فصل من رواية “القارئ” لـ برنهارد شلينك

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ترجمة تامر فتحي

في الليلة التالية، وقعت في حبها. لم أنم بعمق، كنتُ مشتاقًا لها، وحلمتُ بها، وشعرتُ بأني أتحسسها إلى أن أدركتُ أنني أمسكُ بالوسادة أو البطانية. فمي مجروح من شدة التقبيل، واستَثرتُ نفسي مررًا، لكنني لم أرغب في أن أستمني. ما كنتُ راغبًا أبدًا في الاستمناء. أردت فقط أن أكون معها.

هل وقعتُ في حبها جزاءَ نومها معي؟ حتى يومنا هذا، بعد قضاء ليلة مع امرأة، أشعر بأنني دُللتُ كثيرًا، وصار لزامًا عليّ دفع المقابل- لها بمحاولتي حبها على الأقل، وللعالم بتقبله.

واحدة من ذكرياتي القليلة الحية من أيام الطفولة تتعلق بالصباحات الشتوية لما كنت في الرابعة من عمري، وكانت الغرفة، التي كنتُ أنام فيها، في ذلك الوقت، من غير تدفئة، وفي الليل، ومع بواكير الصباح غالبًا ما تكون في غاية البرودة. أذكر المطبخ الدافئ، والموقد الساخن، موقد حديدي ثقيل، يمكن رؤية النار عند رفع الصحون والحلقات بممسك اللهب، عليه وعاء ماء ساخن جاهز على الدوام. أمام الموقد كانت أمي دفعت بمقعد لأقف عليه، بينما كانت تقوم بتحميمي، وإلباسي ثيابي. أذكر الشعور المريح بالدفء، والمتعة، التي كنت أحصل عليها في اغتسالي، وارتدائي لثيابي في هذا الدفء، وأذكر أنه كلما جال الموقف بخاطري، كنتُ أتساءل لماذا دللتني أمي لهذا الحد. أكنتُ مريضًا؟ هل نال أخوتي شيئًا لم أنله؟ أم أن هناك شيئا غير طيب وصعب كان يتحتم علي الخوض فيه بقية اليوم؟

أيضا، ولأن المرأة، التي أجهل اسمها، دللتني في تلك الظهيرة، لذا ذهبتُ إلى المدرسة في اليوم التالي، فضلًا على أنني أردت أن أستعرض الرجولة، التي حصلت عليها. ليس بالحديث عنها، لكنني شعرت بأني قويٌ ومتفوق، وأردتُ أن يرى رفاقي في الفصل والمدرسون هذه القوة والتفوق، وأيضًا، ورغم أنني لم أتحدث معها بخصوص هذا الأمر، لكنني أتصور أن عملها ككمسارية غالبًا ما سيكون في المساء والليل، فكيف سيتثنى ليّ رؤيتها كل يوم لو تحتم عليّ البقاء في البيت غير مسموح لي بفعل شيءٍ سوى الخروج في فترة النقاهة للتريض.

حين رجعتُ من عندها للبيت، كان أبواي وإخوتي بدأوا في تناول العشاء بالفعل. "لماذا تأخرت؟ أمك كانت قلقة عليّك". بدا أبي من صوته أنه منزعج أكثر من كونه قلقًا.

قلتُ إنني ضللتُ طريقي، فلقد أردت المشي عبر حديقة النصب التذكاري الموجودة عند المقابر في اتجاه مولكينكر، إلا أنني همت على وجهي لمدة طويلة دون أن أدري أين أنا، حتى انتهي بي المطاف في ناسلوخ. "ولم يكن معي مال، لذا كان عليّ أن أعود من ناسلوخ للبيت سيرًا على الأقدام".

"كان بوسعك أن تشير لسيارة لتوصيلك". في بعض الأحيان كانت أختي الصغرى تفعل ذلك، لكن أبويّ لم يكن يروقهما ذلك.

نخر أخي الأكبر ممتعضًا، "مولكينكر وناسلوخ في اتجاهين مختلفين تمامًا".

حدجتني أختى الكبرى بنظرة متفحصة.

"غدًا سأعود للمدرسة".

"إذا عليك أن تهتم بالجغرافيا، فهناك شمال، وهناك جنوب والشمس تشرق...".

قاطعت أمي أخي، "قال الطبيب ثلاثة أسابيع أخرى".

"لو أنه بإمكانه قطع المسافة كلها عبر المقابر إلى ناسلوخ، ثم العودة ثانية، إذن فبإمكانه الذهاب للمدرسة. ليست القوة هى ما تنقصه، بل العقل".

منذ كنا صبية صغارا، كنتُ أنا وأخي نضرب بعضنا بعضًا باستمرار، بعد ذلك صرنا نتشاحن بالكلمات. كان يكبرني بثلاث سنوات، ويفوقني في الأمر الأول والثاني. عند حد معين توقفتُ عن مبادلته العراك، بل تركت هجماته تروح أدراج الرياح، ومنذ ذلك الحين، وهو يحصر نفسه في الشكاية ضدي.

"ماذا تعتقد؟"، التفتت أمي لأبي، فوضع سكينته وشوكته في طبقه، وعاد بظهره للوراء، ثم عقد يديه في حجره، ولم يقل شيئًا. نظر بتمعنٍ، بطريقته المعتادة عندما تحدثه أمي بخصوص الأولاد أو شئون البيت، وكالمعتاد، أخذتُ أتساءل إذا ما كان حقًا يقلب سؤال أمي في رأسه، أم أنه كان يفكر في أمر يخص عمله، ربما كان يفكر حقًا في سؤال أمي، لكنه ما إن يبدأ رأسه في العمل، فلا يسعه التفكير إلا في عمله. كان أستاذًا للفلسفة، وكان التفكير حياته، التفكير والقراءة والكتابة والتدريس.

أحيانا ما ينتابني شعور بأننا كلنا جميعًا في عائلته أشبه ما نكون بالحيوانات الأليفة بالنسبة له. الكلب الذي تصحبه معك للتريض، القطة التي تلعب معها، وتتكوّر في حجرك، وهى تموء برقة، من أجل أن تداعبها، قد تغرم بهم، بل حتى قد تحتاج إليهم إلى حد ما، إلا أن الأمر برمته -شراء الطعام، وتنظيف الصناديق، وزيارات الطبيب البيطري- لهو أمرٌ مُبالغ فيه فعلًا، فحياتك في وادٍ آخر. كنتُ أتمنى لو أننا -عائلته- كنا حياته. أحيانًا كنتُ أتمنى أيضًا لو أن أخي الشكاء، وأختى الصغيرة المتغطرسة كانا مختلفين، لكن في تلك الليلة شعرت بأنني أحبهم جميعًا فجأة، وبشكل فظيع. أختي الصغيرة، ربما ليس من السهل أن تكون الأصغر بين أربعة، لذا فهى احتاجت أن تكون متغطرسة لتحافظ على استقلاليتها. أخي الأكبر. تقاسمنا الغرفة معًا، ولا بد أن الأمر أصعب عليه مني، علاوة على ذلك، كان عليه، منذ مرضي، ترك الغرفة لي وحدي والنوم على الأريكة في غرفة المعيشة، فكيف لا يشتكي مني؟ أبي. لم يتحتم علينا نحن الأطفال أن نكون كل حياته؟ لقد كنا نكبر بسرعة، وعلى وشك أن نصبح بالغين، ونترك البيت.

شعرتُ كما لو أننا نجلس معًا للمرة الأخيرة حول المائدة المستديرة تحت نجفة القصدير ذات الشمعات الخمس، ونتناول وجبتنا الأخيرة من الصحون القديمة المنقوش على حافتها أوراق العنب الخضراء، ونتحدث مع بعضنا البعض بحميمية شديدة لآخر مرة. شعرتُ كما لو أننا نقول وداعًا. كنتُ لا أزال موجودًا، لكنني رحلتُ بالفعل. كنتُ أحنُ لأمي وأبي وأخي وأختيّ، وأشتاق للمرأة.

تطلع إليَّ أبي، "غدًا سأعود للمدرسة, ذلك ما قلته، أليس كذلك؟"

"نعم"، وهكذا لاحظ أنني من سأله، وليس أمي، وأنني لم أكن أتساءل إذا ما كان يجب عليّ الذهاب للمدرسة أم لا. 

أومأ برأسه، "فلتعد للمدرسة إذن. لو صار الأمر مُتعِبًا لك، فستعود للبقاء في البيت ثانية".

كنتُ سعيدًا، وفي الوقت نفسه شعرتُ بأن مراسم الوداع اكتملت.

8

على مدار الأيام القليلة التالية، كانت المرأة تعمل في الوردية الصباحية، وكانت ترجع للبيت في الثانية عشرة ظهرًا، وكنتُ أقطع أخر حصة دراسية لأكون بانتظارها على الدرج خارج شقتها. كنا نتحمم، ونمارس الحب، وقبيل الواحدة والنصف كنتُ أرتدي ثيابي في عجالة، ثم أنطلق خارجًا من الباب، فالواحدة والنصف كان موعد تناول الغداء. في أيام الآحاد كان الغداء في الثانية عشرة، وكانت ورديتها الصباحية تبدأ، وتنتهي لاحقًا.

وددتُ لو تخطينا الحموم، لكنها كانت نظيفة للغاية، تتحمم كل صباح، وكنتُ أحب رائحة العطر، والعرق الطازج، ورائحة الترام، التي تحضرها معها للبيت من العمل، لكنني كنتُ أحب أيضًا جسدها المبتل المغطى بالصابون، وأحب أن أتركها تحممني بالصابون، وأحممها بالصابون، ولقد علمتني ألا أفعل ذلك بحياء، بل بإحكام وتمكن، ومع أننا كنا نمارس الحب معًا، إلا أنها كانت تتملكني كالعادة. فمها كان يستحوذ على فمي، ولسانها كان يلعب بلساني، أخبرتني أين ألمسها، وكيف، كانت تعتليني إلى أن تصل إلى الذروة، كنتُ موجودًا فقط لتنال المتعة مني ومعي. لا أقصد أنها كانت تفتقر إلى الرقة، أو أنها لم تكن تمتعني، بل كانت تفعل الأمر لمتعتها اللعوب، إلى أن تعلمت أن أتملكها أيضًا.

حدث ذلك فيما بعد، ولم أتمكن من فعله تمامًا، ولوقت طويل لم يكن يفوتني فعل ذلك. كنتُ صغيرًا، وأصل للذروة سريعًا، وحين أفيق ثانية ببطء، كنتُ أحب أن تتملكني. كنت أنظر لها، وهى فوقي، لبطنها، التي انثنت بعمق من أعلى سرتها، لثدييّها، الثدي الأيمن أكبر قليلًا من الأيسر، لوجهها وفمها المفتوح. كانت تستند بيديّها على صدري، ثم في اللحظة الأخيرة تنزعهما، وتمسك برأسها وتطلق نشيجًا مكتومًا، وخرخرة أفزعتني في أول مرة، لكنني رحت أنتظرها بشوق كبير بعد ذلك.

بعدها، كنا نسقط خائري القوى، وغالبا ما كانت تروح في النوم وهى فوقي. كنتُ أسمع صوت المناشير في باحة المنزل، والصيحات العالية للعاملين بها كي يتسنى لهم سماع بعضهم البعض، وعندما يسكت صوت المناشير، كانت ضوضاء المرور بشارع المحطة تخترق المطبخ، وعندما تتناهى لمسامعي أصوات الأطفال وهم يلعبون، كنتُ أعرف أن المدارس خرجت، وأن الساعة تجاوزت الواحدة، وأن الجار الذي كان يعود لبيته في وقت الغداء، نثر طعام الطيور على بلكونته، فجاءه الحمام، وأخذ يطلق هديلًا.

"ما اسمكِ؟".. سألتها في اليوم السادس أو السابع.

كانت نامت فوقي واستيقظت لتوها، حتى ذلك الحين كنت أتفادى قول أي شيءٍ لها يتطلب مني مخاطبتها بصيغة رسمية أو حميمية.

حدجتني بنظرة: "ماذا؟"

"ما اسمك؟!"

"لماذا تريد أن تعرف؟".. نظرت لي بارتياب.

"أنتِ وأنا... أعرف لقبك، لكن اسمك الأول فلا. أريد أن أعرف اسمكِ الأول. ما المشكلة في ...".

ضحكت "لا شيء، يا ولد، لا مشكلة في ذلك. اسمي هانا"، ثم واصلت الضحك، ولم تتوقف إلى أن انتقلت إليَّ عدوى الضحك.

"لقد حدجتني بنظرة غريبة".

"كنتُ لا أزال شبه نائمة. ما اسمك أنت؟"

اعتقدت بأنها تعرف، فلم يكن من الظريف في ذلك الوقت أن تحمل الكتب المدرسية في حقيبة، بل أن تتأبطها تحت ذراعك، وعندما وضعتهم على طاولة المطبخ، كان اسمي ظاهرًا أعلى الدفاتر، وكذلك على الكتب المُجلدة بورق سميك ملصوق عليه طابع به عنوان الكتاب واسمي، لكن يبدو أنها لم تعر ذلك اهتمامًا.

"اسمي مايكل بيرج".

"مايكل، مايكل، مايكل"، أخذت تجرب الاسم، "ولدي الصغير اسمه مايكل. إنه في كلية".

"في المرحلة الثانوية".

"في الثانوية، ما عمره يا ترى، سبعة عشر؟".

كنتُ فخورًا بالعاميّن الإضافييّن، التي منحتني إياهم، فأشرتُ برأسي إيجابًا.

"إنه في السابعة عشر من عمره، وحين يكبر يود أن يصبح ......... مشهورًا".

ترددتُ، "لا أعرف ماذا أريد أن أصبح".

"لكنك تجتهد في مذاكرتك".

"نوعًا ما". أخبرتها بأنها أهم بالنسبة لي من المدرسة والدراسة، وأنني أتمنى لو أظل معها طيلة الوقت، "فعلى كل حال سيتحتم عليَّ إعادة السنة الدراسية".

"في أي صف أنت؟"..اعتدلت في جلستها. كانت هذه أول محادثة جادة بيننا.

"في الصف العاشر. لقد فاتني الكثير في الشهور الأخيرة، في أثناء مرضي. لو أنني أريد أن أنتقل إلى الصف التالي فعليّ أن أعمل بغباء، بل يجب عليّ أن أكون في المدرسة الآن"، ثم أخبرتها بأنني كنتُ أترك الحصص الأخيرة.

"اخرج"، وأزاحتْ عنها الغطاء، "اخرج من سريري، وإن أردت ألا تقوم بواجباتك، فلا تعد ثانية. العمل بغباء؟ ها؟ إذن ماذا تعتقد بيع التذاكر وتخريمها؟"، ثم تركتْ السرير، ووقفت عارية في المطبخ، وهى تؤدي دور الكمسارية، وبيدها اليسرى فتحت الحقيبة الصغيرة المليئة برزم التذاكر، مستخدمة إبهام اليد نفسها، المغطى بقمع مطاطي، لسحب تذكرتين، وأخذت تطوّح يدها اليمنى لتمسك المثقاب المتدلي من وسطها، كي تحدث بهما ثقبين: "تذكرتان إلى رورباخ"..أسقطت المثقاب، وامتدت يدها إلى فاتورة، وفردتها على بطنها، ثم فتحت حافظة النقود، ووضعت بها الفاتورة، وأغلقت الحافظة ثانية، وراحت تضغط على الفكة من خارج كيس العملات المعدنية الملتصق بالحافظة.

"من الذي لم يقطع تذكرةً؟"، ثم نظرت إليَّ، "العمل بغباء، أنت لا تعرف ما العمل بغباء".

جلستُ على حافة السرير. كنتُ مصدومًا، "أنا آسف، سأقوم بواجباتي. لا أدري إن كنتُ سأفلح في ذلك في غضون ستة أسابيع، فالسنة الدراسية أوشكت على الانتهاء. سأحاول، لكن لن يمكنني عمل ذلك دون رؤيتك"، "أنا ....". أردت أنا أقول في أول الأمر أحبكِ، إلا أنني لم اُفضل ذلك، ربما كانت محقة.. إنها محقة بالطبع. لكن ليس من حقها أن تطالبني بعمل المزيد من واجباتي المدرسية، وأن تجعل من ذلك شرطًا لكي نرى بعضنا ثانيةً، "لا يمكنني أن لا أراكِ".

دقت ساعة الصالة الواحدة والنصف "عليك أن تذهب". ترددتْ، "من الغد سأعمل الوردية الرئيسية، وسأعود للبيت في الخامسة والنصف بوسعك أن تأتي. بشرط أن تقوم بواجباتك أولًا".

وقفنا عرايا قبالة بعضنا، لكن لم يبدو عليها أبدًا أي ازدراء، وكأنها ترتدي زيها الرسمي. لم أستوعب الموقف. هل كانت تفكر فيَّ؟ أم في نفسها؟ لو أن أداء واجباتي المدرسية هو العمل بغباء، فإن ذلك يجعل من عملها أكثر شقاءً، أهذا ما أغضبها؟ لكنني لم أقل أن عملها هو عملٌ غبي. أم أن الأمر أنها لا تريد الفشل لحبيبها؟ لكن هل أنا حبيبها؟ وهل هى كذلك بالنسبة لي؟ ارتديت ثيابي، في تلكؤ، وتمنيت لو قالت شيئًا، لكنها لم تقل شيئًا، ثم انتهيت من ارتداء ملابسي، وكانت ماتزال تقف عارية، وعندما احتضنتها مودعًا لم تستجب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 تصدر قريبًا عن دار روافد 

 

ترجمة تامر فتحي

في الليلة التالية، وقعت في حبها. لم أنم بعمق، كنتُ مشتاقًا لها، وحلمتُ بها، وشعرتُ بأني أتحسسها إلى أن أدركتُ أنني أمسكُ بالوسادة أو البطانية. فمي مجروح من شدة التقبيل، واستَثرتُ نفسي مررًا، لكنني لم أرغب في أن أستمني. ما كنتُ راغبًا أبدًا في الاستمناء. أردت فقط أن أكون معها.

هل وقعتُ في حبها جزاءَ نومها معي؟ حتى يومنا هذا، بعد قضاء ليلة مع امرأة، أشعر بأنني دُللتُ كثيرًا، وصار لزامًا عليّ دفع المقابل- لها بمحاولتي حبها على الأقل، وللعالم بتقبله.

واحدة من ذكرياتي القليلة الحية من أيام الطفولة تتعلق بالصباحات الشتوية لما كنت في الرابعة من عمري، وكانت الغرفة، التي كنتُ أنام فيها، في ذلك الوقت، من غير تدفئة، وفي الليل، ومع بواكير الصباح غالبًا ما تكون في غاية البرودة. أذكر المطبخ الدافئ، والموقد الساخن، موقد حديدي ثقيل، يمكن رؤية النار عند رفع الصحون والحلقات بممسك اللهب، عليه وعاء ماء ساخن جاهز على الدوام. أمام الموقد كانت أمي دفعت بمقعد لأقف عليه، بينما كانت تقوم بتحميمي، وإلباسي ثيابي. أذكر الشعور المريح بالدفء، والمتعة، التي كنت أحصل عليها في اغتسالي، وارتدائي لثيابي في هذا الدفء، وأذكر أنه كلما جال الموقف بخاطري، كنتُ أتساءل لماذا دللتني أمي لهذا الحد. أكنتُ مريضًا؟ هل نال أخوتي شيئًا لم أنله؟ أم أن هناك شيئا غير طيب وصعب كان يتحتم علي الخوض فيه بقية اليوم؟

أيضا، ولأن المرأة، التي أجهل اسمها، دللتني في تلك الظهيرة، لذا ذهبتُ إلى المدرسة في اليوم التالي، فضلًا على أنني أردت أن أستعرض الرجولة، التي حصلت عليها. ليس بالحديث عنها، لكنني شعرت بأني قويٌ ومتفوق، وأردتُ أن يرى رفاقي في الفصل والمدرسون هذه القوة والتفوق، وأيضًا، ورغم أنني لم أتحدث معها بخصوص هذا الأمر، لكنني أتصور أن عملها ككمسارية غالبًا ما سيكون في المساء والليل، فكيف سيتثنى ليّ رؤيتها كل يوم لو تحتم عليّ البقاء في البيت غير مسموح لي بفعل شيءٍ سوى الخروج في فترة النقاهة للتريض.

حين رجعتُ من عندها للبيت، كان أبواي وإخوتي بدأوا في تناول العشاء بالفعل. “لماذا تأخرت؟ أمك كانت قلقة عليّك”. بدا أبي من صوته أنه منزعج أكثر من كونه قلقًا.

قلتُ إنني ضللتُ طريقي، فلقد أردت المشي عبر حديقة النصب التذكاري الموجودة عند المقابر في اتجاه مولكينكر، إلا أنني همت على وجهي لمدة طويلة دون أن أدري أين أنا، حتى انتهي بي المطاف في ناسلوخ. “ولم يكن معي مال، لذا كان عليّ أن أعود من ناسلوخ للبيت سيرًا على الأقدام”.

“كان بوسعك أن تشير لسيارة لتوصيلك”. في بعض الأحيان كانت أختي الصغرى تفعل ذلك، لكن أبويّ لم يكن يروقهما ذلك.

نخر أخي الأكبر ممتعضًا، “مولكينكر وناسلوخ في اتجاهين مختلفين تمامًا”.

حدجتني أختى الكبرى بنظرة متفحصة.

“غدًا سأعود للمدرسة”.

“إذا عليك أن تهتم بالجغرافيا، فهناك شمال، وهناك جنوب والشمس تشرق…”.

قاطعت أمي أخي، “قال الطبيب ثلاثة أسابيع أخرى”.

“لو أنه بإمكانه قطع المسافة كلها عبر المقابر إلى ناسلوخ، ثم العودة ثانية، إذن فبإمكانه الذهاب للمدرسة. ليست القوة هى ما تنقصه، بل العقل”.

منذ كنا صبية صغارا، كنتُ أنا وأخي نضرب بعضنا بعضًا باستمرار، بعد ذلك صرنا نتشاحن بالكلمات. كان يكبرني بثلاث سنوات، ويفوقني في الأمر الأول والثاني. عند حد معين توقفتُ عن مبادلته العراك، بل تركت هجماته تروح أدراج الرياح، ومنذ ذلك الحين، وهو يحصر نفسه في الشكاية ضدي.

“ماذا تعتقد؟”، التفتت أمي لأبي، فوضع سكينته وشوكته في طبقه، وعاد بظهره للوراء، ثم عقد يديه في حجره، ولم يقل شيئًا. نظر بتمعنٍ، بطريقته المعتادة عندما تحدثه أمي بخصوص الأولاد أو شئون البيت، وكالمعتاد، أخذتُ أتساءل إذا ما كان حقًا يقلب سؤال أمي في رأسه، أم أنه كان يفكر في أمر يخص عمله، ربما كان يفكر حقًا في سؤال أمي، لكنه ما إن يبدأ رأسه في العمل، فلا يسعه التفكير إلا في عمله. كان أستاذًا للفلسفة، وكان التفكير حياته، التفكير والقراءة والكتابة والتدريس.

أحيانا ما ينتابني شعور بأننا كلنا جميعًا في عائلته أشبه ما نكون بالحيوانات الأليفة بالنسبة له. الكلب الذي تصحبه معك للتريض، القطة التي تلعب معها، وتتكوّر في حجرك، وهى تموء برقة، من أجل أن تداعبها، قد تغرم بهم، بل حتى قد تحتاج إليهم إلى حد ما، إلا أن الأمر برمته -شراء الطعام، وتنظيف الصناديق، وزيارات الطبيب البيطري- لهو أمرٌ مُبالغ فيه فعلًا، فحياتك في وادٍ آخر. كنتُ أتمنى لو أننا -عائلته- كنا حياته. أحيانًا كنتُ أتمنى أيضًا لو أن أخي الشكاء، وأختى الصغيرة المتغطرسة كانا مختلفين، لكن في تلك الليلة شعرت بأنني أحبهم جميعًا فجأة، وبشكل فظيع. أختي الصغيرة، ربما ليس من السهل أن تكون الأصغر بين أربعة، لذا فهى احتاجت أن تكون متغطرسة لتحافظ على استقلاليتها. أخي الأكبر. تقاسمنا الغرفة معًا، ولا بد أن الأمر أصعب عليه مني، علاوة على ذلك، كان عليه، منذ مرضي، ترك الغرفة لي وحدي والنوم على الأريكة في غرفة المعيشة، فكيف لا يشتكي مني؟ أبي. لم يتحتم علينا نحن الأطفال أن نكون كل حياته؟ لقد كنا نكبر بسرعة، وعلى وشك أن نصبح بالغين، ونترك البيت.

شعرتُ كما لو أننا نجلس معًا للمرة الأخيرة حول المائدة المستديرة تحت نجفة القصدير ذات الشمعات الخمس، ونتناول وجبتنا الأخيرة من الصحون القديمة المنقوش على حافتها أوراق العنب الخضراء، ونتحدث مع بعضنا البعض بحميمية شديدة لآخر مرة. شعرتُ كما لو أننا نقول وداعًا. كنتُ لا أزال موجودًا، لكنني رحلتُ بالفعل. كنتُ أحنُ لأمي وأبي وأخي وأختيّ، وأشتاق للمرأة.

تطلع إليَّ أبي، “غدًا سأعود للمدرسة, ذلك ما قلته، أليس كذلك؟”

“نعم”، وهكذا لاحظ أنني من سأله، وليس أمي، وأنني لم أكن أتساءل إذا ما كان يجب عليّ الذهاب للمدرسة أم لا. 

أومأ برأسه، “فلتعد للمدرسة إذن. لو صار الأمر مُتعِبًا لك، فستعود للبقاء في البيت ثانية”.

كنتُ سعيدًا، وفي الوقت نفسه شعرتُ بأن مراسم الوداع اكتملت.

8

على مدار الأيام القليلة التالية، كانت المرأة تعمل في الوردية الصباحية، وكانت ترجع للبيت في الثانية عشرة ظهرًا، وكنتُ أقطع أخر حصة دراسية لأكون بانتظارها على الدرج خارج شقتها. كنا نتحمم، ونمارس الحب، وقبيل الواحدة والنصف كنتُ أرتدي ثيابي في عجالة، ثم أنطلق خارجًا من الباب، فالواحدة والنصف كان موعد تناول الغداء. في أيام الآحاد كان الغداء في الثانية عشرة، وكانت ورديتها الصباحية تبدأ، وتنتهي لاحقًا.

وددتُ لو تخطينا الحموم، لكنها كانت نظيفة للغاية، تتحمم كل صباح، وكنتُ أحب رائحة العطر، والعرق الطازج، ورائحة الترام، التي تحضرها معها للبيت من العمل، لكنني كنتُ أحب أيضًا جسدها المبتل المغطى بالصابون، وأحب أن أتركها تحممني بالصابون، وأحممها بالصابون، ولقد علمتني ألا أفعل ذلك بحياء، بل بإحكام وتمكن، ومع أننا كنا نمارس الحب معًا، إلا أنها كانت تتملكني كالعادة. فمها كان يستحوذ على فمي، ولسانها كان يلعب بلساني، أخبرتني أين ألمسها، وكيف، كانت تعتليني إلى أن تصل إلى الذروة، كنتُ موجودًا فقط لتنال المتعة مني ومعي. لا أقصد أنها كانت تفتقر إلى الرقة، أو أنها لم تكن تمتعني، بل كانت تفعل الأمر لمتعتها اللعوب، إلى أن تعلمت أن أتملكها أيضًا.

حدث ذلك فيما بعد، ولم أتمكن من فعله تمامًا، ولوقت طويل لم يكن يفوتني فعل ذلك. كنتُ صغيرًا، وأصل للذروة سريعًا، وحين أفيق ثانية ببطء، كنتُ أحب أن تتملكني. كنت أنظر لها، وهى فوقي، لبطنها، التي انثنت بعمق من أعلى سرتها، لثدييّها، الثدي الأيمن أكبر قليلًا من الأيسر، لوجهها وفمها المفتوح. كانت تستند بيديّها على صدري، ثم في اللحظة الأخيرة تنزعهما، وتمسك برأسها وتطلق نشيجًا مكتومًا، وخرخرة أفزعتني في أول مرة، لكنني رحت أنتظرها بشوق كبير بعد ذلك.

بعدها، كنا نسقط خائري القوى، وغالبا ما كانت تروح في النوم وهى فوقي. كنتُ أسمع صوت المناشير في باحة المنزل، والصيحات العالية للعاملين بها كي يتسنى لهم سماع بعضهم البعض، وعندما يسكت صوت المناشير، كانت ضوضاء المرور بشارع المحطة تخترق المطبخ، وعندما تتناهى لمسامعي أصوات الأطفال وهم يلعبون، كنتُ أعرف أن المدارس خرجت، وأن الساعة تجاوزت الواحدة، وأن الجار الذي كان يعود لبيته في وقت الغداء، نثر طعام الطيور على بلكونته، فجاءه الحمام، وأخذ يطلق هديلًا.

“ما اسمكِ؟”.. سألتها في اليوم السادس أو السابع.

كانت نامت فوقي واستيقظت لتوها، حتى ذلك الحين كنت أتفادى قول أي شيءٍ لها يتطلب مني مخاطبتها بصيغة رسمية أو حميمية.

حدجتني بنظرة: “ماذا؟”

“ما اسمك؟!”

“لماذا تريد أن تعرف؟”.. نظرت لي بارتياب.

“أنتِ وأنا… أعرف لقبك، لكن اسمك الأول فلا. أريد أن أعرف اسمكِ الأول. ما المشكلة في …”.

ضحكت “لا شيء، يا ولد، لا مشكلة في ذلك. اسمي هانا”، ثم واصلت الضحك، ولم تتوقف إلى أن انتقلت إليَّ عدوى الضحك.

“لقد حدجتني بنظرة غريبة”.

“كنتُ لا أزال شبه نائمة. ما اسمك أنت؟”

اعتقدت بأنها تعرف، فلم يكن من الظريف في ذلك الوقت أن تحمل الكتب المدرسية في حقيبة، بل أن تتأبطها تحت ذراعك، وعندما وضعتهم على طاولة المطبخ، كان اسمي ظاهرًا أعلى الدفاتر، وكذلك على الكتب المُجلدة بورق سميك ملصوق عليه طابع به عنوان الكتاب واسمي، لكن يبدو أنها لم تعر ذلك اهتمامًا.

“اسمي مايكل بيرج”.

“مايكل، مايكل، مايكل”، أخذت تجرب الاسم، “ولدي الصغير اسمه مايكل. إنه في كلية”.

“في المرحلة الثانوية”.

“في الثانوية، ما عمره يا ترى، سبعة عشر؟”.

كنتُ فخورًا بالعاميّن الإضافييّن، التي منحتني إياهم، فأشرتُ برأسي إيجابًا.

“إنه في السابعة عشر من عمره، وحين يكبر يود أن يصبح ……… مشهورًا”.

ترددتُ، “لا أعرف ماذا أريد أن أصبح”.

“لكنك تجتهد في مذاكرتك”.

“نوعًا ما”. أخبرتها بأنها أهم بالنسبة لي من المدرسة والدراسة، وأنني أتمنى لو أظل معها طيلة الوقت، “فعلى كل حال سيتحتم عليَّ إعادة السنة الدراسية”.

“في أي صف أنت؟”..اعتدلت في جلستها. كانت هذه أول محادثة جادة بيننا.

“في الصف العاشر. لقد فاتني الكثير في الشهور الأخيرة، في أثناء مرضي. لو أنني أريد أن أنتقل إلى الصف التالي فعليّ أن أعمل بغباء، بل يجب عليّ أن أكون في المدرسة الآن”، ثم أخبرتها بأنني كنتُ أترك الحصص الأخيرة.

“اخرج”، وأزاحتْ عنها الغطاء، “اخرج من سريري، وإن أردت ألا تقوم بواجباتك، فلا تعد ثانية. العمل بغباء؟ ها؟ إذن ماذا تعتقد بيع التذاكر وتخريمها؟”، ثم تركتْ السرير، ووقفت عارية في المطبخ، وهى تؤدي دور الكمسارية، وبيدها اليسرى فتحت الحقيبة الصغيرة المليئة برزم التذاكر، مستخدمة إبهام اليد نفسها، المغطى بقمع مطاطي، لسحب تذكرتين، وأخذت تطوّح يدها اليمنى لتمسك المثقاب المتدلي من وسطها، كي تحدث بهما ثقبين: “تذكرتان إلى رورباخ”..أسقطت المثقاب، وامتدت يدها إلى فاتورة، وفردتها على بطنها، ثم فتحت حافظة النقود، ووضعت بها الفاتورة، وأغلقت الحافظة ثانية، وراحت تضغط على الفكة من خارج كيس العملات المعدنية الملتصق بالحافظة.

“من الذي لم يقطع تذكرةً؟”، ثم نظرت إليَّ، “العمل بغباء، أنت لا تعرف ما العمل بغباء”.

جلستُ على حافة السرير. كنتُ مصدومًا، “أنا آسف، سأقوم بواجباتي. لا أدري إن كنتُ سأفلح في ذلك في غضون ستة أسابيع، فالسنة الدراسية أوشكت على الانتهاء. سأحاول، لكن لن يمكنني عمل ذلك دون رؤيتك”، “أنا ….”. أردت أنا أقول في أول الأمر أحبكِ، إلا أنني لم اُفضل ذلك، ربما كانت محقة.. إنها محقة بالطبع. لكن ليس من حقها أن تطالبني بعمل المزيد من واجباتي المدرسية، وأن تجعل من ذلك شرطًا لكي نرى بعضنا ثانيةً، “لا يمكنني أن لا أراكِ”.

دقت ساعة الصالة الواحدة والنصف “عليك أن تذهب”. ترددتْ، “من الغد سأعمل الوردية الرئيسية، وسأعود للبيت في الخامسة والنصف بوسعك أن تأتي. بشرط أن تقوم بواجباتك أولًا”.

وقفنا عرايا قبالة بعضنا، لكن لم يبدو عليها أبدًا أي ازدراء، وكأنها ترتدي زيها الرسمي. لم أستوعب الموقف. هل كانت تفكر فيَّ؟ أم في نفسها؟ لو أن أداء واجباتي المدرسية هو العمل بغباء، فإن ذلك يجعل من عملها أكثر شقاءً، أهذا ما أغضبها؟ لكنني لم أقل أن عملها هو عملٌ غبي. أم أن الأمر أنها لا تريد الفشل لحبيبها؟ لكن هل أنا حبيبها؟ وهل هى كذلك بالنسبة لي؟ ارتديت ثيابي، في تلكؤ، وتمنيت لو قالت شيئًا، لكنها لم تقل شيئًا، ثم انتهيت من ارتداء ملابسي، وكانت ماتزال تقف عارية، وعندما احتضنتها مودعًا لم تستجب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 تصدر قريبًا عن دار روافد 

 

مقالات من نفس القسم