غرفة الوقت

فن تشكيلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أسماء علاء

الوقت. إنه يزول ويبتعد. أحيانًا يتساقط كأوراق الخريف وأحيانًا يكون صلبًا في وجه الشمس لا ينكسر ولا ينعدم. أيامًا بدا كالجبال أمامي غير قابل للعبور وحاجب لكل الدنيا من ورائه. أيام أخرى كان كالهواء ينسل من حولك، يجردك من ماهيتك شيئًا فشيء ثم يختفي دون أن تكون قادراً علي تقفي أثره. في غرفة الوقت يحدث شيء من ثلاثة إما أن تعدو أمام الوقت أو يعبر من أمامك دون أن تأتِي على شيء أو تفقد الإحساس به.

لقد قطعت الصلات مع المد. كل المنازل على الشاطئ تهاوت وراء الرياح كأنها تكسر صورة البيوت ووجوه سكان النوافذ. في الطريق تكون السماء مكفهرة والغيوم مجرد أغراض تساقطت من حقائب مجهولة وتبقى الحقيقة ألا شيء يمحو السماء. أقف الآن تحت الشمس، تختلجني أوجاع قديمة ويثقب نور الشمس عيني فيكسر الأمل من جديد. ليس ما يخنقنا هو الآلام، إن كنا لم نفهم لمَ تألمنا فحسبنا للأوجاع على طول الطريق. أقصد تلك اللحظات التي نعجز فيها عن فهم ما يختلجنا من أوهام أو السقوط المفاجئ لكل الصور التي ظللنا بها الدنيا من حولنا كي تبدو أكثر جمالًا. إن انعدام الفهم هنا هو المأساة الحقيقية. تخلَّف الشاطئ وتخلَّف الناس لقد اخترتُ أن أبقى بعيدة، اخترت أن أتلو الصعاب علي آذان من أُحب، أرفض أيديهم الممدودة بأشياء لم أُردها والشيء الوحيد الذي سمعته وظل في رأسي هو أنني يمكنني معرفة ما لا أريد حتي لو كنت أجهل ما أريد.

الرفض هو شيء يعاقب الانسان به نفسه، يتلف الغيوم المعتادة ويركض في طرقات لم تُرصف ويرنو إلى سماءٍ لا ينظر إليها أحد. يمكن أن يكون الرفض هو الضريبة التي اختار المرء أن يدفع ثمنها مدى الحياة كي ينظر إلى المرآة فيجد ما يعرفه. كل الدروب كانت في روحي لكنها تغيرت وتبدلت على نحو أجهله. حين يختار المرء الطريق يظن أن نفسه تعلم كل شيء، لكن الأحداث تقع والدروب تخوننا والوقت يترصد للجفون الحزينة، الجفون التي تريد أن تخفي اليوم لأنه فسد وتركل الشمس كي تنتهي الساعة. الظنون تتبعها الآلام ثم الوحدة ثم الفتور وربما ينهض الصباح فنقوم لنسبق النهار إلي حيث نؤمن بأنفسنا، إلي حيث لا يسحقنا الوقت. في غرفة الوقت تبدو كل المخارج مغلقة، يبدو النور كأنه أُزهق قبل أن يطلع الفجر قبل أن يتشتت المساء. تدور الأفكار ثم تصل إلى الحافة التي نؤمن فيها أننا لم نفكر، هل حقًا لم نفعل؟ أم أن السخط على النفس جبار إلي هذا الحد لا تحدوه قمم الجبال ولا تطل عليه البحار؟

إن تقليم كل شيء ليصبح الأعظم على الإطلاق لهو الفخ الذي نقع فيه كل يوم متناسين غرفة الوقت، متناسين أن الهواء يتسرب والأيام تتقدم وكل ساعة فارقت الدنيا نفارق معها الحياة شيء فشيء. ربما كانت المأساة في غرفة الوقت هو أن الوقت يعبر دون أن نقيم حاجب عن كل الأهوال التي تستقطبنا. إن مصارعة الوقت هي أكبر معاركي الخاسرة. في غرفة الوقت تظن أن الوقت لديك، أحيانًا أخرى تصحو من ذاك الوهم على حقيقة أن ما لديك من وقت قد فني. في أوقات ما أتطلع إلى نفسي وأرد لها جزء من الاعتراف بأنها قد استغلت الوقت وأنجزت أشياء لكن أسأل نفسي هل سأكون راضية علي أي حال فعلت هذا أو ذاك؟ هل ينظر الإنسان إلى الماضي دون أن يتفجع في روحه ويثقل الوقت على نفسه حتى ينقضي الوقت نفسه هباء؟

في غرفة الوقت يضيع الوقت ونحن ما زلنا نتعلم كيف نومئ إلى من أنجبونا. في صقيعه ستكون بلادي في الشمس وفي نوره سأكون أنا بالظل. ما يربطنا ليس شيء خلفته الطبيعة ووقفت تشاهده من بعيد، ما بيننا قد كبرتُ لأفهم أن الحضارة والتقليد يصنعان هويته. ورغم أنني أسمو فوق تلك الحضارة وذاك التقليد إلا أن روابط الدم وإن أُعيد فهمها فلن تكسر مشاعر قديمة ومسؤوليات قد نمت معك وأنت تحبو لحين تشب رجلًا أو فتاة ملتصقين أو مغادرين فإن الروح لن تبرأ من وجودهم علي الجدار جزء من الماضي والحاضر وكل المستقبل القادم.

الوقت يسرق كل شيء، كل النظرات التي حلت بالأمس، كل الديار التي عرجنا عليها، كل الذين أحاطونا الساعة وفي ساعة أخرى سيختفي كل شيء. أحيانًا أمهل الوقت نفسي، تلك الأحيان ربما تكون ثوان فانية لأني لا أذكر أني قد استسلمت لشيء لا أرضي عنه. لكن الوقت يمهلنا، والحقيقة أن هناك وقت لكننا نمضيه في النمو، في الغضب أو السخط. قد نتعلم لكن بعد مرور الوقت. أما أشد الأوقات فهي أوقات الهروب من حالة لا يمكن الهروب منها كأين ولدت أو كيف أتيت لتعيش، حينها يصبح الوقت معبر للهروب أو سجن ذا نافذة مفتوحة لا تطالها قامتك.

في الحقيقة، الوقت يبدو لنا لا محدود ولا مرئي لكنه محدود جدًا بين جدران أربع، وهو يتماهى بين كونه مجرد غرفة ضيقة تسحقنا وبين كونه ساحة لا نهائية من الفراغ الذي يحمل حزنًا وفرحًا وأشياءً رمادية كثيرة بينهما.

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار