شجرة اللبخ .. نموذج فريد للحكي

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ولاء الشامي

الزمان : ما قبل ثورة 52

المكان : درب السوالمة وفيه مدار هذه القصة أو الملحمة الشعبية إن جاز وصفها: (قد يكون درب السوالمة مسرحا لصراع دار بين الحب والتسامح والجشع والأنانية والولع بالسلطة أو قد يكون أي شيء آخر عدا أنه سيظل مثيرا للدهشة أن تطلق صفة "جنة" على مكان تندم فيه بعد عشر دقائق من وصولك إليه لكونك لم تحضر معك كمامة طبية) .

تبدأ القصة بنعش طائر وتنتهي بولي يأبى الله إلا أن يفضحه ربما بدعوة زوجته "تعيش مفضوح وتموت مفضوح  يا رضوان"، لتنتهي كذبة قبل أن تكتمل، تحت شجرة اللبخ دُفن من تأذى في حياته كل من اقترب منه، غزوة نحل وثعبان ومصرف يحفر بجوار قبره، كلها أشياء تعلن وبصراحة عن رفض الأرض نتن هذا الجسد الملقى في جوفها رغما عنها، فتعلن فساد رائحة البيه، وما بين ذلك معاناة المهمشين بين وطأة الاحتلال من ناحية وتواطؤ بعض أبناء البلد معه خدمةً لمصالحهم المتدنية من ناحية أخرى .

 لطالما كانت "القرية" قماشة وافرة لنسج حكاية تموج بالصراعات والأحداث والشخصات الغنية شريطة أن تجد براعة السرد خادمة لها، وأن تجد ذلك "الحكواتي" الذي لا يُمل من حديثه فحتى أقل التفاصيل أهمية يجدها السامع مدهشة، وهنا برعت الكاتبة في أن ترسم عالماً متكاملاً من شخصياتها وأجادت الربط بينهم بخيط سميك، ترتبط مصائرهم شاؤوا أم أبوا، مستغلة قدرتها الهائلة على السرد وعلى التحكم في تداخل الأحداث بين الشخصيات الذي لم يفلت زمامه منها للحظة واحدة، تتقاطع الشخصيات فيكملون بعض؛ لأن كلاً منهم يحمل في جعبته طرفا من الحكاية ورغم أنها تحكي الحكاية من وجهة نظره إلا أن النجاح في لملمتها سيجعلك ترى الصورة جلية واضحة .

لكل شخصية منطقها الخاص الذي يبرئ ساحتها ويجرِّم الآخرين كذلك فرصتها الكاملة لتعبر عن نفسها فتجعلك بمنتهى البساطة متعاطفًا معها هي، وتقول " هي الناس كده ما بتسبش حد ف حاله دايما بيجرحوا ف بعض"، عندما تتيقن بأن شخصًا ما سيء ولا يستحق منك لا شفقة ولا رحمة في حكمك عليه ستجد هذه الشخصية في فصل آخر عندما يتحدث عن نفسه أنه ليس مخطئًا ببساطة هو إنسان وله دوافعه ..

رغم هذا تصيبك الرواية بحيرة من لا يعرف مع من يتعاطف وعلى من يصب لعناته، حسمتُ أمري وصببتها على "الولي المفضوح في مماته "  رضوان البليسي " البيه " الذي يتحكم في مصائر الفلاحين وأرواحهم أو هكذا يظن - ربما لو أتيحت له الفرصة ليعبر عن ذاته لكنت تعاطفت معه -

ما بين صافيناز وسعاد - اللتان اعتبرتا رضوان "رجل حياتهما" - اختلاف عميق يبدأ من الاسم ما بين فلاحي مصر ومحتليها، صافيناز المتعجرفة التي يخذلها رحمها فتطلب هي من "رضوان" أن يتزوج لينجب الولد، فتدخل سعاد "ست البنات" السراية، عندما تحكي مأساتها في حبها الذي لا يقبل المشاركة أو المساومة لرجل يختزلها في رحم سينتج ولداً ينتظره بلهف لا تفكر في سواها، تتعود طعم الدم من شفاه تعضها فيذيقها مرارة الخذلان غيرة على رجلها وغضباً من إهماله لها، ثم تأخذ صافيناز دورها في الحكي فتتعجب كيف لم تفكر في ألم زوجة أرغمت أن تقتسم زوجها الذي دعمته وأعلت من شأنه وبررت له أخطاءه قسمة شرعية مع غريمة تراها "عيلة فلاحة" تتعاطف معها في حبها لابنها "فارس" ومحاولاتها اليائسة لانتزاعه من أمه!

لعبة الحب هنا لم تترك أحدا آمناً مطمئنا، فهذا "فارس" يتعذب بين حب جميلة وبين سطوة أبيه، وهذه جميلة تلعن حباً قد يحمل تجبر "البيه" إن توج بالزواج يوما، فارس الذي أحب عيبها تخشى تقلباته وتخشي اليوم الذي سيتخلي فيه عنها، يتزوج بغيرها ثم يعود إليها فيجدها تفكر بغيره "نزلت بحر الصبابة بحسب إنه عوم .. عشقت وغرفت قال تستاهل يا قليل العوم .. عشق النسا مسخرة اليوم وبعد اليوم " لا يعرف أنه يقهرها مرة بعد مرة بزيجتيه!

وهذا " ابن مبارز" الذي يغرس بذور الكراهية ويحرص علي ريها فتنيت في قلبه حبا خالصاً " لليلى" التي  أحبته حباً نورانياً حافظت عليه رغم القهر الذي عايشته سنوات بسبب هروب "همام" دون وداع، لم تدرك أن همام هرب لأنه لم يحبها بقدر ما أحبته.

حتى الخادمة "شفاعة" التي تحب منصور"العربجي" بكل جوارحها "حسسني إني هانم"  لا تستطيع التخلص من سطوة "رضوان بيه" الذي عرض عليها  فداناً مقابل ألا تتزوج "منصور" وتحاول أن توفق بين حبها وبين أمان "الطين"، ثم يختفي منصور فجأة بلا سبب فتلعنه شفاعة "تلاقيه لاف على واحدة تانية " يوجعها هذا الموال "عاشق يقول للحمام اديني جناحك يوم أطير بيه في الجو وأروح للي أحبه يوم أخد وداد عام وأرجع يا حمامي في يوم" فتصرخ " وفين هو الراجل اللي يستحق؟"، لكن "الغائب حجته معه"  كما تخبرها زينة فمنصور لم يتركها بل سُجن في أثناء انتظاره لها ثم مات في ظلمات السجن وظلمه .

استلهام التراث الشعبي يميز هذه الرواية ويؤكد على خصوصية القرية المصرية ، خلال فرقة العميان الثورية التي انطلقت بشارع محمد علي، فيغرد الكردي " يا عزيز عيني وأنا نفسي أروح بلدي .. بلدي يا بلدي العسكر خدوا ولدي " أو رائعة درويش " تلوم عليا ازاي يا سيدنا وخير بلدنا ماهوش بايدنا " أو هذ الموال

" الأولة آه .. والثانية آه .. والثالثة آه

الأولة بالبنادق سكتوا الثوار

والتانية جا اللورد ملنز يربط الأسعار

والتالتة تصريح في فبراير وأصله هزار "

يقوله الأراجوز فيذكرنا بما نعايشه من أحداث معاصرة وإن اختلفت المسميات فالظلم واحد، وكثير الآن من هم علي شاكلة رضوان البلبيسي الذي جلد الفلاحين المشاركين بالمظاهرات ضد الإنجليز والمطالبين بالاستقلال، ولكنه ما إن وجد مكاسبه تتحقق بإلصاق صفات الوطنية عليه، حتى ترك الصحف تتداول اسمه بين مؤيدي الثورة فقط ليجد طريقه للشهرة في الوقت الذي يحكم قبضته على عناصر الاحتجاج كي لا تتحرك بشكل يغضب عليه سادته من الإنجليز،

نهاية  الرواية جمعت الأبطال كلهم فكأنه مسرح امتزج فيه العبث بالجد ، صدمة مدكور في ليلى التي تزوجت الأرجوز ثم صدمته الأكبر في حبها "لابن مبارز" اللص الحقير من وجهة نظره وتلويعها له هو، وفارس الذي للعجب يقتل قاتل ابن مبارز الذي طارده طوال حياته قاتلا او مقتولا، وابن مبارز الذي يفدي متولي بروحه، في فارس ومتولي وهمام ثالوث غير مكتمل لصداقة لم تأخذ فرصة صافية لتنمو .

تشبه هذه الرواية إلى حد ما رواية "أفراح القبة" لنجيب محفوظ التي رسم فيها أربع شخصيات تحكي كل شخصية نفس الأحداث لكن من وجهة نظر خاصة.

اللغة مهمة جدا ونحن بصدد رواية متعددة الشخصيات والأحداث وفي هذه الرواية تنساب اللغة الوافرة برشاقة ما بين السرد بالفصحى والحوار بالعامية لولا براعة السرد لربما تفككت هذه الرواية .

عزيزي القارئ الباحث عن كل ما هو جميل .. لا تفوتك هذه الرواية الناعمة كموال

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم