الجاسوس الذى كرهته!.. عن فيلم  Casino Royale أو الملهى الملكي (2006)

كازينو رويال جيمس بوند
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحـمد عبد الرحـيم

فى العامية المصرية، نقول إن الشىء السخيف “يحرق الدم”، والشىء المستفز “يفلق الدماغ”. فى هذه الحالة، نحن بصدد فيلم “يحرق الدم ويفلق الدماغ” معًا!

چيمس بوند هو جاسوس بريطانى وهمى ظهر فى سلسلة روايات وقصص قصيرة للكاتب الإنجليزى أيان فليمنج، ثم جاءت السينما وقدمته فى سلسلة أفلام بدأت عام (1962) تعاقب على بطولتها أكثر من نجم. اشتهرت هذه الأفلام باتباع معادلة واحدة لا تتغير تقريبًا؛ من حيث الشخصيات والتركيبة. لكن بعد 4 عقود، و20 فيلمًا، قرّر المنتجون – أخيرًا – أن الوقت قد حان لإجراء تغييرات مهمة فى السلسلة، غير مجرد استبدال نجم بآخر. والحق يقال، فى الفيلم رقم 21، الملهى الملكى للمخرج مارتن كامبل (2006)، حطموا بجرأة عناصر أساسية فى المعادلة البوندية. فهنا ستشهد: بوند يتيمًا من أصول فقيرة، ينشأ كخريج أكسفورد مضطرب نفسيًا، ليتحوّل إلى عميل مخابراتى متهوِّر وعدوانى. إنه شاب يستمتع بالعنف، ويفضِّل النساء المتزوجات، ويتجرع مشروبًا آخر غير المارتينى الذى يتم تقليبه بدون مزجه (شراب آخر أطول من أن أحفظه!). تعذيبه كان قاسيًا على نحو جديد؛ لنراه عاريًا تمامًا، ويصرخ من الألم! لدينا شرير لا يريد السيطرة على العالم، وفيلكس لايتر (المساعد الأمريكى) أسمر اللون، بدون السكرتيرة الحسناء مونى بينى، أو رئيس قسم المخترعات كيو. ذروة الأحداث لا تدور – كالمعتاد – حول هزيمة شرير فى عرينه الضخم، أو إيقاف قنبلة موقوتة عدّها التنازلى يكاد يصل للصفر. وفتاتىّ بوند، المعروف – دائمًا – أن إحداهما تموت فى البداية، والثانية تشاركه الفراش فى النهاية؛ يموت كل منهما هذه الجولة! لكن.. من قال أن كل تغيير يجب أن يكون عظيمًا؟! 

قبل أى شىء، كيف ينال بوند هنا رتبة الـ007، كعميل جديد، والسيدة إم (أداء چودى دنش) لا تزال هى رئيسة المخابرات؟! أتتذكرون فيلم GoldenEye أو العين الذهبية (1995)، عندما أخبروا 007، الجاسوس القديم، أن إم الجديد امرأة (الممثلة چودى دنش نفسها)؟ إذًا كيف بعد 11 عامًا، هى القديمة وهو الجديد؟؟ الحلول الوحيدة المحتملة هى: إما أن هذا عميل جديد يتصادف أن له الاسم نفسه، وإما أن هذا هو ابن بوند السابق، كچيمس بوند چونيور (!)، أو أن “چيمس بوند” فى حد ذاته رتبة مخابراتية تم إعطاؤها لهذا المستجد. أيًا ما يكون، قلت لنفسى “تجاوز الأمر وعش الحلم”، لكنه – للأسف – كان كابوسًا؛ سواء لمن يحب بوند القديم أو لا!

القصة تم تفجيرها بالقنبلة الذرية، وما تشاهده هو حطام وشظايا. لذلك، بعد مجهود مضنٍ فى المشاهدة والتدقيق، ما يمكن استنتاجه يجرى كالآتى: يقتل بوند صانع قنابل اسمه مولاكا، مكتشفًا أنه كان يعمل لحساب ديمتريوس؛ شريك لوشيفر الخبير المالى الخاص بزعماء الإرهاب. يسافر بوند وراء ديمتريوس، ويوقع زوجته فى غرامه. يقتلها الزوج، ثم يحاول تفجير أحد المطارات، ليحبط بوند العملية. يخسر لوشيفر الكثير من الأموال، فيقرِّر عقد دورة قمار كبرى لتعويض خسارته، يدخلها بوند متنكرًا، بصحبة فاسبر موظفة الخزانة البريطانية التى ستحمى ما سيلعب به من أموال الدولة، وماثيس جاسوس المخابرات البريطانية، وفيلكس لايتر عميل المخابرات الأمريكية. يحاول لوشيفر قتل بوند، لكنه ينجو، ويفوز بالمسابقة. فيختطف لوشيفر فاسبر كطعم يُوقِع به، ثم يعذّبه كى يدلى بكلمة الدخول السرية للمبلغ، لكن يتدخل السيد وايت قاتلًا لوشيفر (يُفهم أن وايت هذا ممن خسروا نقودهم على يد لوشيفر). يستيقظ بوند فى مستشفى، ثم يعترف بحبه لفاسبر، ويستقيل من المخابرات ليعيش معها فى سلام. لكنه يعلم أنها سرقت المال الذى كسبه، وذهبت لتسلمه إلى رجال مجهولين فى مبنى قيد الترميم. يتبعها قاتلًا جميع الرجال، ثم تموت هى غارقة خلال انهيار المبنى، بينما يهرب وايت بالنقود. يدرك بوند أن وايت جنَّد فاسبر ضده، ومن هاتفها المحمول يعرف مكانه، ويتمكن من الوصول إليه، مصيبًا إياه بطلق نارى فى ساقه، معلنًا له أنه عبد المتجلى سليط.. آسف.. چيمس بوند! 

هذه 3 أفلام فى واحد. الأول عن العميل المبتدئ الطائش، مع تتابُعَى أكشن رائعين؛ واحد وسط مبنى تحت الإنشاء بمدغشقر عند مطاردة صانع القنابل، وآخر فى مطار أمريكى عند إحباط محاولة التفجير. والثانى هو أحد أكثر الأفلام المملة تعذيبًا، مع مباريات بوكر لا تنتهى، وتعليق توضيحى لها مفرط الطول من شخصية ماثيس (أداء چان كارلو چانينى) لم ينجح رغم طوله فى إفهامنا شيئًا من تشويق هذه المباريات، لينتهى هذا الفيلم كوقت سقيم وتشويق مزعوم، ناهيك عن تواجد أكثر الأشرار بلادة وخيبة فى تاريخ بوند: لوشيفر؛ إنه يبدو كفريسة أكثر من كونه مفترسًا، ويعيش مُهدَّدًا أكثر من كونه مُهدِّدًا، ولا يفعل شيئًا غير استخدام بخاخة الربو، وذرف دموع دامية! بعد ذلك، هناك فيلم ثالث يشمل الذروة صعبة الفهم. مثلًا، رغم أنى أعتبر نفسى مشاهدًا محترفًا، قوى التركيز، فإنى لم أستوعب كنه شخصية وايت إلا بعد مشاهدة لقاء مع صنّاع الفيلم، وذلك لأن الفيلم نفسه لا يريد التبرع بمعلومة عن هوية هذه الشخصية، أو حقيقة أهدافها! لا شك أن الإصرار على التعامل مع “الملهى الملكى” على أنه الجزء الأول من ثنائية سيتم إكمالها لاحقًا عبر فيلم  Quantum  of Solaceأو كم العزاء، الذى سيظهر بعدها بعامين؛ جعلنا أمام فيلم مبتور، مع أحداث قصدية الغموض، لا تقدّم لك تفسيرًا، أو تحادثك بوضوح!

من بداية الفيلم إلى نهايته، يبقى المشهد الافتتاحى المعروض قبل عناوين البداية، والمصوَّر بالأبيض والأسود؛ شديد الإبهام، مع حوار مُلْغِز بين بوند وشخصية لا نتعرَّف عليها. تتابُع المطاردة الساخنة فى مدغشقر، والذى يبدأ به الفيلم، كان يمكن استخدامه كافتتاحية بدلًا من ذلك المشهد البارد، القصير، غير المفهوم. تتابع ظهور أوبانو، الإرهابى الإفريقى، ليهدِّد لوشيفر الذى جعله يخسر أمواله، ثم مقتله ورجاله على يد بوند فى أثناء مسابقة البوكر؛ بدا زائدًا ومفتعلًا لإضفاء بعض الحيوية على الفصل الثانى، والذى لم يكن إلا مباراة قمار طويلة مضجرة. لوشيفر شرير الفيلم، وجيتلر مندوب وايت الذى يتسلّم الأموال المسروقة، كلاهما فاقد لعينه اليسرى؟؟ هذا فلس صريح، وتكرار غبى، ضلَّل بعض المشاهدين ليظنوا أن لوشيفر لم يمت، أو أن هذا توءمه، أو مُقلِّده الأول فى العالم!! بينما تختفى فى هذا الفيلم المخترعات الماكرة التى كان يتسلّح بها فى الأجزاء السابقة، يدير بوند أموره كلها بهاتفه المحمول هذه المرة، ليس فى اتصالاته فقط، وإنما فى اكتشافاته أيضًا؛ إليك هذه الأمثلة البسيطة: الصلة التى تربط مولاكا بديميتريوس يكتشفها بوند عبر محمول الأول، سفر ديميتريوس لتنفيذ تفجير المطار يكتشفه بوند من مكالمة الأول لمحمول زوجته، الصلة التى تربط فاسبر بوايت يكتشفها بوند عبر محمول الأولى،.. وهلم جرًّا. إن هذا يكاد يحوِّل الفيلم إلى إعلان مسهب عن الهواتف المحمولة، ويجعل مسلسل جاسوسية تلفزيونيًا أمريكيًا مثل Alias أو اسم مستعار (عُرِض بين 2001 و2006) أكثر إبداعًا وإمتاعًا بالمقارنة!

المعلومات حول العمليات الإرهابية، وشخصيات الأشرار، تجىء – إن جاءت – بأسلوب الفيمتو ثانية، فما بالك لو كانت معقدة! كمثال: استثمارات لوشيفر قائمة على نظام يدعى short-selling، حيث يستخدم أموال الإرهابيين ليبيع أسهمًا لا يملكها، ثم ينفِّذ عمليات تخريبية من شأنها خفض قيمة الأسهم، وذلك ليشتريها بسعر أقل يحقِّق له ربحًا. هل فهمت شيئًا؟! المؤسف أن الفيلم لا يعرض هذه المعلومات الصعبة على نحو سهل، فى الوقت الذى تمثل فيه جزءً رئيسيًا من حبكته؛ يوضِّح عمل الشرير، وعلاقته بالإرهابيين، ويبرِّر مطاردتهم له بعد خسارته لأموالهم. محاولة استكشاف بوند نفسيًا، أو مطالعة جوانب مختلفة فيه، لم تفضِ إلى نتيجة طيبة. يكفى أن تعرف أن هناك لحظة فى رواية أيان فليمنج المأخوذ عنها الفيلم، يتقيأ فيها بوند ندمًا لقتله صانع القنابل بطريق الخطأ، لم يتم ضمها للسيناريو. كل ما ستجده: توتره بعد قتله لأوبانو (وهو أمر غريب لأنه، من بداية الفيلم إلى نهايته، يقتل الجميع بدم بارد!)، واحتضانه لفاسبر بعد فزعها من القتل، ولتنس بعدها أى “جانب إنسانى” يزعم هذا الفيلم أنه يتميّز به، أو أتى ليضيفه. ومع ذلك، يتعامل الفيلم مع كل شىء بجدية فوق طاقته. فى الفصل الثانى على وجه الخصوص، أحسست وكأنى أتابع فيلمًا وجوديًا من السبعينيات، أو عمل جاسوسية يميل لإثارة الفكر على شاكلة الفيلم البريطانى The Looking Glass War أو حرب المرآة (1969)، لكن إذا ما كانت هذه الأفلام ترخى الإيقاع لتعطيك مساحة للتأمل، فماذا يملكه “الملهى الملكى” كى تتأمل فيه؟! أرأيت ما يقاسيه هذا الفيلم من ملل، وادعاء أيضًا!

كازينو رويال جيمس بوند

لا يوجد ذرة من المرح على مستوى الصورة أو الحوار. لا one-liner أى تعليق ساخر مختصر، ولا double-entendre أى جملة مزدوجة المعنى يتوارى فيها المغزى الجنسى بدهاء. المشكلة ليست فى احتمال ذلك فى سلسلة عوَّدتنا أنها أعظم مرجع للتعليقات الساخرة، وأخبث مُعلِّم للجمل مزدوجة المعنى. إنها فى احتمال حوار الفيلم البعيد عن ذلك، والفاشل فى أى شىء أيضًا. مذكرات السفاح الأمريكى تشارلز مانسون أكثر رومانسية من المشاهد التى تجمع بوند بحبيبته. أيًا كان من كتب هذه المشاهد هو مريض حقيقى، وأبعد ما يكون عن الحب. أنا لن أنسى جملًا حوارية من نوعية (فاسبر: “لو لم يتبق من جسمك إلا ابتسامتك وأصبعك، فستظل أكثر رجولة من أى رجل قابلته”. بوند: “هذا لأنك تعرفين ما يمكن أفعله بأصبعى”!).. ما هذا بالضبط؟!!

فكرة صنع مشهد يتم فيه تجريد بوند من ملابسه، ثم تعذيبه بضربه فى مناطق حساسة من جسده، كانت جديدة ومختلفة، لكنها – أيضًا – فجة ورخيصة. فمتابعة بطل الفيلم عاريًا لمدة تربو عن الخمس دقائق، ضمن حدث يعلو بالعنف إلى درجة غير مسبوقة فى تاريخ السلسلة، هى أمور قد تضيف إلى الفيلم البوندى ما هو غير مألوف، لكنها لن تسبك علينا زعم كونها أكثر واقعية مثلًا، لأنها – فى الواقع – ليست إلا أكثر سوقية وابتذالًا؛ فالهدف كان تحقيق صدمة غرضها تجارى، دنت بالفيلم إلى حضيض أفلام الرعب الإغراقية، وخلت تمامًا من رقى وخيال مشاهد مشابهة فى أفلام السلسلة، بل انحرفت عن كودها الأخلاقى المعروف كأفلام يترواح تصنيفها بين PG وPG-13، أى تصلح لكل الأسرة فى الأغلب، فضلًا عن أن العرى الكامل والعنف الزائد بضاعة “مرطرطة” فى أفلام الألفينيات، فما الإبداع الرفيع الذى أتحفنا به مشهد طويل وصارخ كهذا؟! وهو ما يثير السؤال المرير: لماذا يرتبط التجديد بفتح الباب للإباحية؟ هذا ليس فى صالح أى شىء لو سألتنى! 

دانيال كريج كچيمس بوند جاء أكثر جمودًا وسخافة من ممثل بوند السابق بيرس بروزنان (وأنا الذى ظننت أنه لا يوجد من هو أكثر جمودًا وسخافة من بروزنان!). كريج، صاحب الخبرة المسرحية، والذى رُشح للعديد من الجوائز التمثيلية قبل بوند، ذكَّرنى هنا بفيلم Magic أو سحر (1978) وهو فيلم قديم لأنطونى هوبكنز أدى فيه دور مُحرِّك عرائس له دمية ذات عقل، تريد التحكُّم فيه. لا، لم يذكرنى كريج بهوبكنز، وإنما بالدمية، حيث تطابق مع وجهها الخشبى الجامد، وعيونها الزرقاء دائمة التحديق. نعم، أتقن كريج أداءه الحركى فى مشاهد الأكشن، لكن يظل هذا الدور، وهذا الأداء، من الأسوأ فى تاريخه الفنى. لا يختلف الأمر مع مادز ميكلسون، ممثل دور لوشيفر، والذى لو كان منتجو الفيلم استبدلوه بأى تمثال شمعى أو لوح خشب، لم يكن ليفوتك الكثير. إن متابعته هنا تشبه متابعة رسم باهت لوجه ميت لمدة ساعتين. مسكين لوشيفر؛ فى البداية جعله السيناريو أضعف شخصيات الفيلم، ثم لم يرحمه ميكلسون ومنحه أضعف أداء فى الفيلم! فتاتا بوند، كاثرينا مورينو وإيڤا جرين، كانتا بشعتين بكل معانى الكلمة. مورينو كانت بلا دور، ومقارنتها بفاتنات أفلام بوند السابقة يضمن لها القاع. لكن تظل الجريمة الكبرى فى اختيار إيڤا جرين. فى إحدى اللحظات، تدخل جرين بفستان أنيق إلى قاعة القمار، ليهمس چان كارلو چانينى فى أذنها: “..نصف الرجال ينظرون إليكِ!”. فى الواقع، لا أعتقد أن هناك رجلًا واحدًا طبيعى الميول يمكن أن يتعلَّق بجرين. لذا فإما أن هذه الجملة كانت نفاقًا مفضوحًا، أو أن چانينى كان يقصد نوعًا آخر من الرجال! باختصار، جرين لها شكل وروح محرومان من الجاذبية، وربما الأنوثة، غير – بالطبع – عيونها الجاحظة المرعبة، والتى يأتى عدم إغماضهم ليزيدها إرعابًا، وكأنها جنّى مخيف أو روبوت شرير. تتعمّق المفارقة ليس مع اعتبار الفيلم أنها فاتنة وحسب، وإنما عندما تكون هذه هى الفتاة التى ستستحوذ على قلب وعقل بوند، لدرجة تقنعه باعتزال العمل المخابراتى من أجلها. الحق أنه مع وجود كريج أمامها كدمية جامدة، جاحظة، مُحدِّقة طوال الوقت، بدا الأمر وكأنى أشاهد فيلم الرعب Bride of Chucky أو عروسة تشاكى (1998)؛ حيث دمية ذكر وأخرى أنثى تقعان فى حب بعضهما، قاتلتين عددًا لا بأس به من البشر!

حقّقت باقى العناصر السينمائية امتيازًا وضع الفيلم بأخطائه فى إطار شديد اللمعان، ربما طغى بلمعانه – فى عيون الكثيرين – على هذه الأخطاء. تتصدّر هذه العناصر موسيقى ديڤيد أرنولد، الهائجة المائجة فى أناقة أوركسترالية، والتى كانت أفضل من الفيلم، كعمل فنى متكامل ومؤثِّر. كذلك تصوير فيل ميهوكس الجمالى البرّاق، والذى يصوغ كل بيئة بباليتة ألوان خاصة: الأصفر والأحمر لمشهد المطاردة النهارية بمدغشقر، الأخضر والأزرق لمشاهد دورة القمار الليلية بمونتنجرو، الأبيض والأخضر لمشاهد حب البطلين بإيطاليا. أضف إلى هذا وذاك مشاهد الأكشن، لاسيما مطاردة مدغشقر، والتى اُستخدِم فيها أسلوب بهلوانى حديث يدعى Parkour صُمِّم ونُفِّذ ببراعة مبهرة، لدرجة إعطاء دور مولاكا، صانع القنابل المُطَارَد، لسباستيان فوكان أحد مؤسسى هذه الأسلوب، وأشهر لاعبيه فى العالم. لا جدال أن مشاهد الأكشن كانت موضع تفوُّق المخرج مارتن كامبل، والتى إذا ما حذف المونتاچ كل ما عداها سيتبقى ما يمكن مشاهدته بحب وانفعال.   

كانت غاية الفيلم تقديم reboot أو إعادة تشغيل لسلسلة بوند، إقتداءً بباقى سلاسل هوليوود التى اتجهت إلى الفعل ذاته فى تلك الفترة. والمقصود بإعادة التشغيل هو صياغة مدخل جديد للسلسلة القديمة يبدأ بها من نقطة الصفر بحيث لا تتبع الأفلام السابقة، مع تغيير المذاق أو الأبطال أو التفاصيل، تجديدًا لشباب مُنتَج شاخ عمره، حتى ينتمى إلى الأجيال الشابة المعاصرة وينتمون إليه. حدث ذلك مع سلسلة أفلام العميل المخابراتى چاك رايان، التى اشتهرت فى التسعينيات، عبر فيلم The Sum of All Fears أو محصلة كل المخاوف (2002) لنرى البطل الناضج سنيًا والمتزوج، فى مرحلة زمنية أحدث، لكن يظهر فيها أصغر سنًا وأعزب. وحدث مع سلسلة الرجل الوطواط فى Batman Begins أو بداية الرجل الوطواط (2005)، لنرى نشأة البطل الخارق فى قصة جديدة تتباين ونشأته فى أفلامه السابقة، مع اعتماده على مخترع يكتم سره وليس مجرد خادم، وعيشه فى مدينة لها تصميم عصرى وليس قوطيًّا. كذلك فى Star Trek أو رحلة النجم (2009)، و  Rise of the Planet of the Apes أو نشأة كوكب القرود (2011)، و The Amazing Spider-Man أو الرجل العنكبوت المذهل (2012)، لتصبح الـ15 عامًا الأخيرة هى عقد الـreboot الأكبر. لكن هل يا ترى نجحت إعادة التشغيل فى حالة 007؟!

الإجابة: صحيح أن التغيير صحى، لكنه ليس إذا ما كان للأسوأ. فـ”الملهى الملكى” يفتقر إلى مميزات أفلام بوند السابقة من روح مرحة، وخيال علمى، وحبكة مفهومة، وفى الوقت نفسه يبذل كل جهده ليكون مبالغ الجدية، ومبهم الأحداث، ومضجرًا لدرجة التنويم. إن الأمر ليس فى تجريد بوند من ملامحه كحلم خيالى مبهج، وإنما فى انتفاء الجاذبية عن بوند الواقعى الجهم هذا. ورغم أن الفيلم طمح فى أن يكون شيئًا مختلفًا عن هراء بوند التقليدى، فقد انتهى به المطاف لأن يكون هراء جديدًا، لكن أقل تسلية وطرافة.

“الملهى الملكى” لا يحوى بوند القديم الذى أعرفه، أو بوند جديدًا أحببت معرفته. ولما تجاوزت ذلك، وحاولت مشاهدته كفيلم تشويق / أكشن آخر، اكتشفت كم هو ملىء بالعيوب وغير ممتع. لكن حتى عندما تجاوزت ذلك، وحاولت نسيان الأمر برمته؛ واجهت حصاده لإيرادات وصلت إلى 600 مليون دولار، وفوزه بمديح نقدى كبير سما به لمرتبة التحفة الأستاذية، وهذا – أيها السادة – ما “حرق دمى وفلق دماغى” فـعلًا!

……………………….

*نُشرت فى مجلة أبيض وأسود / العدد 44 / أغسطس 2015.

 

 

 

مقالات من نفس القسم