أمير تاج السر
إلى سوسن إبراهيم دائمًا
كي أسمّي هذا النصّ الذي يقارب السيرة إلى حدٍّ ما، فكّرت كثيرًا، وتوقّفت عند أسماء كثيرة، على عكس عادتي، إذ تولد عندي الأعمال بعناوينها ونادرًا ما أفكّر في عنوان أو أغيّر آخرَ.
أخيرًا، اعتمدت تاكيكارديا (Tachycardia)، التعبير اللاتينيّ لحالة تسارع دقّات القلب، فقد كانت الأحداث متسارعة، وقلبي معها متسارع الدقّات.
***
احتمالات كثيرة،
منها أنّني كنت هناك،
ولكن برئة أخرى،
وأنفاس أخرى،
وشمس رطبة وقمر ملون،
وقوس قزح مورّد الخدّين،
وعاطفة قديمة جدًّا، وحبر كتابة بديل،
وفتاة لم تُردْ أن تكون هنا أو هناك
أو داخل أيّ احتمال.
-١-
لا أذكر بالضبط تاريخ موت شريفة مختار، تلك المرأة البيضاء، الطويلة المنسّقة إلى حدٍّ ما، التي كانت تعرج من قدمها اليمنى، وتتدلّى من أذنيها حلقات فضّيّة كبيرة، لكنّي أذكر جيّدًا أنّه كان في شهر أغسطس، ويوم وقفة عيد الفطر، بعد شهر طويل من الصيام الصعب في مدينة تطلّ على بحر خامد، ولها صيفها القاسي الذي يصعب تحمّله، الصيف الذي يجعلك تفكّر كثيرًا في أن تنزع جلدك تمامًا، تلقيه في مكان بعيد، وتجلس هكذا عاريًا إلّا من خلايا داخليّة رطبة.
وكالعادة، لا توجد كهرباء منتظمة، لا يوجد ماء منتظم، لا يوجد هواء تتلقّفه الرئات بسهولة، ولا حتّى بصعوبة، ولا يوجد أيّ مزاج لفعل أيّ شيء، أو ممارسة أيّ نشاط.
كنّا في وقت الظهيرة، وبعد انتهاء ساعات العمل واشتداد الحرّ، نلتفّ بخرق مبتلّة بالماء، ما تلبث أن تجفّ سريعًا، لنعيد غمرها في الماء ولفّها حول أنفسنا مجدّدًا. وفي ساعة الإفطار عند المغرب، لم نكن نتسابق إلى الأكل، كما هو يُفترض بالصائمين أن يفعلوا في أيّ مكان، بل كان سباقنا إلى شرب الماء حتّى التخمة، ثمّ مطالعة أصناف الطعام المرصوصة أمامنا، والتي تجتهد في إعدادها الأمّهات عادة، بكثير من الحسرة. وفي كلّ رمضان يأتي في الصيف، كنّا نسمع كلامًا بأنّ ثمّة فتوى أطلقت في مكان ما تجيز الفطر لمن يسكن الساحل. لكن، لا شيء يحدث في العادة. كان الناس يصومون، ويعملون بجدية في نهار الصيام، ولا يهتمّون بأيّ أخبار قد تكون حقيقيّة بالفعل، وقد تكون مجرّد إشاعات، وفي الغالب هي إشاعات.
كان عدد كبير من سكّان المدينة يفرّ في الصيف إلى العاصمة أو أقاليم أخرى قريبة وبعيدة، هواؤها أفضل، وربّما تهطل فيها أمطار خريفيّة. وهناك أيضًا من كان يسافر إلى مصر، ولندن، وباريس وسويسرا، واليونان، وحتّى إلى جزر ميرلاند، وهضبة الأناضول، لينفق جزءًا كبيرًا من الصيف هناك، ولا يعود حتّى تعود الحرارة إلى قراءة محتملة. أمّا نحن، فقد كنّا طوال أيّام الطفولة، وحتّى مطلع الصبا، نسافر ما إن تبدأ إجازة العام الدراسيّ إلى بلدتنا البعيدة في شمال السودان. كان والدي يسمّيها رحلة الالتصاق بالجذور، ويستمتع بها استمتاعًا كبيرًا، يعود صبيًّا، يتسلّق النخل، يقص سبيط التمر، يبرك على ركبتيه ويديه، يشرب من جدول صافٍ أو معكّر لا يهمّ، يحفر في حقل هنا، ويقطع نبات البرسيم من حقل هناك، يلفّه في حُزم، يحملها على ظهره، وربّما يستخدم في تنقّله داخل البلدة، حمارًا من الحمير المتوفّرة في البيت، أو أيّ بيت مجاور، بوصفها مواصلات الريف الأكثر انتشارًا.
نحن كنّا نسمّي تلك الرحلة رحلة التخلّف. نحاول الاندماج في معطياتها ونحن نرتدي السراويل الطويلة، والقمصان القصيرة، ونعتمر الطواقي البيضَ، والصنادل الخفيفة من المطّاط، ولا نستطيع. فلم يكن يوجد أدنى ارتباط بالمدنيّة، في قرية بلا مقوّمات للحياة المتطوّرة. ولكن، في المقابل، كان كلّ شيء فيها طبيعيًّا للغاية، من الماء الذي يأتي من النيل عبر قنوات كثيرة، أو يستخرج من آبار نظيفة إلى حدّ ما، إلى اللبن الذي يحلب مباشرة من الماعز والبقر، والمحاصيل، والخضروات التي تزرع هناك، في تربة خصبة، والأهم من ذلك لم يكن يوجد ذلك الحرّ الغريب الطارد الذي نعرفه في مدينتنا الساحليّة.
أيضًا، كانت تلك الرحلة السنويّة فرصة جيّدة للتعرف إلى شخصيّات كثيرة متباينة، وموحية، يمتلكها الريف وحده، ولا يمنح ثراءها للمدن البعيدة، مثل مغنّي الربابة الجوّالين، وصيّادي الطيور والثعالب والتماسيح، وسائقي اللواري السفريّة الذين يدخلون القرى ملوكًا أو أمراء، تهلّل لهم الوجوه، وتنسج حولهم الأساطير، وتركض خلفهم أحلام البنات، إلى كثير من الظواهر التي لا تغشى المدن، مثل ظاهرة غزو الجراد الصحراويّ التي شهدتها في مواسم كثيرة، وظاهرة السيل التي لا يمكن أن تمّحي من الذاكرة أبدًا، السيل الذي يأتي جبّارًا ومذهلًا، وأسطوريًّا، من العدم، يهشّ الدنيا كلّها أمامه، ويلقي بهياجه في النهر.
في تلك الأيّام، كنت أعمل في قسم النساء والتوليد في المستشفى الحكوميّ، مساعدًا لرئيسه، ومسؤولًا عن تلقّي الكثير من الوعكات والمخاطر ، وخامات فوران الدم.
قسم لم أختره حقيقة، ولم أحُم حوله أبدا، ولكن اختارته ظروف معينة، تلك التي تلت إضراب الأطبّاء الكبير أواخر ثمانينيّات القرن الماضي، حين تبعثرت الوظائف الطبّيّة فجأة بدخول بعض الأطبّاء إلى السجن، وانتقال بعضهم إلى مدن أخرى قريبة وبعيدة، وتشرّد آخرين في الشوارع.
وبالرغم من أنّني أمضيت أيامًا عدّة في السجن المركزيّ، بزعم أنّني كنت من المحرّضين على ذلك الإضراب، بينما لم أكن أعرف عنه شيئًا في الحقيقة، ولا سمعت به إلّا قبل يومين فقط من حدوثه، إلّا أنّني لم أُمسّ وظيفيًّا أبدا، لم أطرد، ولم أعالج الفراغ في الشارع، ولم أنفَ إلى أيّ بلد بعيد، فقط وجدت نفسي رغمًا عنّي، وحين خرجت من السجن، ملتصقًا بقسم النساء والتوليد، وليس ثمّة خلاص يلوح في الأفق.
لن أتطرّق إلى أيّام السجن تلك، فلم تكن في الحقيقة قاسية، ولا امتلأت بحرمان كبير. كنّا نأكل ونشرب وندخّن بعاديّة مطلقة، وإن كان التدخين بمعدّل ثابت لا يتجاوز السيجارات العشر في اليوم. ذلك أنّ انتهاء أيّام الحبس غير معروف عادة، والتدخين كان ضرورة قصوى لهزيمة الوقت، وقتل التفكير الذي قد يتولّد في مثل تلك الأيّام الجديدة تمامًا عليّ، وعلى كل الزملاء لكنّها ليست كذلك على آخرين وجدناهم في الداخل أو جاؤوا ووجدونا هناك. وكان بين هؤلاء شعراء وكتّاب قصّة وصحافيّون، وموظّفون في البنوك والسكّة الحديد، ومحامون وضبّاط شرطة سابقون، ورؤساء نقابات يساريّة، ومغنّون أيضًا، وبعضهم أنفق معظم حياته، متنقّلًا من سجن إلى آخر من دون أن يفقد صلادته.
أيضًا، كان ثمّة نشاط رياضيّ يوميّ، فيه ركض في ميدان فسيح إلى حدّ ما، ولعبٍ لكرة القدم والمضرب، وفي الليل كانت تنصب ناموسيّات على الأسرّة منعًا للدغات البعوض.
كانت حقيقة أيامًا يمكن اعتبارها مرفهة، وبدت لكثيرين أفضل من أيّام حرّية قد لا يجدون فيها ما يفعلون.
مع مرور الوقت، ومع التمرّس في العمل في قسم النساء، أصبحت من عشّاقه فعلًا. أحببت الطوارئ التي لا تنقطع أبدًا، أحببت السهر الطويل، وترقّب قدوم المواليد، وإيقاف النزيف، وإزالة عوائق الحمل، وطمأنة الأمّهات اللائي ينتظرن أن يرين ما كنّ يحملنه ويضعفهنّ لأشهر، وأيضًا أحببت تلك الحالات الإنسانيّة الكثيرة التي لم تكن لتمرّ علينا من دون أن نتفاعل معها، مثل أن نحاول التغطية بكلّ ما نملك من أدوات الستر على فتاة مسكينة أخطأت في لحظة ضعف، أو تعرّضت للإيذاء رغمًا عنها، وجاءت بحمل فضائحيّ، كأنّ نتبرّع نحن العاملين في القسم بالدم لمريضة تنزف، فرّ أهلها نتيجة الخوف من سحب دمائهم، وتركوها باهتة، تنتظر الموت إذا لم يتبرّع أحد، وأن نشارك بعض الباكين بكاءهم على مَن فقدوا، نذهب للعزاء، ويمكن جدًّا أن نجلس في السرادق المقامة، نتلقّى معهم العزاء مثل أيّ فرد حميم في الأسرة.
وما زلت أذكر ذلك الصباح المتوتّر، حين لملم عسكريّ شاب اسمه جبريل حنظل، ساقيه وفرّ من المكان مجرّد أن طالبناه بالتبرّع بالدم لزوجته التي كان اسمها كاكا كوكو، وكانت نزفت كثيرًا نتيجة إجهاض مبكر، وكان يمكن أن تموت في أيّ لحظة. أذكر كيف ذهبت ومعي زميلان آخران حديثا التخرّج إلى بنك الدم القريب من المستشفى، ومنحناها الكثير من دمائنا، فقد كانت فصيلة دمها لحسن الحظ من النوع الذي يستقبل كافة أنواع فصائل الدماء. حين أفاقت تلك المرأة من الغيبوبة، وأكلت وشربت، وتنفّست بلا تعب في الصدر، ولا رجّة في الدماغ، سألت ما إذا كنّا أخذنا دمًا من زوجها جبريل، وحين أجبنا بالنفي انشرحت.
كان الأمر ما، يبدو معتقَدًا سائدًا في قبيلتها، أنّ من يمنح الدم لأحد، يمرض أو يموت. لم يستطع العسكريّ الشاب أن يفسّر لنا الأمر، فآثر أن يفرّ حيًّا، ويعود بعد ثلاثة أيّام ليرى ما إذا كانت امرأته موجودة، أم فارقت الحياة. وكان عناق حار مصحوبًا بالبكاء، لأنّ لا أحد منهما مات، وستعود حياتهما إلى طبيعتها في ذلك البيت العشوائيّ البعيد الذي يقطنانه. بل أكثر من ذلك، ستحمل كاكا كما وعدت وهي تتمايل وتتّكئ على كتف زوجها القويّة الخشنة بثلاثة ذكور دفعة واحدة، يُسمّون بأسماء أولئك الأطباء الذين لحقوا حياتها قبل أن تفرّ.
في إحدى السنوات، طبّقت الحكومة إجراءات غريبة وغير مبرّرة على المرضى، مثل تحصيل الرسوم على التبرّع بالدم وعلى الخدمات الطبّيّة عمومًا، ومن ضمنها الجراحات حتّى لو كانت طارئة، فظهرت علامات الاستفهام والبؤس على وجوه كثيرين لا يستطيعون أن يدفعوا حتّى ثمن قوتهم اليوميّ، و يسكنون حياة في منتهى البؤس. لم نستطع إلغاء تلك القرارات في طبيعة الحال، ولكن حاولنا المساعدة في تخفيف الضرر بطرائق أخرى، كانت جيّدة، ونجحت في مؤازرة الناس.
كانت ثمّة منظّمات إنسانيّة تعمل على تحصين الأطفال ومكافحة السلّ والملاريا وسوء التغذية في القرى المنتشرة حول المدينة التي يسكنها في الغالب قبليّون مهمّشون، وتهب أحيانًا الدواء وخامات الجراحات من قطن وشاش، ومحاليل معقّمة، ومشارط جراحة. وكان أيضًا ثمّة أشخاص ميسورون يحبّون دعم المرضى وغير المرضى بشدة، ويمكن أن يموّلوا بعض الجراحات الطارئة، مثل عمليّات إيقاف النزيف والولادة القيصريّة. وكان المهدي، وهو تاجر سلع غذائيّة في الثمانين، يأتي أحيانًا متعبًا ولاهثًا، يراجع دفتر العمليّات الذي تحمله إحدى الممرّضات، ويدفع تكاليفها كلّها بلا استثناء. أيضًا كان شاشوق، صاحب مكتب الترحيل، يأتي، وكذا آخرون يتحدّثون عن فعل الخير، ويضعون فيه بصماتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يصدر قريبًا عن دار نوفل/هاشيت أنطون