فصل من رواية “على عُهدة حنظلة” لـ إسماعيل فهد إسماعيل
إسماعيل فهد إسماعيل
لا تتذكر متى تحرّك قطارك الليلي، الهدهدة والريح التي تعصف في البعيد. يا ناجي. من أين له أن يظهر فجأة. نبرة صوت حنظلة لا تخفي احتجاجه. لم أُفارقك كي أظهر لك. تتلاشى هدهدة قطارك الليلي، تعود لواقعك السريري، أنت هنا مربوط لأجهزتهم. كم هي الساعة الآن. السادسة صباحا. يبدو لي أنّي غبت طويلا. سارع نفى. أبدا. أردف. غادرتنا حنين منذ وقت قصير، كانت على غير عادتها سعيدة لدرجة التفاؤل، قالت لك.. لا تتخيّل حجم سعادتي بك، مرّة أولى منذ إصابتك أحسّك باقيا معي طوال وقت وجودي هنا. استطرد. وزّعت وقتها بين حديثها عن أيام الكويت وبين قراءتها لصفحات استلّتها من مغلّف صاحبك حبيبي. تتساءل صامتا. كيف أكون حاضرا غائبا في الوقت ذاته. أنت لا تتذكّر تفاصيل معيّنة، تخالك بقيت عالقا وسط ما يشبه حضورا افتراضيا، يحيّرك سلوك جسدك، تعجز عن فهم تحوّلاته، يسكنك هاجس لم تألفه قبل الآن أن يتحرّك قطارك باتجاه ظلامك الداخلي ليغيب هناك. يؤنّبك حنظلة. بدلا من أن تفرح لتطوّرك الإيجابي تبحث لك عن أسباب تدعو للتشاؤم. تسأله. ماذا تعني بالتطوّر الإيجابي. أجيبك من مقياس حنين. تندهش أو لا، يتابع. في ليالٍ فائتة كانت تغادرنا حزينة باكية على عكس حالتها هذا الصباح. شيء لا تفهمه. أراد أن يسأل لكني أضفت. ولا أفهمه. ما الذي تريد قوله. للجسد الآخذ بالتلاشي تحوّلات.. قاطعني غاضبا. أنت تفتعل أسبابا لنكدنا. تتملّكني قناعة أن لا مُبرر لاستثارته، قلت له. نترك هذا الموضوع جانبا. رد مُقتضبا. نتركه دائما.. دعنا نستقبل نهارنا الجديد بمزاج طيّب. أنا معك. أغتنم فرصته. بودّي أن أسألك.. زمن عملك في جريدة السياسة الكويتية.. اليوم الأوّل لإعلان ميلادي.. أتذكّر مُلاحظة أبداها أحد زملائك الصحفيين في قاعة المحررين. هذا الذي دعوته حنظلة رسمته برأس كبير نسبيا. قلتَ له. رأسه كبير فعلا وليس نسبيا. أتخيّله وقد ابتسم حائرا، واصلتَ أنت. كِبَر الرأس بدلالة العبقرية. دارى ذاك الزميل استغرابه، حرّك رأسه موافقا كمن ردد في سرّه للـه في خلقه شؤون. قلت. وجه احتجاجك. هو الفضول لا غير. أصغيت له. هل كنت تعني ما قلته بخصوص عبقريتي. جاء تعبيري ذاك عفو الخاطر. لم أفهم. لعلّي تعاملت مع ملاحظة زميلي الصحفي بصفتها فضولا لا مكان له. سمعته يردد بصوت خفيض. للـه في خلقه شؤون. عشتُ بعدها لحظات صمت مُرهق، لم يطرأ لي أن أثير غضبه. أنا لم أغضب. قالها بنبرة جافة. لكنّي منزعج قليلا. كيف أُخلّصك من انزعاجك. أنت لا تهتم بمشاعر غيرك. سمعتها في مناسبات عدّة. هناك شيء اسمه أدب المجاملة. أكره المجاملات. الصراحة في بعض الأحيان تكون كريهة تتسبب بنفور البعض منك. اعترفت له. الذين نفروا منّي كانوا كثيرين. قال. الناس يسمّون الأعمى بصيرا، والأعور صاحب عين كريمة. اعترفت له. بذلت جهدي كي أتحلّى بالمجاملة وفشلت، كانت صراحتي تسبق تفكيري بانتقاء مفرداتي. يلزمك أن تنزع جلابية الفلاح الصعيدي. ضحكت. تبدو متأثّرا بالسينما المصرية. لأنّك جئت على ذكر السينما المصرية.. لم يوفِ جملته. ما الذي تزمع قوله. أوان موعدك مع الممثل المصري نور الشريف يحلّ اليوم. شملتني دهشتي. لم يسبق أن أبرمت موعدا. جرى الاتفاق من خلال مكالمة هاتفية مع وداد قبل عشرة أيام. نوّهت باحتجاجي. أنا آخر من يعلم. كنتَ ما تزال في غيابك إياه.
* * *
غمرك إحساس بالفرح ينازعه ثانٍ بالأمان لدى سماعك صوت وداد تخاطب مرافقين لها من وراء باب غرفتك. علينا أن نستعد لزحمة زوار أبيكم هذا اليوم. جملتها بالمعنى.. جاءت برفقة الأبناء، همس لك حنظلة مُحذرا. لا تنفعل بعيدا. تابع. لبّت وداد مُناشدتك لها أمس. انفتح الباب، تزاحمت الأقدام حول سريرك. يابا. تذكّرت إميل حبيبي وسراياه. نبّهك حنظلة. ليس وقتها. لامستك هبّات رياح طرية، تتلقّى قبلاتهم بدءا من وداد انتهاءً بابنتكما حسنية، احتشدتَ في حاسّة السمع لديك، بدا لك صوت خالد رجوليا أكثر، كذلك صوت أسامة، رعشة الجزع الأنثوي مُداراة في صوتي ليال وحسنية، مرّة أولى منذ حادثتك تسمعهم قريبين إليك. عاتبك حنظلة. لو أنّك راعيت حضورك عصرا. استطرد. ضع باعتبارك لديك ما يستحق أن تعيش من أجله. لم تعن بالرد عليه، ستجدان وقتا كافيا لجدلكما معًا، قالت وداد. جئناك مُبكّرين لأن عدد زوّارك لهذا اليوم أكثر من المعتاد.. إضافة لذلك يزورك نور الشريف حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر. شاغلك حنظلة. لن تغيب قبلها فتخذل نجما سينمائيا شهيرا. لقاؤكما الأوّل كان في بيروت، جاء لزيارة جريدة السفير، احتفى به رئيس تحريرها طلال سلمان قبل أن يطلبك لمكتبه. الفنان الكبير نور الشريف يريد رؤيتك. لممثل تُصنّفه نوعيا مهابته الخاصة بعدما حظيَ باهتمام المخرج الطليعي عاطف الطيّب، حال دخولك مكتب رئيس التحرير هبّ نور للترحيب بك، أخذك بأحضانه، لم تعتد على معانقة نجوم سينمائيين. لي الشرف أن ألتقي بالرسام العبقري ناجي العلي. لست تدري لماذا يُقدم البعض يُسمّيك عبقريا، أنت في العديد من مواقفك الحياتية تجدك ساذجا تحتاج دليلا يأخذ بيدك.. وداد غالبا. يحضرك ارتباكك حينها على الرغم من محاولات نور لإقامة حوار بينكما، قبل مغادرتك اقترح لقاءً يجمعكما في مقهى الهورس شو. الساعة الخامسة عصرا. وصلتَ المقهى قبله بدقائق، وحين جاء رأيته يجتاز البوابة الزجاجية محاطا بعشرات المعجبين والمعجبات، كانت تظاهرة احتفى بها نُدّل المقهى أيضا، أينك من كل هذا، ليتك اعتذرت عن تلبية طلب اللقاء. استغرق نور دقيقتين لكي يتخلّص من زحمة مُعجبيه بلباقة، توجّه إثرها لمكان جلوسك، شدّ على يدك. تتذكّرك تساءلت مع نفسك وقتها هل يجد الفنانون أمثال نور متعة بزحمة الناس حولهم إن كانت الإجابة بنعم ماذا عن خصوصية الواحد منهم. استعادك صوت حنظلة عاتبا. سنجد وهلة زمن كافية لتداعياتنا عندما نكون وحدنا. أكمل. وقتنا الآن للعائلة. يؤنسك أن تكون مُحاطا بهم ويؤلمك عجزك أن تتواصل معهم، أنت مُنذ كاتم الصوت صرت بلا صوت، بلا فعل أو ردّ فعل، لا تملك غير حاسّة سمع مرهونة التلقي بحالات حضور وعيك.. حذّرك حنظلة. يجدر بك أن تعيش اللحظة بدلا من تباكٍ غير مُجدٍ. اللمّة أو اللحمة العائلية شأن تختصّ به وداد، هي من يتولى الإعداد لطلعات عائلية باتجاه الريف الإنجليزي، وقبلها أيام الكويت باتجاه بحر الشعيبة صيفا ومزارع الفنطاس في فصل الربيع، أمّا عن سنواتكم في لبنان.. تناهى لك صوت ابنك خالد مُخبّرا أمه. وصل وفد من اتحاد العمال العرب. سمعت استجابتها آمرة. تخلون الغرفة لهم. انسحاب خطوات واستقبال حشد من أصوات رجالية. الحمد للـه على سلامتك بوخالد. ليس بمقدورك أن تجيب.. السلامة مجرّة أخرى. تتداخل أصواتهم تندغم ببعضها، ينتابك ما يشبه الاختلال بالوزن، تخالك ثقيلا مقارنة، تقاوم الغوص نحو القاع، ولا فكاك من فعل الجاذبية، بما يضطرّك لأن تُسلّم، تتلاشى الأصوات بعيدا، لا شيء غير ظلامك الدامس، السكون صنف غياب لا تجزم بأمده لولا تخفف مفاجئ طرأ على وزنك، تصعد رويدا، فقاعة وعيك تواصل نهجها المعتاد، لونك الرمادي ومن ثم الحليبي، لا مكان لسكون شامل، تلامسك أصوات أليفة، وداد خالد أسامة ليال حسنية، نبّهك حنظلة. حافظ على حضور وعيك من أجلهم. لم تحاججه. لا أحد يجزم بماذا، زحمة بشر مجهولين لك تلقيك، شئت أم أبيت، بعيدا عنك. يطلّ من يخبّر. مبعوث جريدة البيان الإماراتيّة. تلاه. موفد من طرف أبوعمّار، تلاه وفد مكوّن من.. تخونك قواك، أنت غير قادر على متابعة السماع، تهوّم تغوص، ينقطع اتصالك بالخارج لحظات تطول أو تقصر، ليصادفك إثرها تخفف في وزنك تعاود فقاعة وعيك انبثاقها باتجاه أعلى.
* * *
تجزم أنّك منذ الرصاصة في الرأس لم تعرف النوم بمعناه، هناك ظلام دامس، يسبقه أو يلازمه انقطاعك عمّا حولك قبل أن يغادرك وعيك نحو عدمه الخاص به، تتلاشى وسط تيه لا تدرك كنهه، تواتر أحداثك.. رنين جرس الهاتف. همس لك حنظلة. رفعت وداد سماعة التليفون. تخالها أصغت لصوت أحدهم، خبّرتْ. نور الشريف موجود في مكتب الاستقبال. قال خالد. أذهب لملاقاته. بادرته ليال. أنا معك. حذّرك حنظلة. كُن حاضر الوعي. كما مُضاعفة مفاجئة للكثافة تجدك منجذبا للأسفل، شيء ما يشبه التهويم هذه المرّة، أنت لم تفقد وعيك بكامله، كنت أشبه بك واقفا بمواجهة مرآة حمام شقّة النقرة، تتطلع أمامك، ترى انعكاس صورتك مُضببا. لعلّه رجع رطوبة الهواء. تمدّ راحة كفّك تمسح سطح المرآة، يجتاحك فزعك أنت تمسح وجهك في عمق المرآة مخلفا فجوة مُظلمة. يناوشك وعيك. أنا أعاني كابوسا يجدر بي أن أتغلّب عليه. قهر الحلم باليقظة منه. يختفي مشهد حمام شقة النقرة لتراك وسط قاعة شاسعة المساحة جدرانها مغطّاة بالمرايا سقفها كذلك، تحدّق بالاتجاهات فلا ترى انعكاسا لصورتك. يعود وعيك يناوشك. أعاني كابوسا.. أوان حضورك. حنظلة يهيب بك. أجبته مطمئنا. أنا هنا. عاجلك ردّه. صاحبك نور الشريف هنا. تنبّهت تسمعه. عندما وصل المكان ارتأت وداد على الأولاد أن ينسحبوا خارجين بقصد توفير خلوة الصديقين. سكت قليلا، تابع بحس المفارقة. لنجوم السينما حضورهم السحري، تمنّى الأولاد البقاء هنا لولا إصرار وداد. سألته. خلاصة القول. بعدما اختلى نور بك حدّق في وجهك طويلا، لعلّه عانى من شعوره بغيابك أو ما يشبه ذلك. ناشدته. خلاصة القول. ترك مقعده، ها هو يتطلع في شاشات الأجهزة. أضاف. أظنّه سيبدأ حديثه الآن. بلغك صوت نور مُفعما ودّا. أيّها العزيز.. أمامي ربع ساعة للبقاء معك. استطرد. تزدحم قاعة الاستقبال بالعديد من محبّيك، ولا يحق لي الاستحواذ على وقت غيري. همس حنظلة. لم أعهد مثل هذه الرقة ببقيّة أصدقائك. لم تقل له. لمن يتعاطون التمثيل مزايا لا تتوفّر عند غيرهم. واصل نور حديثه. يخصّك بشير الديك بتحياته وتمنياته لك بالشفاء العاجل، آلمنا ما حدث لك، يجب أن لا يفلت المجرمون من عِقاب عادل. سكت لحظة. يقترح الزميل بشير أن نضمّن سيناريو الفيلم التسجيلي الخاص بحياتك ما يشير لهذه الحادثة لكونها صارت مفصلا من تاريخك، إلّا إذا كان لديك اعتراض على ذلك. تقول أو لا تقول، الاعتراض شأن الموافقة.. تتذكّر جانبا من تفاصيل لقائكما في مقهى الهورس شو. إن وافقت على المقترح.. عملنا أنا والسيناريست المتميّز بشير الديك على إنتاج فيلم تسجيلي تتخلله لمسات دراميّة.. هادفين لأن نرصد رحلتك الإبداعية بما يخدم قضيتنا الفلسطينية. تنبّهت وقتها إلى أنّه يتحدث من القلب، مثقفون عرب قلائل لا يتعاملون مع القضية الفلسطينية إلّا من موقع خدمة أهدافهم الشخصية، فنان مثل نور لا يحتاج مزيدا من الشهرة إن لم يجلب على نفسه نقمة جهات ذات صلة، تستعيد تساؤلك في حينه. لماذا وقع اختياركم علي. قبل أن تردف موضّحا وجهة نظرك. هناك عدد من الشعراء والمُفكّرين الفلسطينيين أجدر مني.. تتذكّر مقاطعته لك. لسنا في مجال المفاضلة بين هذا وذاك، أنت وحيد نوعك عربيا. تريّث ذهنك عند توصيفه الأخير. تابع. إلقاء الضوء على تجربتك بالظروف المُصاحبة يُمثّل خدمة مُضافة للقضية التي رصدت لها حياتك. تتذكّرك همست في داخلك. ليس أقدر من إخواننا المصريين على صياغة الكلام الجميل. تتذكر أيضا أن نور الشريف أكّد حضوره عندك بعدما فاجأك بزيارته لك في مكتب جريدة القبس الدولي قبل ثلاثة أشهر. منذ لقاء المقهى البيروتي ذاك لم تتيسر لي فرصة التواصل معك. مهّد بها لحديثه. حتّى صاحبنا السيناريست بشير الديك تملّكه اليأس من إمكانية تنفيذنا للفيلم. حدّق إليك في عينيك كمن يسبر غورك، سألك. هل تتهرّب من تصوير الفيلم. أصدقته ردّك باللهجة المصرية. أنا مُش بتاع أفلام. أطلق قهقهة عالية تمالك جديّته. لكنّي أصرّ، الناس المهتمون بفنّك يصرّون، من حق المُتابع العربي أن يعرف من هو ناجي العلي، كيف نشأ، ما العقبات التي واجهته ريثما بلغ مكانته الحاليّة. سألته كأنّك تناشده. لماذا هذا الإلحاح على.. لم تجد كلمة مناسبة تختم بها. جاءتك إجابته صادقه مثل ما هي مُحيّرة. حلم حياتي أن أجسّد شخصيّة فنان العرب الأوّل ناجي العلي. لقب لا أستحقه. لا تقلق.. كاتب السيناريو بشير الديك أبعد ما يكون عن المُباشرة. بلغك صوت نور مواصلا حديثه. يُفترض بنا أن نبدأ التصوير في أقرب فرصة. لو قلت له افعلوا ما شئتم. قال. حفاظا على توازن الفيلم ما بين التسجيلي والدرامي الواقعي، ارتأينا أن أُمثّل دورك في مراحلك العمريّة بدءا من رسوم الجدران في مخيّم عين الحلوة. سكت لحظة. كُن واثقا من مُشابهتي لك بعد مُشاهدتك للفيلم، مُتخصص المكياج يتكفّل بذلك. فيما يخصك لست واثقا مما ستكون عليه حالك بعد ساعة. أصغيت له. ما قبل مرحلتك العمرية تلك تكون عدسة الكاميرا هي الراوي وتكون أنت حاضرا بقفاك في الجهة اليسرى من أسفل الكادر. نبس حنظلة مُحتفيا. سأكون حاضرا من خلال تحققي فيك. سمعت صوت نور. إن شئت سجّلنا صوتك على الكادر وإلا توليت أنا ذلك. سكت قليلا. أجرينا اتصالات غير مباشرة بسفارة إسرائيل عندنا عساهم يأذنون لنا عبر أحد فناني الداخل بتنفيذ لقطات بانوراما لقريتك الشجرة..
* * *
مرّة تلو المرّة تقع في الخطأ ذاته، حريّ بك أن لا تمسح وجه المرآة بباطن كفّك محاولا إزالة ما تظنّه بخار ماء لتتسبب بمحو انعكاس صورتك المضببة فيها. تؤنّبك أو تعتب عليك.. ها أنت وسط قاعة مترامية تتشكّل جدرانها وسقفها من مرايا عملاقة، تُدقق نظرك باحثا عن انعكاس صورتك في المرايا.. ولا أثر، من أين لك بظاهرة مثل هذه. تُعاني ما يشبه الاختناق، تردد مع نفسك. لا أنتمي لهنا. تنتابك خفّة وزن تعرفها، تصعد رويدا. يا ناجي. يلامسك صوته الطفولي يعيد لك وعيك بواقع حالك، تسأله. هل غبت طويلا. زهاء ثلاث ساعات. يستدرك. غياباتك السابقة كانت تدوم ما يقارب عشر ساعات. أضاف. لكن غيابك الآن أثار خوفي. لماذا. كأنّي سمعتك تسأل عن محو الصورة. لست تذكر أنّك أطلقت صوتك خلال وجودك وسط المرايا، أصدقته إحساسك. أموري ما عادت هي. لم أفهم. كلانا كذلك. أنت تحيّرني. يبدو لي أنّي أُعاني تحوّلات نوعية تمهيدا لما بعد. ما الذي يعنيه تعبيرك الأخير. ليتني أعرف. أنت تخيفني. لو ابتسمت له. شأن قطار الليل. بدا عليه كمن نفض يده. دعنا نتحدّث في الراهن. معك. أعمل ذهنه برهة، قال. أعجبتني أحد مقاطع سيناريو فيلم نور. أي مقطع. عين الكاميرا واستعراضها للأماكن في مسقط رأسك.. قرية الشجرة. شابت صوته نبرة امتعاض. لم يولِ اهتماما لمسقط رأسي.. الكويت. ما أدراك. أنصتنا لصوت وداد ترحّب بأحد زائريك، سرعان ما عرفت أنه مراسل مجلة عربية تصدر في باريس. الصحفيون بالإلحاح الملازم لطبيعتهم. قال لك حنظلة. الرجل الذي دخل الآن أخذ يتفحّص أجهزتك قبل أن يُشرّع كاميرته لالتقاط صوره، حذّرته وداد بلطف. إلّا التصوير. لم يُخفِ الآخر شعوره بالإحباط. سيكون تحقيقا غير وافٍ. استل كرّاسا من جيبه. من هي الجهة أو المنظمة أو الشخص الذي حاول اغتيال.. حسب قناعتكم. أجابته وداد. لا نريد أن نستبق الأحداث. تابعت. هناك جهات أمنية مختصّة تتصدّى للأمر. هل تتوقعون تجدد محاولة الاغتيال. نمّ صوت وداد عن حنقها. ما هذا السؤال. لكنّ الصحفي واصل مُبررا. وإلّا ما استعنتم برجال أمن أمام باب الغرفة. لم نطلب تخصيص رجال أمن، قيل لنا.. إجراءات احترازية. من هي الجهات التي تكنّ عداءً سافرا لناجي. كارهو الحرية. هلّا تفضلّتم بتحديدهم. كلّهم. استجمع الصحفي جرأته. هل تتهرّبون من الإجابة على أسئلة الصحافة. لم يسمع ردّا، قال حنظلة مُخبّرا. أطبق الرجل كرّاسه مُزمعا انصرافه. مرّت لحظات صمت، بدرت عن وداد زفرة أسى. هناك المزيد من الزوّار. تُنصت لأصوات القادمين حينا، تخونك قواك حينا، وحده حنظلة يرابط عند تخوم وعيك. يسود مناخ من الصمت قبل أن ينتابك إحساس بإرهاق عاتٍ لا تعرف مصدره، نوع من محاصرة مقيتة، بقاؤك حيّ لا يعتمد على عمل رئتيك فتقول أُعاني من ضيق تنفّس، أوضاعك حاليا غيرها عن أمس أو أيام سابقة. ما بك. يصلك تساؤل حنظلة، صوته لا يخفي خوفه، تُصْدقه ردك. لا أعرف. يحذّرك. لا تستسلم. لا موجب لأن تقول له. الاستسلام يعني وجود جهة ما توكل لها أمرك في حين أنّك بك منك إليك. ليكن في علمك أنّي أسمعك. لن أضحك. لا تسخر. شرّ البليّة.. من عادتك أن لا تستشهد بأقوال مستهلكة. أنا مُستهلك الآن. إلّا اليأس. ما هو اليأس. أن لا تقاوم. لن أضحك. بُتّ تحيّرني. أنا محتار بي.
لاذ حنظلة بصمته مقهورا، عزّ علي أن يُعاني إحباطه تجاهي. حاولت إشراكه إحساسي بي. هو العجز في المكان، في الجسد، في البقية الآخذة بالتلاشي من الوعي. نبس حزينا. لستَ الشخص الذي أعرفه. وددت لو أسأله كيف لكنه استطرد. الساعة الآن الثامنة ليلا، غادرنا الجميع، دعنا نركن للحظات من التأمّل استعدادا لوصول حنين.. إلّا إذا شئت أن تندب حظّك إلى ما لا نهاية. من أين تأتي بتعابيرك. منك. أنّبته. تعرفني لا آخذ مسألة الحظ على محمل الجد. خُذ مسألة التفاؤل بديلا. يبدو أن معينك من كلمة تفاؤل لن ينضب. ما دمتُ ضمير ناجي العلي. تملكتني قناعتي. مزيد من الجدل مضيعة للجهد. فاجأني ترصده لما بيّته. أسمعك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وروائي كويتي، من مواليد 1940.حاصل على العديد من الجوائز، منها: جائزة الدولة التشجيعية في مجال الرواية 1989، جائزة الدولة التشجيعية في مجال الدراسات النقدية 2002، القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2017.
الرواية صادرة مؤخرًا عن دار العين