مولانا العارف بالله!!

محمود سلطان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود سلطان

أطال في التشهد الأخير، ثم سلم ونهض ونادى في الناس: “لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ”.

برز من بين المُصلين، رجل وهو يلملم ذيل جلبابه الممزق، ليُخفي ما تهدل منه من خيوط وشقوق، لم تترك فوضى التجاعيد المحفورة على وجهه الشاحب، له فرصة تضليل العيون بعيدًا عن حاله البائس:

ـ مولانا الشيخ: هل ندعو على الظلمة إذا جاروا؟

التفت الجميع نحوه، ضج المسجد بهمهمات المُصلين، القليل منهم يرمقونه بلوعة أسرتها قلوبهم الواجلة، وعلت أصوات الأكثرية تذمرًا، تساءلوا عنه بسخرية ممتعضة، عوى جسد الرجل من الخوف، وهم بالخروج مُسرعًا من المسجد، تتخبط يمناه بيسراه، حافيًا بدون أن ينتعل بُلغته.

اختفى الشيخ فجأة، تعقبوا أثره، تفقدوا المسجد شبرًا شبرًا، فلما استيأسوا نادوا خادمه.

ـ أين مولانا؟!

ـ أبشروا.. حملته الملائكة لإنقاذ رجل سقط في بئر بصحراء ليبيا، وسيصلي بكم العشاء الليلة.

ضاقت ساحات المسجد بالناس، واشرأبت أعناقهم نحو السماء، ينتظرون نزول الملك حاملاً على جناحيه مولانا قادمًا بسلام الله من ليبيا.

أدركهم الميقات، وارتسمت قسمات القلق على الوجوه، وطلت ملامحها من شرفات العيون الزائغة، وهي تغالب العتمة والنعاس:

ـ تأخر الشيخ ولم يفِ بوعده!

تعالت أنفاس المُصلين، وارتفعت صدورهم علوًا وهبوطًا، استسلموا لوشوشة النفس وهي تعلق على قلوبهم أقفالها:

ـ صدق مولانا حتى ولو لم يأتِ!

ظهر الخادم.. حشر فنادى:

ـ عباد الله.. لقد صلى مولانا العشاء في دوار جناب العمدة.. استغاث به جنابه بعدما سقط شبح من السماء في قعر الدوار، ففزعت نساء العمدة، ووضعت كل ذات حمل حملها، ونفقت المواشي، وهرب الخفر، وعندما دخل الشيخ أطرق ساعة ثم ارتفع الشبح إلى السماء، فســألوا، فقال: هذا مَلَك، وقعت منهُ هفوة، فسقط علينا يستشفع بنا، فقُبِلَت شفاعتنا”.

تدافع الناس إلى الدوار، وقد جفت حلوقهم من كثرة اللهث، وألسنتهم تلهج بطلب المدد، خرج الشيخ مُحاطًا بالخفر وبأهازيج المديح، تبدلت هيئته: عمامة من الحرير أرخاها خلف ظهره، واستبدل الجبة والقفطان، بقميص وبنطال واستدار الوجه بعد أن كان كالحًا مثل كوز ذرة قضمت حبيباته،  وتورمت خدوده مثل حبتي تفاح، وانتفخت جيوبه، وتدلى كرشه من تكة البنطال. يمم وجهه شطر المسجد، يمشي الهوينا بتواضع مصطنع واتبعه المريدون، يتكففون رضاه وبركته ويقبلون الأرض من تحت قدميه..  صعد المنبر:

ـ أيها الناس سألني سائل منكم: هل ندعو على الظلمة إذا جاروا؟  

أقول والله المستعان وعليه التكلان: لا، لأن جورهم لم يصدر عنهم أصالة، وإنما صدر عن المظلوم، فإنه ما ظُلم حتى ظلم نفسه أو غيره، والحكام مسلطون بحسب الأعمال، وإنما هي أعمالكم ترد عليكم، والحاكم الجائر عدل الله في أرضه ينتقم به من خلقه، ثم يصير إلى الله، فإن شاء عفا، وإن شاء انتقم منه، وربك فعال لما يريد، وهو الغفور الودود”.

بعد أيام رفع فلاح إليه مظلمته:

ـ اعتقل شيخ الخفر زوجتي وبناتي وحبسهن في عضامة المقابر، ومنعهن من أن يسدلن عباءاتهن على رؤوسهن، وتحسس مواضع عفتهن.. ولم يطلق سراحهن إلا بعد أن انتزع بصمتي على عقد بيع مزرعتي للبيه ابن جناب العمدة.

ـ اشكر الله تعالى، كيف لو دخل الشيطان إلى قلبك، وسرق التوحيد وأفسده، ماذا كنت تصنع؟.. يا عبد الله اتقِ الله ولا ترد نعمته التي فاء بها عليك.. إن الفقير أقل حسابًا يوم القيامة من الغني، ولهذا فإن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء.

في الصباح والناس يقطعون الجسر يسوقون مواشيهم، تعطل إحساسهم المعتاد بلهفة حقولهم إليهم وهي تتدثر ببعضها من البرد، حين لمحوا سورًا من أعواد الغاب والديس والقش والهيش يبتلع المزرعة، يذيبها في أمعاء ذوات الكروش الواسعة وقد كتب عليها: مزرعة جناب العمدة وشركاه.. نجله ومولانا العارف بالله.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون