يمثل العنوان في (فاصل للدهشة) بنية دالة قادرة عي تأدية وظيفة في السياق السردي للرواية، حيث تصبح (لام التعليل) المستخدمة إيذانا بالارهاص او الاماءة إلي عالم يحوي قدرا كبير من المغايرة والاختلاف، عالم جدير بالالتقاط والمتابعة والرصد في ظل تغيرات مجتمعية لافتة تعصف بالثابت من مواضعات، لتحمل وطأة راهنها الخاص.
يبدأ (الفخراني) روايته باستهلال بديع، ينتقل فيه بين الاجنحة المختلفة لمكانه المركزي (العشش)، راصدا لنا ما يدور بداخلها، كاشفا عن تنوعاتها المختلفة، حيث تبرز لنا كل من (عشة هلال’ وأمه ، عشة بدري، عشة فراولة):
“إيه حرام أكتر: السرقة و لا الجوع؟؟
يزعق بها هلال لأمه، يرمي في حجرها فلوسه من بيع المخدرات، ترميها للأرض، يشق قميصه عن صدره و بطنه، يسحب “الخنصر” من جيب الجينز الخلفي يجرح به ظهر ذراعه، يضرب صفيح العشة بقدميه، يسب دين أم المخبر الذي سجن أبيه.. يحلف: عليا الحرام.. هآكل و أشرب و أسكر و أكسب فلوس غصباً عن الحكومة و الدنيا بحالها..
(عشٌة هلال و أمه)
أنا عليا الدم.. سيبني الليلة..
يدفعها للسرير، ينزع “كيلوتها”.. المنقط بالدم، ينتصب بين فخذيها، يفتحهما، تلكمه في جنبه لكمات يائسة: أنا عليا الدم يا بهيمة..
يمسك عضوه المتشنج، يقحمه فيها بخبطات متسارعة لاهثاً بإسم واحدة من الممثلات المثيرات اللاتي يلصق صورهن بمواجهته على صفيح العشة، يتخيل أن يضاجعهن بدلاً من إمرأته.. موجوعة تسحب طرف الملائة المهترئة تغطي مؤخرته و فخذيها عن إثنين من عيالهما قاعدين في ركن العشة يرقبان المشهد بكثير من العادية..
(عشٌة بدري)”
ولعلنا نلحظ أن هذه البداية لاتحمل ترقيماً مثل بقية الفصول التالية داخل الرواية، حيث يبدأ (الترقيم) بعدها، ومن فهي ثم تمثل ¬ في رأيي ¬ ما يسمي بالتقديمة الدرامية للنص Exposition ، فهي تحوي عرضا للشخوص، وتوصيفا للمكان، وبما يفضي الي الكتابة عن واقع هؤلاء (المنسحقين)، إن السرد يتدفق هنا ببراعة، وتبدو لغة الحكي حاملة لانحيازاتها الدلالية والجمالية الخاصة، والمغايرة عن السائد والمطروق، وهذا مامنحها خصوصية مائزة تستمد وهجها من قدرتها علي الاجتراح والمغامرة.
ثمة توظيف دال التقنية (التقطيع) السينمائي، تبدو بارزة في استهلال (الفخراني)، وبشكل يشي بانفتاح النص الروائي علي تلك الفنون الأدائية البصرية (السينما/ المسرح) بيد أن الانفتاح يتم بوعي كتابي يتضافر فيه (القرائي) مع (البصري) بشكل دال، وهذا ما يحسب للكاتب في روايته.
ثمة شخوص متعددون، يراوح بينهم السارد الرئيسي Main Narrator في حكية عنهم (بدري / هلال/ فراولة/ عوض/ نعيمة روبابيكيا/ سماح) وقد مثلت هذ المراوحات مراوغة تقنية منعت تسرب الملل إلي المتلقي من زاوية، وأسهمت في منح السارد الرئيسي حرية الحراك السردي’ بين شحصيات متعددة داخل الرواية من زاوية أخرى.
تحتشد الرواية بالتفاصيل، ولذا فان اسلوب (العناوين الداخلية الفرعية) كان أنسب لطبيعتها ذات الزخم الخاص، وهذا ما يبدو بارزا في الفصل الثاني مثلا، حيث توجد به عدة عناوين داخلية (ربما تكون اشارة، حادثتان ، هلال/ فراولة /عوض).
يحوي النص قدرا من الأبعاد الفلسفية ذات المغزي، ممثلة ما يسمي بالميتانص)، فالجنس مثلا يتم التعامل معه من قبل السارد الرئيسي باعتباره متنفساً عن القهر الداخلي الذي يعانيه شخوص الرواية المعذبون، ولذا فهو يمارس بشرة وشراسة كبيرين من جراء حالة الانسحاق التي يعانيها اولئك المهمشون.
يبدو الفصل الثالث في رواية (فاصل للدهشة) مسكونا بالتقنية، حيث ثمة سارد رئيسي MainNarrator يتوجه بالخطاب بالسردي إما الي متلقي متخيل (افتراضي) أو المتلقي كما نعهده في ادبيات نظرية الاتصال، او إننا بإزاء خطاب سردي محمول الي (المروي عنه/ حسين)، ولعل النص مفتوح علي مثل هذه التأويلات الثلاثة رغم انه قد يوهمك للوهلة الاولي بانغلاقه، حيث تصبح (فاصل للدهشة) نصا موصولا بافق أبعد مدي من حياة المهمشين:
“بعد خروجك مباشرة من الباب الرئيسي لـ”محطة مصر” يقابلك مدخل محطة مترو، و كشك زجاجي كبير نسبياً يبيع مكالمات التليفون، البسكويت، السجائر، مقرمشات الذرة و البطاطس، الشيكولاتة و “الحاجة الساقعة” للطلبة و المسافرين: لن تتكلم في تليفون الكشك لأنه يسرقك في الدقائق.. لا تعرف كيف يفعل ذلك.. لن تشتري البسكويت و المقرمشات لأنها لا تشبعك، و لأن الكشك يبيع الكثير من بضاعته بزيادة ربع جنيه عن سعرها الأصلي: لا تعرف لماذا.. لأنه في مدخل المحطة؟ طظ!!”
وفي (الفصل الثالث) ننتقل من (العشش) إلي فضاء اكثر اتساعا (ميدان رمسيس/ نصبة أم حنان/ الشرنوبي /شرائط السكس/ المجندون الحائرون)، حيث ثمة عالم قائم ومستقل بذاته، لكنه يبقي موصولا بأفق (الهامشي) بعيد المدي.
يوظف الكاتب آليات التشيكل الكتابي علي الصفحة توظيفا معبرا، مستخدما علامات الترقيم، والعناوين الفرعية، وحجم البنط الكتابي بشكل بالغ الدلالة.. ثمة اشارة لزمنية السرد في هذا الفصل ‘رمسيس’.. الآن ليس لديك فرصة مع ‘أم حنان’ واصدقائك بعدما نقلوك من ميدان ‘باب الحديد/ رمسيس’ للمتحف المصري الكبير بمنطقة الهرم.. وهذه الاشارة لم تكن اشارة مجانية، بل كانت تعبيرا عن سياق مجتمعي (مأزوم) يعيش تخبطه الخاص، ومن ثم تصير لحكايات الهامش المدهشة مشروعية الحضور في هذا السياق المجتمعي الآسن.
يجعل الكاتب من (فراولة) مسروداً عنه مركزيا ‘في فصله (الرابع)/ بعد ان يبدأ هذا الفصل باستهلال لافت، يبدو عبره جسد المرأة شبيها اما بالتفاح و إما بالكمثري، ولذا فقد كانت اشارة ‘ذكية/ بلاغية’ من قبل (الفخراني) ان ينتقل للحكي عن (فراولة) ذات الجسد الفائر والاسم المشابه:
“تقول المرأة القديمة..
المرأة الكمثرى أكثر أنوثة و خصوبة من المرأة التفاحة..
“فراولة” كانت “كمثرى” مثالية لكنها لم تنضج ما يكفي لتشتغل راقصة بأحد القوارب العائمة في النيل المخصصة لفسحة العامة و الأحبة الفقراء..”
يأخذ السرد في الفصل الخامس منحي جديدا، يبدأ عبره السارد الرئيسي في تقديم شخوصه الآخرين (سماح/ فؤاد) وهما شخصيتان مغايرتان علي مستويي (الوعي/ الطبقة) عن الشخوص المنسحقين الآخرين داخل الرواية. يقدم الكاتب شخصيته المركزية (سماح) تقديما ضافيا، يبدو فيه معنيا برسم أبعادها المختلفة رسما دقيقا، وفق محددات مايسمي بقوي الشخصية الثلاث الفسيولوجية السسيولوجية/ السيكولوجية، فسماح شخصية ثورية لها منظومتها القيمية الخاصة، وانحيازاتها والانسانية الواضحة، وأظن أن الرسم التفصيلي لهذه الشخصية لا يعود إلي كونها الشخصية المركزية في الرواية فحسب، بل لكونها المنوط بها تثوير الواقع او تغييره.
في الرواية ولع بالتقنية، وادهاش في استخدام العناوين الداخلية، وهذا ما يبدو في العنوان الداخلي اللافت (خاص للرواية من أم سماح).
يتسم السارد الرئيس Main Narrator في رواية (فاصل للدهشة) بكونه سارداً غير محايد، إنه سارد عليم ببواطن الأمور، يحيط بكل شيء قدراً في النص، وهذا ما يبدو بارزا في مواضع عدة داخل النص، حيث يعلق علي الحدث السردي أو يضيف إليه كما في صفحة 97 علي سبيل المثال .وتبدو المقاطع الخاصة بشخصية (حسين) حاملة لتنوع سردي دال داخل الرواية، حيث يصير (حسين) مسرودا عنه/ ومسرودا له، في الآن نفسه، ولعل (حسين) شخصية تتسم ببعض الاختلاف في سياق (المهمشين)، فهو يملك ابعادا انسانية ضافية، منحها له محيطة الحميمي الموصول بأخته أمينة ‘أمينة كحليب الامهات’ وهو ¬ كشخصية روائية ¬ يبدو حاملا لهذا التواشج بين (الحياد) و (التورط)، مقارنة بالشخصيات المهمشة الاخري داخل الرواية.
وتتوازي الصورة المشهدية مع الصورة السردية في المقطع الدال الذي يضرب فيه ¬ أحد المهمشين (بدري) ¬ الصحفية الثورية(سماح)، لتبدو (المفارقة الدرامية) عنصرا أصيلا في هذه الرواية.
واذا كانت اللغة في هذه الرواية هي ذاتها لغة الواقع المعيش الذي يحياه شخوص النص، فإنها لاتكتفي بأن تعكس تشوهات هذا الواقع او تعبر عنه تعبيرا دالا، بل انها لغة لها منطقها الجمالي الخاص، الذي يغاير في طبيعته وآليات استخدامه عرامة اللغة الكلاسية.. في (فاصل للدهشة) تبدو بعض ملامح (الكتابة الجديدة) بارزة الي حد كبير، سواء عبر انفتاح الرواية علي فني (السينما) و(المسرح).. كما أشرت، أو في استخدام لغة ذات طبيعة خاصة، لا يتم التعامل معها باعتبارها غاية في حد ذاتها، بل ينظر لها باعتبارها (وسيلة) في المقام الأول، هنا لم يكن (الهامش) كلاً مصمتا ، بل كان حاويا لتنوعات مختلفة، تعبر جميعها عن أفق كتابي بالغ الجسارة، وبالغ الوهج أيضًا.