد مرور تلك السنوات.

ما الذي تغير منذ وقت عرض الفيلم، ومنذ ثورة 30 يونيو، وهل انتهى الصراع والاستقطاب بعد سيادة الأمن والاستقرار؟ وبعد الموت الإكلينيكي الذي أصاب جماعة الإخوان المسلمين وانحسار عملها في مصر، وبعد انشغال الناس بقضايا أخرى سواء داخلية أو إقليمية ودولية شديدة الخطورة، هل انتهى الانقسام في المجتمع المصري؟ أظنه سؤال يستحق الطرح الآن أكثر من أي وقت مضى.

مقالات من نفس القسم