وجوه تبحث عن مؤلف

وجوه تبحث عن مؤلف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عالم الفلاحين، عالم بغيض لمن لم يعهده أو يعش فيه من قريب أو بعيد. وإذا عشتُ فيه عنوة، يصبح بالنسبة لك عالم صعب التعايش فيه بأي سبيل، كل شيء غريب، وصعب التكيف معه ، حتى رؤية الخضرة، واستنشاق هواء الأرض النقي، والراحة، وجلسات النميمة علي المصاطب المثيرة وغير المثيرة، لم تعزز وحدة وحزن نبوية الشابة الجميلة جمال الفنانة برلنتي عبد الحميد بالضبط ، التي غضب عليها أبوها الصعيدي الأصل بالزواج من جاد ابن خالها الفلاح.. الذي يعيش في قرية كحك التابعة لمركز ابشواي، محافظة الفيوم فراش في مدرسة حكومية ، وإن كان أهلها قد انتقلوا للعيش في فيصل بمحافظة الجيزة منذ كان سنها عشر سنوات وأبوها بواب لأحدي العمارات ، حتى انتقل بالعمل كبواب خاص لإحدى فيلل أحد الأثرياء فى مريوطية الهرم ، حاولت الهرب والتملص من الزيجة ، حيث كان قلبها مع حليم البقال، الذى كان يفتح (كشكا) صغيرا أمام عمارة أبيها ، حيث عمل الأب وسكنهم ، وقد اتفقا علي الزواج ، لكن الأب ذو الجذور الصعيدية ، عادت إليه عصبية الصعايدة ، التي لا تتغير حتى لو عاشوا في أمريكا قائلا بحدة :

إحنا صعايدة وأهلنا فلاحين وكل طور أولي بلحمه.

    جاد الفلاح ذو بنية جسدية قوية ، وعقل من ذهب، هو يعمل فراش المدرسة لكنه يدير المدرسة وكأنه صاحب المدرسة ، في الصباح يفتح المدرسة ، وينظف حجرة المدير والمدرسين وأختاه تـُنظفان المدرسة ، ويدير للمدرسين حلبة الدروس الخصوصية بكل نظام ودقة برتيب مواعيد المدرسين والطلاب حتى لا تتضارب مع بعضها، فهو متعلم معه دبلوم تجارة، استغله جيدًا في عمله، ويتقاضي علي كل نفر خمسة جنيهات في مقابل توفير المكان وهو المدرسة، التي تبدأ العمل بها بعد انتهاء اليوم الدراسي بساعتين، حيث يذهب الجميع للغذاء.. ويستمر إعطاء الدروس الخصوصية إلي الوقت الذي يريده المدرسين والمدرسات كل علي حسب ظروفه، ولا يتغاضي عن فعل أي شيء للمدير والناظر والمدرسين والمدرسات وأهالي البلدة في مقابل المال. وكان شريك محمد علي ناظر المدرسة في إنجاح الطلاب دون وجه حق في مقابل النقود ، التي يتولي أمرها جاد ، ويتقاسمها مع الناظر محمد علي ، بينما المدير القادم من محافظة الفيوم ، لا يعلم وليس له أي دور فهو مجرد ديكور.. يكمل بها هيئة التدريس.. فالمفاتيح والأوراق وكل شيء في يد جاد والناظر محمد علي.

    ونبوية الشابة الجميلة ، التي كانت تحلم طول عمرها بالحياة في المدينة ، التي تعودت عليها وتعلمت بها وحصلت علي دبلوم الفنية قسم تطريز، والتقتْ بحليم البقال وأحبته وتمنـّنته زوجًا لها ، لم تستطع أنْ تتحمّـل جاد الجلف ، الذي لا يعرف أى شيء عن الحب والجنس رغم عقله التجاري النشيط ، يضاجعها في دقائق، وعندما ينتهي ويحصل علي شهوته القصيرة يتركها كالخرقة المبتلة ، دون أي حساب لمشاعرها أو إرضاء شهوتها هي أيضا، تكرهه وتكره نفسها وفي لحظات اليأس، تدعو عليه بالموت، حتي تعود إلي مصر مرة أخري عند أهلها ، فالمصريون يطلقون بعفوية علي القاهرة والجيزة مصر ماداموا يعيشون في المحافظات الأخرى وخاصة في قري الفلاحين ولأن جاد لن يتغير، ولا تعرف متي سيموت؟ ولا طلاق ولا عودة إلي مصر، بدأت تفكر في الحيل الحياتية للبقاء والاستمرار حاولت الخروج من المنزل والتحاور مع الجيران من النساء، لكنهم كانوا غرباء ومختلفين حتي في اللهجة، بل أحيانا يتشدقون سخرية وتقليدا مضحكا أكثره إهانة من لهجتها المصراوية كما يُطلقون عليها.

    تأخر الانجاب، لكن جاد رحمة من عند الله بحالها، لا يهتم إلا بجمع المال، والعمل ليل نهار في المدرسة ليملأ جوف الطمع والجشع الذي غشا بصره وبصيرته وقد اشتري قطعة أرض علي مساحة 100متر في محافظة الفيوم بالقسط وينوي بناءها؛ ليصبح من أعيان البلد، بيت في البلد، وبيت في الفيوم وهذا ليس بالشيء السهل الحصول عليه؛ فبيوت المدينة غالية جدا جدا.

    تذكرت نبوية جارتها السودانية من أب مصري- وأم سودانية وتعيش في مصر من 30عاما المتزوجة من مصري ، ما كانت تفعله حتى تؤنس وحدتها، وفراغها، كانت تربي في منزلها علي السطوح الطابق الثالث تقريبا كل أنواع الطيور فراخ،بط ووز وكتاكيت ، وديك رومي، وأرانب ماعدا الحمام، لأن غية الحمام تحضر الثعابين غالبا، كانت بعد أن تضع لهم الطعام والشراب، وتنظف العشش تجلس علي كليم الكنب البلدي القديم تختار كل يوم عشه وتحاور من بداخلها فراخ أو بط أو غيرهم وتقول بعتاب :

– انت ليه ضربت أخوك الديك النهاردة مش حرام

ولا انت فاكر نفسك علشان ما انت الديك الكبير اللي فيهم تضربهم لو عملت كدة تاني ادبحك وأكلك وأريحهم منك.

    كنت لا أزال صغيرة، وأذهب إليها للحديث والمذاكرة، والملابس التي تطرزها لي كانت تحبني كابنتها وأكثر، فقد حـُرمتْ لفترة طويلة حوالي ثماني سنوات من الإنجاب حتى من الله عليها بثلاث أولاد، كنت أجلس بجانبها علي السطح وتظل تخاطب وتتحدث مع الطيور:

إنت ليه يا بطة كلتي أكل الفراخ يا حبيبتي.. دول بلينات غلابة مالكيش دعوة بيهم

اسألها والاستغراب يملأني :

– إنت ليه بتعملي كدا ليه يا أبله موده :

تطبطب علي كتفي بحنو وتقبلني قائلة بابتسامة واسعة:

– تعالي يا حبيبتي أوريكى الجيبة الجديدة وأقولك ليه.. عايزة أشوف مقاسك ولا لأ..

حتى قالت لي بحزم وتباه:

– أنا يا حبيبتي بكل بساطة بحمي نفسي من الغيبة والنميمية مع الجيران، مش أحسن أتكلم مع الطيور الغلبانة الطيبة دي، ولا أتكلم مع الناس عن الناس وآذيهم بلساني وقلبي وعقلي.

طالت أيضا فترة عدم الإنجاب لنبوية، كما حدث لمودة، وقررت أن تشغل وقتها أكثر بالخياطة لكنها اختارت تطريز الملايات، والمفارش، التي أبدعت بها وبدأت تذهب لإحضار كتالوجات من محافظة الفيوم لصنع مثيلاتها، وتوسعت وأحضرت ماكينتىْ خياطة  واثنان يساعدونها في الطابق الأول الذي أفرغته تماما لصنع الملاءات والمفارش وكان جاد سعيدًا سعادة لا يحسد عليها من زوجته الذكية والتجارية مثله ، وانشغل هو أيضا ببناء منزله في الفيوم، حتى جاءته البلهارسيا، فصُدم واكتئب بينما نبوية تضحك وتقول قولا لا يتوقعه أحد:

يا أخويا ح تاخد البرشام وتبقي كويس، وتضحك أكثر بسخرية.. أهي البلهارسيا دي اللي موتت حبيبنا واستأذنا عبد الحليم حافظ الله يرحمه ويحسن إليه.. سبحانك يارب دلوقتي مع جاد بتتعالج ببرشام.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون