فقط الرغوة ولا شيء آخر

إرناندو تييث
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إرناندو تييث([1])

ترجمة: أحمد الأقطش

لم يتفوه بشيء حينما دخل. كنت منهمكًا في شحذ أمواسي، لكنني ما إن أدركتُ أنه هو حتى بدأتُ أرتجف، أمَّا هو فلم يلحظ ذلك. أردتُ أن أخفي الاضطراب الذي استحوذ عليَّ، فواصلتُ شخذ الموسى. جرَّبته على باطن إبهامي، ثم رفعته باتجاه الضوء. في هذه اللحظة خلع حزامه المدجج بالرصاص وقد تدلَّى منه جراب مسدسه. علَّقه على الحائط ووضع فوقه قبعته العسكرية. ثم استدار إليَّ وهو يوسِّع رابطة عنقه قائلاً:

– الجو ساخن كالجحيم! احلق لي.

ثم جلس على الكرسي.

كانت لحيته في تقديري بنت أربعة أيام. الأربعة أيام هي نفسها التي قضاها في حملته التي شنها ضد رجالنا. وجهه كان محمرًّا من الشمس التي تعرض لها بالتأكيد لفترة طويلة. بحرص بالغ بدأت في إعداد الصابون. اقتطعتُ شرائح محدودة من القالب وألقيتها في كوب الحلاقة ومزجتها بالقليل من الماء الساخن، وبدأت أقلب بالفرشاة. وعلى الفور بدأت الرغوة في الظهور.

– مؤكد أن أفراد الكتيبة لديهم مثل هذه اللحية أيضًا.

قلتها مواصلاً تقليب الرغوة.

– لقد قمنا بعمل جيد هذه المرة كما تعلم. لقد أمسكنا بالرؤوس الكبيرة، منهم من صار الآن في عداد الموتى ومنهم من لا يزال على قيد الحياة. ولكن عمَّا قريب سيموتون جميعًا.

– كم فردًا أمسكتم به؟

– أربعة عشر. كان علينا أن نتوغل في الغابات كي نعثر عليهم. ولكن قضي الأمر، فلا أحد منهم سيفلت.. لا أحد.

رجع بظهره إلى الوراء وقد رآني والفرشاة مرغاة في يدي. لكنني لم أتنبه من البداية أن أضع الفوطة عليه! كنت في غاية الاضطراب. أخذتُ فوطة من الدرج وأحكمتها حول عنقه، فيما ظل هو في حديثه ولم يتوقف عن الكلام.

– لقد تعلم الأهالي درسًا مما قمنا به بالأمس.

– بالفعل..

رددتُ عليه وأنا أتأكد من أن العقدة محكمة حول عنقه الداكن الذي يتصبب عرقًا.

– كان هذا عرضًا جيدًا، أليس كذلك؟

– جيد جدًّا.

أجبته وأنا أجلب الفرشاة. أغمض عينيه بطريقة توحي بالإرهاق الشديد، وبقي منتظرًا لمسة الصابون المنعشة.

لم أكن قريبًا منه هكذا من قبل. حين أمر باصطفاف أهالي المدينة في فناء المدرسة لرؤية المتمردين الأربعة وهم يُشنقون، كنت حاضرًا يومها وتلاقى وجهي بوجهه للحظات معدودة. لكن رؤية الجثث المشوهة شغلتني عن ملاحظة وجه الرجل الذي فعل كل هذا، الوجه الذي هو الآن بصدد أن آخذه بين يديَّ. وجهه حقيقةً لم يكن مثيرًا للنفور، وتلك اللحية التي جعلته يبدو أكبر سنًّا مما هو عليه لم يكن منظرها سيئًا إلى هذه الدرجة. اسمه توريس، الكابتن توريس. رجل من أصحاب الخيال العالي، فـمَن ذا الذي يخطر بباله أن يشنق المتمردين عرايا ثم يعلق أهداف رماية على مواضع عديدة من أجسادهم!

بدأتُ في وضع أول طبقة من الصابون، أمَّا هو فواصل الحديث وهو مغمض العينين:

– أودُّ بالتأكيد أن أغفو قليلاً، لكن هناك الكثير الذي سنقوم به بعد الظهر.

توقفتُ عن دهن الرغوة وسألته وأنا أتظاهر باللامبالاة:

– فرقة إطلاق النار؟

– شيء من هذا القبيل ولكن أبطأ قليلاً.

– كلهم؟

– لا، بل بعض منهم.

واصلتُ وضع الرغوة على لحيته. بدأَت ترتجف يداي مرة أخرى، لكنه لم يكن ليدرك ذلك وكان هذا من حسن حظي. ليته ما جاء! لابد أن كثيرين من فريقنا قد لـمحوه وهو يدخل عندي. عدوٌّ في عقر دارك، هذا يجعلك تحت المجهر! كنتُ مضطرًّا إلى أن أحلق هذه اللحية تمامًا مثل أي لحية أخرى.. بدقة وبلطف كما هو الحال مع أي زبون عادي: أفعل ما في وسعي حتى لا أرى مسامَّ جلده ينز منها أي نقطة دم، وأكون حريصًا في التعامل مع خصلات الشعر الصغيرة حتى لا تنزلق الشفرة، ويصبح جلده إذا ما نظرت إليه نظيفًا وناعمًا وصحيًّا، حتى إذا ما أمررتُ ظهر يدي عليه لا أشعر بوجود أي شعر. لقد كنتُ متمردًا في السر، نعم. ولكنني أيضًا حلاق أمين أفتخر بأنني متقن لحرفتي، وهذه اللحية بنت الأربعة أيام كانت بالنسبة لي تحديًا كبيرًا.

أخذت الموسى، كشفت الشفرة، وشرعت في العمل من إحدى السوالف وإلى أسفل، وطاوعني الموسى كما ينبغي. كانت سوالفه صلبة وخشنة وسميكة جدًّا. رويدًا رويدًا بدأ الجلد في الظهور. كان الموسى يحك فيه مصدرًا صوته المألوف وقد اختلطت بقايا الرغوة بقطع الشعر المتجمعة بطول الشفرة. توقفت قليلاً كي أنظفه، ثم أخذت المسن من جديد كي أشحذ الموسى لأني ذلك الحلاق الذي يعرف صنعته ويؤدي الأشياء على أكمل وجه. بعد أن كان مغمض العينين فتحهما من جديد. سحب إحدى يديه من أسفل الفوطة ووضعها على وجهه، وجسَّ الموضع الذي أزيل عنه الصابون قائلاً:

– تعال إلى المدرسة هذا المساء في السادسة.

– نفس الشيء مثل ذي قبل؟

سألته وكُلِّي رهبة، فأجاب:

– بل ربما يكون أفضل.

– ما الذي تنوي عمله؟

– لم أقرر بعد، ولكننا سوف نستمتع بالعرض.

قالها ورجع بظهره إلى الوراء وأغمض عينيه مرة أخرى. فسألته على استحياء:

– هل تنوي عقابهم كلهم؟

– كلهم.

كان الصابون على وشك أن يجف على وجهه، فأدركت أنَّ عليَّ الإسراع. نظرت في المرآة باتجاه الشارع، كان الوضع على ما هو عليه. محل البقالة فيه ثلاثة زبائن. ألقيت بنظرة إلى الساعة.. إنها الثانية والثلث. بدأ الموسى في عمله من السالف الآخر وإلى أسفل. يا لها من لحية داكنة كثيفة. كان عليه أن يدعها تكبر كما يفعل بعض الشعراء ورجال الدين، حينها ستناسبه جدًّا، ولن يتعرف عليه الكثير من الناس وهذا في صالحه. فكرت في ذلك وأنا أحاول التعامل مع منطقة العنق بلطف. في هذه المنطقة تحديدًا على الموسى أن يُستخدم ببراعة لأن شعرها رغم نعومته إلا أنه ينمو على هيئة جدائل صغيرة. لحية مجعدة وجلد حساس. كان يمكن لإحدى المسامِّ أن تُفتح ويندفع منها الدم. لكن الحلاق الجيد يفتخر بأنه لا يسمح لشيء كهذا أن يحدث لأحد زبائنه، فما بالك وهذا زبون من العيار الثقيل! كم رجل مِنَّا أمر بقتله! كم رجل مِنَّا أمر بتشويه جثته! ينبغي ألا أفكر في هذا الآن.

لم يكن توريس يعلم أنني من أعدائه، لا هو ولا حتى الآخرون. لقد كان ذلك سرًّا لا يعلمه إلا القليل، وما ذلك إلا لكي أتمكن من إخبار الثوار بما يفعله توريس في المدينة وما يخطط له في كل مرة يقوم فيها بحملة لمطاردة المتمردين. لهذا من الصعب جدًّا أن أبرر لفريقنا كيف استلمت هذا الرجل بين يديَّ ثم تركته يذهب هكذا.. سالـمًا غانمًا محلوقًا له! هاهي اللحية قد أوشكت على الاختفاء. بدا أصغر بسنوات عما كان عليه حينما أتى. أعتقد أن هذا دائمًا ما يحدث مع الرجال الذين يرتادون صالونات الحلاقة. لقد بدا توريس بفضل مهارة هذا الموسى وكأنه استعاد شبابه، استعاد شبابه لأنني حلاق جيد، الأفضل في المدينة بلا تبجح. قليل من الرغوة هنا تحت ذقنه على تفاحة آدم وعلى ذلك العِرق الكبير.

ما أشد هذه السخونة هنا! حق له أن يتصبب عرقًا مثلي. ولكنه ليس خائفًا، هو رجل هادئ لا يفكر حتى فيما سيفعله مع المساجين بعد ظهر اليوم. أما أنا وفي يدي ذلك الموسى أمرره على جلده محاولاً منع الدم من أن ينزَّ من هذه المسامِّ، فكان تفكيري مشوَّشًا. ملعون الحظ الذي أتي به إلى هنا! أنا ثوري ولست قاتلاً. ما أسهل قتل هذا الرجل! وهو يستحق ذلك، أليس كذلك؟ لا لا.. تـبًّا! لا أحد يستحق أن يجعل مِن غيره قاتلاً. ما الذي تستفيده من ذلك؟ لا شيء على الإطلاق. يأتي آخرون على آخرين فيقتل الأوائل الأواخر، والذين يأتون من بعدهم يسيرون على نفس المنوال إلى أن يصبح كل شيء بحرًا من دماء! أنا أقدر أن أقطع حلقه بكل سهولة، شرطة هكذا شرطة هكذا. لن أمهله وقتًا للصراخ، فهو على وضعه هذا وهو مغمض العينين لن يرى حدَّ السكين اللامع ولا عينيَّ اللامعتين.

إنني أرتعد كأنني مجرم حقيقي! فمن الممكن أن تنزَّ دفقة من الدماء من رقبته على الفوطة، على الكرسي، على يدي، على الأرضية، فأضطر أن أغلق الباب. ويسيل الدم على الأرضية دافئًا دافقًا حتى يصل إلى الشارع مثل جدول قرمزي صغير. أنا على يقين بأن ضربة واحدة قوية وفتحة واحدة عميقة لن يشعر معهما بأي ألم، ولن يعاني على الإطلاق. لكن ماذا أصنع بالجثة؟ أين يمكن أن أخفيها؟ سيكون عليَّ أن أهرب تاركًا كل شيء ورائي، وأختبئ بعيدًا، بعيدًا جدًّا. ولكنهم بالتأكيد سيتعقبونني حتى يعثروا عليَّ. «قاتل الكابتن توريس، ذبحه وهو يحلق له.. يا له من خسيس!». هكذا سيقول البعض. وسيقول آخرون: «المنتقم الذي ثأر لرجالنا، لم يكن أحد يعلم أنه واحد منا…».

ما الذي يئول إليه الأمر؟ هل أكون بطلاً أم قاتلاً؟ مصيري متوقف على حافة هذة الشفرة. أستطيع أن أدير يدي قليلاً، أضغط على الموسى قليلاً.. ثم أغرزه. سينشق الجلد مثل الحرير، مثل المطاط، مثل الجلد الناعم. لا شيء أطرى من الجلد البشري، الدم متواجد فيه دائمًا مستعد أن يندفع إلى الخارج من فوره. شفرة كهذه لن يعجزها ذلك الأمر. ولكنني لا أريد أن أكون قاتلاً، لا يا سيدي. لقد أتيتَ إلى هنا للحلاقة وأنا قمتُ بواجبي بكل أمانة.. أنا لا أريد دمًا على يدي، فقط الرغوة ولا شيء آخر. أنت سفاح، وأنا لست سوى حلاق. لكل شخص مكانه الخاص في منظومة الأشياء. هذا صحيح، مكانه الخاص.

أصبحت ذقنه الآن نظيفة وطرية. نهض ونظر إلى نفسه في المرآة. مرَّر يده على جلده، فوجده ناعمًا لينًا كأفضل ما يكون.

– شكرًا لك.

قالها واتجه إلى الشماعة ليأخذ حزامه ومسدسه وقبعته. كنت بالتأكيد شاحبًا جدًّا وقد تبلل قميصي تمامًا. فرغ توريس من تسوية الإبزيم، أدخل مسدسه في الجراب، وبعد أن ملَّس على شعره ارتدى القبعة. أخرج من محفظته نقودًا ودفعها لي نظير مجهودي، وذهب متجهًا إلى الباب. وعلى العتبة توقف هنيهة، ثم استدار إليَّ وقال:

– لقد أخبروني أنك ستقتلني، فجئتُ لكي أرى بنفسي. لكن القتل ليس بهذه السهولة، وأنا أعرف ما أقول.

ثم استدار واندفع إلى الطريق.

……………………………

[1]Hernando Téllez  صحفي وقاص كولـمبي (1908 – 1966). والترجمة تمت عن الترجمة الإنجليزية التي قام بها لورنس كيدل في المجلة الفصلية لخريجي جامعة ميشيغان الأمريكية (ربيع 1956).

مقالات من نفس القسم