أيام الشمس المشرقة: فضاءات التجدد والغياب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 32
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد سمير عبدالسلام

تعيد ميرال الطحاوى تشكيل العلاقة بين المرجع المكاني، والسياق الثقافى بصورة سردية تجريبية
تعيد ميرال الطحاوى تشكيل العلاقة بين المرجع المكاني، والسياق الثقافى بصورة سردية تجريبية فى روايتها أيام الشمس المشرقة؛ وقد صدرت عن دار العين للنشر بالقاهرة سنة 2022؛ فالساردة ترسم مجموعة من الفضاءات الثقافية المنفصلة، والمتداخلة، والتى تجمع بين المحلي، والعالمى فى آن؛ فضلا عن اتصال هذه الفضاءات بالسياق الثقافى الواسع؛ وما ينطوى عليه من تقديم تفسير للذات، وعلاقات القوة فى بنية الحضور.
وفى المستقبل أيضا؛ وتتصل هذه الفضاءات ببعضها، وتتطور بصورة دينامية – فى خطاب الساردة للمروى عليه – عبر مجموعة من العلاقات المكانية، والثقافية، والإدراكية بين المتون، والهوامش، وهوامش الهوامش الممكنة، وتمثيلات المتون الاستعارية فى وعى الشخصيات؛ ومن ثم تتوافق رواية ميرال الطحاوى مع صعود الحساسية الجمالية التجريبية للمكان.
وبخاصة التجريب فى بنية المرجع المكانى التكوينية، وعلاقتها بسياق التواصل الواسع بين الراوي، والمروى عليه؛ فالساردة تحيل المروى عليه- فى تضمينات الخطاب- إلى وضع مأساوى ديستوبى مؤجل، ويتصل- على نحو وثيق- بالتجدد الإبداعى للمشهد اليومى فى فضاء الشمس المشرقة الهامشى؛ ومن ثم تمتزج الآلية العبثية المتكررة – فى الخطاب – بالظهور العلاماتى التصويرى للشخصية فى وعى الآخر؛ فهو ظهور ينبع من بنية المكان الاستعارية نفسها؛ وهو فضاء مؤقت يحتفى بالحضور الطيفى للصور، والأصوات، والتمثيلات الاستعارية المؤقتة للذات، والآخر، والفضاءات الأخرى؛ وقد تتعدد فيه سير الشخصيات، أو تتشكل من حكايات متعارضة؛ مثل سيرة شخصيات والدة نجوى، وسليم النجار، والأفريقية ميمى دونج؛ فضلا عن التناقض الداخلى فى تشكيل الهوية الذاتية، فالبطلة/ نعم الخباز تنتمى للشمس المشرقة.
ولكنها تريد أن تكون مرغوبة كأرستقراطية، دون أن تذهب بالفعل إلى فضاء حى الجنة الأبدية، أو أن تحقق كينونتها الأنثوية المتخيلة فى الواقع، وتوحى تعددية مصائر الشخصيات بفاعلية تكرار الوضع المأساوي، وفاعلية تجدد العلامات، والصور فى المشهد اليومى المأساوى نفسه؛ فميمى دونج / الأفريقية التى كانت تشير إلى الأنوثة، والأمومة فى علاقتها بسليم النجار وغيره.
وقد اختفت من الشمس المشرقة بصورة مفاجئة، ثم وجدت جثتها بجوار مجموعة من جثث كلاب البحر؛ مثل هذه التواريخ المتعارضة، أو الحكايات التفسيرية المتعددة، والشخصيات المشبعة بحضور تصويرى علاماتى ملتبس بالغياب، وتناقضات الهوية الذاتية، والتباس المصائر، أو تعارضها الفائق مع سير الشخصيات، تؤكد حالة الحضور المؤقت المتواتر، والممزوج بفاعلية التجدد الإبداعى لمشهد الحياة اليومى فى الشمس المشرقة فى خطاب ساردة ميرال الطحاوى التجريبي.
ومن ثم فإشارات الوضع الديستوبى التى تتصل بمستقبل فضاء الشمس المشرقة الثقافى هى إشارات تنطوى- فى تضمينات الخطاب- على التكرار المفرط لكل من الآلية العبثية، والصمت، والتساؤل، والانتظار، ومعاينة تلك الآلية نفسها بوصفها نوعاً من الحضور الطيفى الممزوج بأصالة التجدد فى المشهد اليومى؛ فالحضور المؤقت لفضاء الشمس المشرقة، وأصواته، وشخصياته، وتواريخها، ومصائرها، وحكاياتها الملتبسة بالغياب.
ويقترن بنوع فريد من الهارمونى أو التوافقية مع حالة تجدد المشهد اليومى، أو مع الحضور الطيفى للشخصيات فى حكايات الآخرين – فى مضمر الخطاب – فالساردة تحيلنا إلى أنوثة يولندا، وجمالها عقب مقتلها، وكذلك حب جمال ابن البطلة/ نعم الخباز لميمى فيما بعد انتحاره.
ومن ثم يضمر الخطاب أيضا تضاعف مساحات الخريطة الممكنة فى الحياة الطيفية المتخيلة لتلك الشخصيات؛ ويمكننا استنتاج مثل هذه الحياة المتخيلة من انطباعات هذه الشخصيات عن العلاقة بين الشمس المشرقة، وفضاء حى الجنة الأبدية الاستعارى، أو فى الحالات الذهنية لتلك الشخصيات، ومعتقداتها حول الذات، والآخر، وانتظارها لتحقق مصيراً محدداً، أو هوية تمثيلية ذاتية، أو اجتماعية، أو ثقافية مؤجلة فى مواقف التواصل المحتملة، والممكنة بين الذات، والآخر، أو الآخرين.
ومن ثم لم يكن الصمت آليا، أو عبثيا، وإنما يمثل انتظارا لسرد آخر فى فضاء ممكن قد يتجلى فى التمثيلات الذهنية لفضاء حديقة الأرواح الممثل لهامش الهامش؛ أو مقابر الشمس المشرقة فى العالم الإدراكى لشخصية عبد القادر/ إمام المسجد؛ فقد كان يرى مشهد حديقة الأرواح مثل حقل مزهر؛ ومن ثم ينتخب وعيه- حسب مبدأ الصلة فى تصور سبيربر، وويلسون الإدراكى- مؤثرا سياقيا ذا أهمية من منظوره ويتوسع فيه إدراكيا.
وهو وجود الزهور بين المقابر؛ ومن ثم تصير حديقة الأرواح فضاء ممكنا لحياة حلمية، وحكايات ممكنة قيد التشكل؛ وتستنزف بنيتها الهامشية الأسبق، وتصير فضاء استعاريا إدراكيا مركبا من حديقة تشبه الحى الراقي، وفضاء ما وراء مشهد المقابر؛ وهو فضاء فسيح يشبه الفضاءات الحلمية الفسيحة فى تاريخ الرسم السريالي؛ ويصير هذا المزج الإدراكى بين الفضاءات تأويلا، أو تمثيلا استعاريا آخر للمكان.
وتمثيلا مضمرا للحياة الطيفية المتخيلة لشخصيات الشمس المشرقة الملتبسة بالحضور المؤقت المضاعف، وبالغياب المضاعف فى الوقت نفسه؛ ويؤكد مثل هذا الفضاء الحقيقى/ الحلمى المركب المزج بين الفضاءات الذهنية لدى كل من فوكونير، ومارك تيرنر؛ وسنعاين أصالة تكوين الفضاء المركب، أو المزجى بصورة تجريبية فى خطاب ساردة ميرال الطحاوي؛ وبخاصة فى تكوين الشمس المشرقة بوصفها فضاء تمثيليا كثيفا للسياق المحلى/ العالمى الذى يؤكد فرضية تداخل العوالم الثقافية فى بنيته العميقة وعلاقته بالفضاء الآخر، ومن ثم يحقق نتيجة التفاعل الجمالى الممكن بين تلك العوالم.

ونعاين تمثيلا ذهنيا آخر، يؤكد التجسد الفني، والجمالى للمدركات الحسية لحى الجنة الأبدية فى وعى البطلة/ نعم الخباز؛ فقد تجسد الحى فى ذهنها كفضاء ممكن من خلال بعض الرسوم الزيتية لفنانين مجهولين؛ ومن ثم فقصور الحى تشبه بعض اللوحات الزيتية المرسومة؛ وهى مراجع فنية مجهولة المصدر؛ أى تعكس مخيلة جمعية لفئة من الفنانين من جهة.
وتؤكد الحضور التجريبى المزجى لفضاء الجنة الأبدية من جهة أخرى؛ فهو يتجلى بصورة تعكس الحقيقى/ البعيد عن الشخصية، وفضاء اللوحة الزيتية فى آن؛ لنعاين فضاء تجريبيا ممكنا، يختلط فيه الفن بالواقع بصورة رئيسية فى بنية الخطاب؛ ومن ثم ففضاء الحى ينطوى على الهارمونى الجمالى المتضمن فى اللوحة، والعزلة المفترضة فى تجليه ضمن عمل فني؛ أى أن حضوره يقترن دائما بالتخييل، وإمكانية بناء فضاءات تفسيرية أخرى فيما وراء إطار العمل الفني؛ وقد تتكون فضاءات التلقى التفسيرية من الرؤى البانورامية البعيدة لقصور الحى فى علاقتها التشكيلية التى قد تقع فى بعد ثلاثى إدراكى بصرى مع التمثيل الذهنى الجمالى للوحة الزيتية فى تكوين جمالى واحد.

وتؤكد مثل هذه التمثيلات الذهنية السابقة أن الساردة جمعت بين روايتها لتواريخ الشخصيات وتطورها بضمير الغائب، ورسمها لخريطة المكان الثقافية وفق تأويلها، واستنتاجاتها للسياق، والتبئير الداخلى الذى يكشف أحيانا عن طرائق تفسير الشخصية للمدخلات البصرية، والسمعية، واللغوية؛ وتحيلنا الساردة إلى مرجع مكانى ذى تكوين ثقافي، وبنائى/ تشكيلى فريد، كما تروى مجموعة من التواريخ المحتملة، والمتعارضة التى تبدو فيها ميمى دونج مثلا ناجية، أو أميرة ابنة سلطان، أو ابنة رجل لا يحكم إلا على خيمته، كما تروى أحداث القتل الآلي، والغرق، والاختفاء أحيانا، دون إزالة الإبهام عن بعض التفاصيل؛ فالتأشير اللاحقى المؤول لأحداث القتل قد صنع نوعا آخر من الغموض، والتساؤل حول مصائر الشخصيات التى تشبه مشاهد العنف.
ومواسم التكاثر، ودورات التجدد الجمالى على الشاطئ؛ وكأنها تنسج فعلا كلاميا للمروى عليه بتخييل الفجوات فيما وراء بعض الأحداث، أو انتخاب أحد المسارات التاريخية السيرية المحتملة للشخصية، أو إعادة تكوين، ورسم الخرائط المجازية الثقافية للمكان، وبناء العلاقات المكانية / الجسدية بين فضاءات مثل سرة الأرض، وسنام الجمل، وحديقة الأرواح؛ والإشارة الخطابية إلى الجسد، أو التجسد توحى بإمكانية الترابط العضوي، والتفكك فى آن بين الفضاءات؛ فالساردة تعزز فى النهاية من حالتى الانفصال اللغوى الذى يذكرنى ببرج بابل فى التراث، والتعاطف الكونى الممكن بين سكان الشمس المشرقة، وأصحاب القارب المعطل، والأطفال الغرقى.

وينتخب وعى الساردة – وفق مبدأ الصلة الإدراكى – المؤشر الزمنى المميز لفضاء الشمس المشرقة حين يقدم لسانيا – فى الخطاب – الأيام على اسم الفضاء / الشمس المشرقة؛ ومن ثم فحالة الحضور المؤقت المضاعف، أو الفائق هى ما يميز الفضاء، وشخصياته، ولم تكتف الساردة بالإشارة إلى الحضور المؤقت ولكن الإشارة إلى الأيام توحى – فى تضمينات الخطاب – بحالة التوافق مع الحضور المؤقت للأصوات، والعلامات، والصور، والمشاهد الطبيعية الأقرب إلى غريزتى التجميع، والتفكك وفق التصور الفرويدي.
ولكن الساردة تنسج فعلا كلاميا توجيهيا مضمرا للمروى عليه؛ ليعيد النظر فى البهجة الإبداعية الكامنة فى تجدد علامات الحياة اليومية، وتخييل حياة الشخصيات / العلامات المؤجلة، أو التى تنتظر إكمالا سرديا حلميا فى مساحات الشمس المشرقة الحلمية اللامرئية؛ ومن ثم تتحقق قوة فعل الكلام فى تحوير المروى عليه للوضع الديستوبى المؤقت، أو المؤجل، ومزجه بالفضاء التصويرى الفسيح ثلاثى الأبعاد الذى يقع بين توصيف حى الجنة الأبدية، واللوحة الفنية، والتمثيلات، والتأويلات المولدة عنها، ويتحقق لازم فعل الكلام حين يقوم المروى عليه بإنتاج فضاء كثيف مركب وفق تأثيرات سياقية تقع فى عالمه الإدراكي، وتسهم فى انتخاب تفسير ثقافى آخر ممكن فى بنية الحضور.

وأرى أن فضاء الشمس المشرقة هو فضاء يتحقق فيه المزج الإدراكى بين فضائين ذهنيين أسبق، يشكلان معا استعارة إدراكية فى الخطاب؛ ويشير الفضاء الأول، أو مستوى الإدخال الأول إلى فضاء هامشى حقيقى كثيف محلي، ومتكرر فى مناطق كثيرة قد تكون قى أفريقيا أو آسيا، وفضاء آخر استعارى أو أدبى يحمل بعض ملامح الديستوبيا المؤجلة.
ويلتبس بالتجدد الإبداعى للعلامات فى الحكايات، والمساحات اللامرئية المتخيلة فيما وراء التكوين الظاهر للشمس المشرقة؛ هذا الفضاء الاستعارى الكثيف الأدبي، أو الأسطورى والحكائى يمثل مستوى الإدخال الثاني، ويبدو شبيها بغرف ألف ليلة المجهولة، أو بالبحر الذى غرق فيه أودسيوس فى الأوديسا، أو بأخيلة فضاءات الموتى القديمة المتخيلة التى جمعت بين الرعب.
وإمكانية الغناء فى ضفادع أرستوفان، ورحلة أورفيوس؛ وقد تشكلت الشمس المشرقة كفضاء مزجى إدراكى يعيد قراءة السياق الثقافي، وتتحقق فيه التحولات السريعة للشخصيات / العلامات؛ وتعزز هذه التحولات المتصلة بتكوين الفضاء الجاذب، والطارد فى آن لعودة الشخصيات لحضور أدبى آخر متخيل فى المساحات، والخرائط المجازية للشمس المشرقة نفسها؛ ومن ثم فشخصيات الشمس المشرقة لها حضور أدبى مضاعف فى معاينتها للتحول، ومراوحات الحضور والغياب المتكررة، وانبعاثها الحكائى المتجدد فى وعى الآخرين.

ويشير مارك تيرنر إلى تواتر فضاءات المزج فى الأدب، والفن، وطرائق التفكير اليومية فى كتابه – أصول الأفكار، حول المزج الإدراكي، والإبداع، ونشوء التفكير الإنساني، صدر عن جامعة أكسفورد 2014؛ فسيد الخواتم يجمع بين الأسطورة الاسكندينافية، واليونانية، وكذلك لم تكن لتتشكل شخصيتا سبيدرمان، وسوبرمان إلا بالمزج الإدراكي؛ فشخصيات المزج لا تشير فقط إلى فضاءين ذهنيين متداخلين، ولكنها لم توجد على الأرض إلا بالمزج، وهو متواتر فى العلوم، والرياضيات.
وطرائق فهم الآخرين؛ هكذا يكشف خطاب مارك تيرنز الإدراكى عن تواتر المزج فى الحياة اليومية، والعلم، وشخصيات الفن، والأدب، والطبيعة الإبداعية الدينامية لتكوين العلامات، والفضاءات المتداخلة فى التكوين الجديد المركب؛ ومن ثم نلمح فى شخصيات الشمس المشرقة – عند ميرال الطحاوى – الحضور الهامشى الحقيقي، والحضور الأدبى الملتبس بالتحول الخيالي، والغياب فى الحكاية، أو فى التمثيلات الذهنية لفضاءات حديقة الأرواح أو حى الجنة الأبدية فى وعى الشخصيات.

وإذا أعدنا قراءة الحوار بين الشخصيات وفق منظور إيرفينغ غوفمان التداولى الاجتماعى سنجد أن العلاقة بين علياء الدوري، وسليم النجار تحقق شرط التواصل بين المحلي، والعالمى فى انتماءاتهما الثقافية، والفنية، والمعمارية العابرة للحدود، والمقيدة بوضع سليم المحلى الذى يؤسس لنوع من انتظار التحقق، أو الحلم بالحياة مع علياء فى الحى الآخر؛ فكل منهما يقدم لهويته بوصفها هوية اجتماعية عالمية، تتصل بالمحلي.
وتظل هذه الهوية فى حالة من العمل، وانتظار التحقق، أو التحقق الحلمي. أما حوارية سكان الشمس المشرقة مع أصحاب المركب المعطل فتؤسس لأدوار اجتماعية تمثيلية تتعلق بالتساؤل، والانتظار، والتعاطف الكوني؛ فاللغة غير المفهومة تعيدنا وفق التأشير العائدى إلى حالة الحضور الملتبسة بالغياب الأولى فى الخطاب.
وتنتج فعلا كلامياً توجيهياً يتعلق بالتساؤل الدائرى حول مدلول الوجود فى حى الشمس المشرقة، أو الطرد منه، ويمكننا تخييل حى الشمس المشرقة نفسه – وفق ذلك التعاطف المحتمل – إلى فضاء مائى استعارى واسع فى وعى ولاوعى الشخصيات فى موقف التواصل.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم