فصل من كتاب المدن.. آرل الحلم الروماني

مؤسسة فنسنت فان جوخ
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد النجار

الآن تعود آرل إلى الذاكرة في شفق مساءات ذلك الخريف البعيد من شهر أكتوبر سنة 1980عندما وصلت إليها أوّل مرّة، تعود بغيومها المتقطّعة وبألوان سمائها البنفسجيّة والزّرقاء الرّماديّة من خلل الأشجار العملاقة الدّاكنة التي تتبدّى من وراء زجاج نوافذ قاعة المعهد الكبرى، القاعة التي تحتوي المكتبة. المترجمون ينكفئون على مكاتبهم في صمتهم المقدّس، وقد أشعلوا أضواء أبجوراتهم مشكلة دوائر صغيرة من الضوء، جزرا من الضوء وسط الظلمة التي بدأت تغزو القاعة الشاسعة التي يضفي عليها السقف العالي مهابة الكاتدرائيات. وكأنّ تلك الأباجورات شموع مشتعلة داخل معبد آسيوي؛ تزيدها أقفية وظهور الرجال المنكبين على مكاتبهم بلا حركة، ودكنةُ المساء الهابط، والجدران الحجرية القديمة السميكة، والهامات السوداء الكبيرة للأشجار في الخارج تزيدها رهبة كرهبة المعابد. وفي الحقيقة، فإنّ لهذا المكان سمت الدّير، ففيه يقيم المترجمون مثل رهبان القرون الوسطى كامل الوقت فلا يخرجون سوى ساعات قليلة للتسوق وقضاء حاجياتهم.

 

أجل تعود آرل… تعود بملمحها اللاتيني الإيطاليّ الإسبانيّ. بأزقّتها الضيّقة المتعرّجة المظلمة كما هي حواري مدن عصر النهضة الإيطالي. تعود بأبوابها البنية والبنفسجيّة والصّفراء والزّرقاء السّماويّة والبرتقاليّة والفيروزيّة، والقمريّة، أبوابها نصف الموصدة ونوافذها التي تفتح بريبة على العابرين. نوافذ بمربعات زجاجها الذي تغطيه الدّانتيلاّ البيضاء وحديدها المشبك، وزهور الجهنّميّة والدفلى تغطي الجدران القديمة؛ وأنت تمرّ لا تتمالك من رؤية الأرليزيّين أحفاد الرّومان عائلات متجمعة في صالوناتهم كتماثيل الشمع هكذا يبدون متحفّظين بيد أنّهم على علم بكل الدقائق التي تقع في حياة مدينتهم.

آرل، بيوت صغيرة ذات عمارة بروفنساليّة هي مزيج من تأثيرات إيطاليّة وإسبانيّة ويونانيّة شعبيّة، كنائس تعود إلى عصور المسيحية الأولى، نحوت على الحجر، تماثيل ونصب القدّيسين الصغيرة على مداخل البيوت، وفي زوايا دروب وأزقّة أحيائها القديمة الضيّقة، وعلى أسوار المدينة التي مازالت قائمة في بعض المواضع.

آرل حجارة رملية بيضاء ضاربة إلى الأصفر، حجارة رماديّة داكنة، حجارة سوداء رومانية يضجّ صمتها بصخب القرون. حجارة المسرح الروماني الضخمة هناك تحت أشجار الدّلب، تحت أشجار الأوكالبتوس في أعالي المدينة، حيث ظل يجول روح فان خوخ المعذب؛حجارة حمّامات قسطنطين، خرائب المسرح الذي بناه الإمبراطور الرّوماني أغسطس في القرن الأوّل بعد الميلاد، وقربها الكوليزي الذي ما يزال قائما يستقبل الحشود. هناك حيث كنت تذهب في الص

ّباحات لتجلس تقرا في الحديقة ساعات الضّحى، أو باللّيل إذ تغادر دير الترجمة وتجول في تلك الحديقة المظلمة حيث يجلس أولئك الشيوخ من المهاجرين الجزائريين والمغاربة الذين اختاروا البقاء هنا لسهولة معالجة مشاكل الشيخوخة والمرض حالمين بقراهم البعيدة في الجنوب. في الأغواط، وباتنة، وجرجرة، والرّيف المغربي، والأرياف التونسيّة، وفي السّوس…

آرل حجارة ضخمة، حجارة، حجارة هي الملمح الأساس للمدن الرّومانيّة، وأنا لا أعرف حضارة احتفت بالرخام وقدّت النحت مثلما احتفى به وقدّه الرومان.

نصب فريدريك ميسترال شاعر المدينة في ساحة الفوروم، فريدريك ميسترال بقبعته المائلة وشواربه الشبيهة شوارب غي دي موباسان، قيافة شاعر من أواخر القرن التاسع عشر بالتمام والكمال. أي مشاعر كانت تنتابه وهو يجلس، أو يمرّ في أيّ ساعة بالليل أو بالنّهار من أمام التمثال الذي شيّد في حياته، أيّ إحساس مريع لابدّ أنّه عاشه أن تمرّ بجانب نسخة منك تدري أن النحات وضع فيها شيئا منه.

تمثال لآلهة الفن تتوسط حديقة المسرح، تماثيل لغلمان، أنصاب تمثل كلّ الميثولوجيا الرومانية، أوثان لآلهة مندثرة بأسرارها في طوايا الماضي، حجارة صلبة تضجّ بأسرار عصور الإنسان الوثنية، عندما كان الإنسان ما يزال يعيش في دخيلته وحدة السّماء والأرض، عندما كانت للحجارة روح. للأرض روح تطلق موجات لامرئيّة ترسلها لأعماق الإنسان لوعيه اللّيليّ الكونيّ عبر الوحدة المغلقة للحياة، إنّها ذكرى خافتة لتلك العصور الشامانيّة السّحيقة، ذكرى بعيدة لتلك الجذور الغامضة التي تشدّ الإنسان إلى أعماق الأرض والتي تعود إلى ملايين السّنين؛ لذا تجد ذاك الهوس الديني بالحجر والأصنام والتماثيل والأنصاب لدى الإنسان في جميع الحضارات والثقافات وعبر جميع أصقاع الأرض: من مرتفعات الأحجار في السّويد وأيسلندا، إلى تماثيل المحاربين المكسيكية، إلى ميناهير ودولمن بريطانيا واليمن، إلى تماثيل المواي في جزيرة عيد الفصح تلك التماثيل العملاقة الصّامدة منذ قرون في رياح المحيط وليله. نصب قائمة منذ ليل التاريخ السحيق حتى عصور بابل ومصر القديمة والإغريق والرومان. إلى الحجر الأسود، وحجارة التطهير، أو حجارة التيمّم الإسلاميّة لعل الكلمة لغة للفظة التيمّن، فالنون والميم حرف واحد لدى اللّغويّين العرب القدامى.

لأجل كلّ هذا الثراء الماثل أمامك، أنت لست في حاجة إلى الذّهاب إلى متحف آرل الذي يقع وسط الحرج خارج المدينة، غير بعيد عن ضفّة نهر الرّون، تحرسه الزّيزان وعصافير الرّون؛ ليس بعيدا عن شارع سافوريان في حيّ لاروكيت حيث تقيم أمام الرون، وتستيقظ في الفجر وتفتح النّافذة لترى سيلان النّهر الأبدي حاملا سفن مجانين أوروبّا العصر الوسيط، حاملا سفينة هولدرلين في ظلال الفجر الرّماديّة تحفها عرائس الشعر ومراكب صيادي نهر الرّون التي حافظت على شكل المراكب الرومانية الأولى؛ بقيت هذه المراكب الرومانية فقط، في جنوب المتوسط، في جزر قرقنة التونسية هكذا حدثني فيليب ريغو وهي التي تسمى اللود في قرقنة ولكن اختفى اليوم بناة هذه السفن… لا، لم يعد هناك صيّادون في آرل. ماتت الأسماك بتلوث الأنهار؛ ظلت فقط بقايا البوابة الحجرية التي نقشوا فوقها اسم نقابة الصيادين

 الرّون الأزرق الذي يفصل المدينة إلى قسمين: آرل القديمة وحي تانك تاي اللذين يربط بينهما جسر حجري قديم كانت قد ضربته الطائرات الأميركية إبّان الحرب العالمية الثانية ولم يبق منه سوى البوابة العملاقة يعلوها تمثالان لأسدين ضخمين، ودعائمه وسط المياه. كانت هناك أيضا سكة حديد للقطارات تمرّ من فوق هذا الجسر؛ واليوم هناك جسر جديد يؤمن تواصل شطري المدينة. أجل لست في حاجة إلى الذّهاب إلى المتحف فالمدينة كلها عبارة عن متحف كبير، هي سجلّ حجريّ، مدوّنة حجريّة ماثلة أمامك تحوي عمارة كلّ عصور آرل وحقبها التّاريخيّة، من أيّام الرّومان حتّى يومنا الحاضر، آرل بكنائسها وأديرتها وقصورها. كلّ شيء مازال محفوظا: من حمّامات قسطنطين، إلى قصور فرسان مالطة، إلى آخر البيوت والدّارات العصريّة التي تعود إلى ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين.

***

وصلت أوّل مرّة بالقطار القادم من مرسيليا، كان الفصل أوّل الخريف، أذكر جيّدا رداء الشمس البرتقالي الذي كان يغطّي الحقول الفرنسيّة، وتلك القلاع التي تتراءى من بعيد على قمم الجبال البعيدة، وطيور الجنوب السوداء تلفّ في فضاء الحقول وعلى خطوط الكهرباء، والمحطّات الفرنسيّة الكئيبة ذات عمارة القرن التاسع عشر كتلك التي تلقاها في شمال تونس وبيوت القرميد المنتشرة في الرّيف البروفانسالي، والأفق الأزرق هناك في البعيد حيث بعض السّحب الخريفيّة الداكنة والواطئة، تلك السحب اللاتينية سحب أوروبا. مشاهد ريفية تبعث على التّأمّل., تبعث فيك شيئا من حزن لامرتين الرّومانسي، وكآبته الجميلة. هذا هو الصّمت اللاّتيني الأزرق الذي جذب إليه، ومنذ عصور المسيحيّة الأولى آباء الكنيسة للعزلة والتأمّل والعمل في الأرض، وبين الرّعيّة. متصوّفة الغرب أولئك الرجال المسجيين اليوم مثل الأباطرة الرّومان في الحجارة، داخل توابيت منحوتة تذكّرك بالتوابيت الحجرية الفينيقيّة والرّومانيّة الوثنيّة أوما يسمّى بالسّركوفاج؛ توابيت منتشرة في كثير من كاتدرائيات وكنائس وأديرة البروفانس؛ من قصر الباباوات في آفينيون إلى دير مانوسك، إلى أسقفيّة سان تروفيم. وعندما بعد سنوات ذهبت إلى اسطنبول رأيت نفس الساركوفاج بأسماء وزراء آخر الدولة العثمانية؛ مثقفون مسلمون متخرجون من الجامعات الألمانية والفرنسية والإنكليزية قلت في خاطري لعلهم من جماعات حزب الاتحاد والترقي؛ البواكير الفكرية، الجذور البعيدة لأيديولوجيا مصطفى كمال أتاتورك الكارثية.

 وكلما مررت من أمامها تجد نفسك تردّد في سرّك مقاطع من نشيد سان جون بيرس وهو يمجّد في لهجة شبه ترتيليّة وبغنائيته مسيرة الغرب الملحميّة الكبرى… وتصغي إلى صوته في وحدته في شبه جزيرة جيان أمام البحر الروماني وتحت أشجار السنديان:

~… أميراتكم المطعونات يتحوّلن في العاصفة إلى يمام. والأباطرة الرومان الكبار ينامون تحت اللوحات البرونزية… ~

أجل أسقفيّة سان تروفيم القابعة منذ قرون في وسط آرل القديمة صرحا شاهدا على عصور المسيحيّة الوسيطة،

سان تروفيم ببوّابتها البديعة التي تعود إلى القرن الثاني عشر ميلاديّة، وديرها أيضا بمعماره الرّوماني والقوطي الذي ينتصب في الساحة العامّة، ساحة الجمهوريّة في قلب المدينة،

 ودير مونماجور الخرب. دير مونماجور الذي يقع في المرج خارج المدينة، على طريق قرية فونفياي حيث طاحونة ألفونس دوديه التي تحولت إلى متحف. دير مونماجور الذي غزت مقبرته الأعشاب البريّة والسّنونو. وإذا ما مررت من هناك في الصيف استمعت إلى جوقة الصراصير في شقوق الجدران الشّاهقة وفي أشجار السّنديان والسّرو، والصّنوبر. وظللت مشدودا إلى نافذة القطار مشدوها أتطلع على الحقول والأشجار وأيك القصب وبيوت الفلاحين وهي تعبر من وراء الزجاج إلى أن أعلن مكبر الصوت آرل فاستعددت للنزول إلى هذه المدينة التي تحولت فيما بعد إلى مكان كانت له أدوار في مستقبل أيّامي وفي فهمي لما يعتمل من قلق روحي لهذه الأجيال الجديدة التي هربت إلى هناك أواخر القرن الماضي، بعيدا عن ضجيج المدن الكبرى. بعدما سقطت كلّ أحلام ويوطوبيّات شباب ماي 68 وتحوّل زعماؤه إلى محترفي سياسة وتروتسكيست يقفون في صف الصهيونية ومنهم من التحق بأقصى اليمين عندما يئس من كل شيء.

***

نزلت من القطار كالمشدوه واتّجهت وأنا أجرّر حقيبتي إلى المدينة الني تلمح سورها من المحطّة. أحب اللقاء الأول بالمدن المجهولة. مررت عبر بوّابة السور الحجرية الضخمة، ودلفت إلى شارع 4 سبتمبر حيث نبع أميدي بيشو تعلوها فريسك صورة امرأة حاملة غلال الرّبيع على الجليز، وعناقيد العنب المتدلّية المنقوشة على جوانبه الرّخاميّة، ووقفت أتأمّل هذه الصورة البديعة بألوانها الحمراء والزرقاء والصفراء والرّمادية، هذا الصّرح من القرن التاسع عشر. بعدها ملت إلى الطريق المحاذي للّرّون، حيث متحف تريانون الذي عرفت فيما بعد أنه كان فيما مضى دير رهبانيّة فرسان مالطة؛ وهو شيء شبيه بالرّباط لدى المغاربة حيث يرابط الجندي دينيا وعسكريا للجهاد، كان هذا الدير أحد نقاط تجمّع العساكر التي ذهبت من هناك وعبر بلاد البلقان لاستعادة بيت المقدس وقبر المسيح من المسلمين.

***

وصلت إلى المعهد وشمس أكتوبر تضفي رداء برتقاليا على الجدران والأروقة الخارجية. يقع المعهد في بناية قديمة من القرن السادس عشر هي مستشفى آرل القديم مستشفى الربّ Hôpital Dieu أو قل إن شئنا التّرجمة الدّقيقة مستشفى العناية الإلهيّة الذي رمّم حديثا وتحوّل إلى مجمّع ثقافي يضمّ مكتبة المدينة وقاعة محاضرات، ومعهد دراسات عليا، ومقهى ودكاكين التذكارات السياحية.

اتّجهت مباشرة إلى مكتب الإدارة في الطّابق الأوّل، كانت كريستين المرأة النحيفة الطويلة في استقبالي، أخذت منّي ورقة الدعوة وبلحظة سوت إجراءات القبول ثم غادرت المكتب وقادتني إلى الطابق الثاني حيث غرف الإقامة، كانت مادلين شديدة اللطف معي وهي تقودني داخل رواق طويل كما في الفنادق نحو الغرفة التي خصصت لي سألتني إن كنت قمت بسفرة مريحة من تونس إلى آرل، قلت أجل. قالت بابتسامة سعيدة:

ـــ الطّقس هناك حار ومشمس أليس كذلك؟ هنا بدأ الطقس يسوء هذه الأيام.

 قالتها بشيء من الحسرة.

فتحت الغرفة وبدأت بشرح نظام الإقامة: أرتني المكتب والسرير الذي في السدّة والدشّ، وطريقة الإضاءة وتشغيل المدفأة، وأعلمتني أن الشّراشف تغيّر مرّة في الأسبوع، وعليّ أن أحملها بنفسي للمغسلة إلى المرأة التي تقوم على العناية بالمكان. سلمتني مفتاح الغرفة ثم غادرت بسرعة وقالت لي وهي تغلق الباب من ورائها لا تنس حفل الاستقبال على الساعة الثامنة في الصالون الكبير الذي عبرناه قبل لحظات أنت مدعو إلى الحفل، وأردفت لا تتأخّر في الحضور. سيكون هناك جاك تيريو المدير وبقية المترجمين هو حفل تعارف يقيمه المدير للقادمين الجدد.

في المساء جاء جاك تيريو هو أيضا مترجم، رجل في أواسط العمر بلحيته النامية وضحكته المجلجلة التي تخفي خجلا وارتباكا عميقين، كانت معه زوجته تريزا المرأة المكسيكيّة الصّغيرة والنّحيلة بلباسها الأسود الطّويل، وأحمر شفاهها القاني، والكحل الذي يحيط بعينيها الواسعتين السوداوين ووجهها المستطيل الذي تعلوه صفرة هادئة وأنفها المستوي الدّقيق، وسيجارتها المذهّبة الطّويلة بين أصابعها الطّويلة النّحيلة، وتتكلّم بحركات من يديها كأنها بطلة في مسرحيّة اسبانيّة من الثلاثينات.

تعرفت في الحفل على ميكاييلا المرأة المدورة التي تترجم لوكليزيو، ميكاييلا التشيكيّة، وآلش المترجم والنّاشر السلوفيني، جاء ليعكف على نقل أشعار بول إيلوار إلى لغته. وكان معنا في الحفل بعض الأرليزيين، وموظفي المعهد، وبعض أعيان المدينة. وهيبار نيسان صاحب دار آكت سود

هكذا بدأت معرفتي بآرل، بيد أنّ الأمر ليس بهذا التبسيط؛ إنّ صورة الآخرين في أذهاننا لا علاقة لها بهم، إنّها صور خاصّة بنا، فنحن نقوم وباستمرار بصياغة صورة وهويّة الآخر من توهّماتنا ممّا يمنح العلاقات البشريّة تلك الغرابة ويجعلها شيئا خارج استيعابنا وتحكّمنا ويساهم في سوء التفاهم على وجه الخصوص

بعدها بأيام بدأت تنهار لدي هذه الصّور السياحية الأولى لتحل محلها صور نابعة من الواقع ومن المعايشة

أوّل شيء اكتشفته هو ذاك المزيج من الأجناس الذي تحتويه هذه المدينة: كريستين سكرتيرة جاك وعشيقته كما يردد في السر المرأة الطويلة المعروقة القادمة من بلجيكا طلقت زوجها وجاءت لتعيش هنا. آلان ذو السمت البلطجي الشوارعي بأنف الملاكمين المعوج آلان القادم من ملجأ الأيتام. برناديت صوت الراهبة البريئة من الألزاس، غلوريا الألمانية، سيزار أو القيصر الخياط الأرمني ذاكرة المدينة وأسطورتها، كان يحمل باستمرار أوراقا في جيبه تمتلئ بجمل هي مزيج من الحكم والأمثال الأرمنية والتركيّة والفارسيّة نقلها إلى الفرنسيّة ؛ واذا ما اختلى بي قرأ علي شيئا من حكمه التي دأب مع تقدم العمر على تدوينها. ثم يهمس قائلا هذه حكمة الشرق من عندنا، يصمت للحظة ثم يعقّب لدينا حكمة قي الشرق ليست عندهم هنا… لورانتسو من الشيلي، إيرينا من رومانيا، فيليب البحار ومؤرخ نهر الرون عصامي يقضي وقته في أرشيف مرسيليا حيث يقوم بنقل الوثائق والمدونات التاريخية من اللاتينية والفرنسية القديمة إلى الفرنسية المعاصرة، جيمس وكاتي من أستراليا، وآلش السلوفيني ولازلو السلوفاكي وجاك الذي جاء من الجبال من نواحي سالانش ليفتح مكتبة تبيع كلّ نوادر الغرب الأدبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ويوهانا الأرستقراطيّة الألمانيّة الثرية بلباسها الذي لا يتغيّر: طقمها الأزرق الغامق على قيافة ماو تسي تونغ: جاكيت ذكوريّة وبنطلون وحذاء رجالي، مما يمنحها سمت المرأة المثلية؛ وهي تلفّ باستمرار في شوارع آرل مع كلبيها، ويوهانس الألماني المغرم بجمع مصابيح البترول القديمة من كلّ مدن أوروبّا، رودولف الرّسام العصابي السّويسري الألماني قارئ ورق الكوتشينة. هكذا وجدت نفسي في جمع غريب متعدد الثقافات واللغات

***

أناس ينطوون على قلق، يخبئون قلقا.

***

 في صباح اليوم التالي استيقظت عند الغبش، في تلك الساعة الرّماديّة والزّرقاء، كانت الغرفة بنافذتها المفتوحة على الباحة الدّاخلية غارقة في ظلال الفجر المعتمة، وأطللت من النافذة فرأيت في الأسفل؛ على اليمين مكتب المدير مضاء وطبق القهوة جاهزا فوق المكتب، وتوهمت أني أشم رائحة القهوة الفائرة.  ومطر رذاذ خريفي ينثّ فوق أرضيّة الباحة العشبيّة، أو ما اصطلح عليه بحديقة الشتاء وهي الحديقة الخلفيّة في المصطلح الفرنسي، ولا شأن لها بفصل الشّتاء، وأمامي يرتفع الجدار الحجري العاري مثل جدران قلاع القرون الوسطى. أيّ إحساس عميق بالرّاحة والهدوء والتفرّغ للقراءة والكتابة، في هذا الصّمت البروفانسالي؛ التفرّغ الذي حلمت به سنوات طويلة، فأنا أدري حدسا أن الأماكن تشكل النّصوص أيضا…

المكان الذي يكشف لك بفعل لا أدري أيّ من الأسرار ذاك الجانب العميق في نفسك. كانت لحظات رائعة ضوء الأباجورة في الليل الصامت يتراقص على سطح السقف وتلك النجمة تتراءى في النافذة الليلية الصغيرة

أتذكر نص لأحد الكتاب الألمان المتخصصين في فنّ العمارة يقول أن البيت هو تنويعة على المعبد. أجل، بل إنّ كلمة بيت العربية تعني في معناها الأوّل المعبد، وعندما يتحدّث المسعودي في مروج الذّهب ومعادن الجوهر عن بيوت النار فهو يقصد المعابد المجوسيّة، وفي القرآن بيوت الله هي المساجد. هل نقول الإنسان يسكن دينيا الأرض؟

اليوم يبنى لدويد بيته

لو كان للدهر بلى أبليته

هيدغير يقول الإنسان يسكن شعريا، بيد أنّ الشعري لدى هيدغير ليس بعيدا عن المقدّس إذن المكان سكن الإنسان هو معبد بأسراره وطقوسه؛ ويسمّى سكن لسكون النّفس، واطمئنانها، وهذا لا يتمّ إلاّ داخل المعابد والتكايا والخانقاه والأديرة. هكذا ارتبطت النّصوص بالأماكن عزلة ابن خلدون بقلعة بني سلامة حيث كتب المقدّمة، وكوخ هيدغير في الغابة السّوداء، وكوخ فتجنشتاين في إحدى الجزر البريطانيّة وقصر دوينو حيث كتب ريلكة مراثي دوينو. أماكن كثيرة شكلت قدر تلك النصوص الشبيه بقدر البشر…

 وتعود تونس مثل شريط صور. ظللت في الأيام أستعيد مشاهد حياتي في تونس مثل مشاهد مسرحية منفصلة عني… هل يجب أن نبتعد ععن الأحداث لندرك حقيقتها؟!! وأغوص في الداخل كما لو أني أريد إعادة اكتشاف حياتي…

***

ولكن ما حقيقة هذا القلق الّروحي لهذه الأجيال الجديدة التي هربت إلى هنا بعيدا عن ضجيج المدن الكبرى؟

ولماذا آرل؟ فآرل ليست السّيفين ومداعبة حلم العود إلى الطبيعة، حيث غامر بعض الرجال والنّساء بتغيير حياتهم جذريا وخرجوا ذات مساء من مكاتبهم في الإدارات والشركات الكبرى في باريس وغيرها من المدن الكبرى. ولم يعودوا إليها أبدا، تحوّلوا إلى رعاة وفلاّحين وأصحاب صنائع مارتاين تحول إلى حداد في جبال البيريني الغربية. آخرون تحولوا إلى رعاة في جبال السّيفين؛ هكذا كتب عنهم أنطوان الدّويهي أجمل الصّحائف.

هكذا جاءوا من أركان الأرض الأربعة

كيف قررت غلوريا الإقامة هنا بعد تنقلها عبر جغرافيات عدة من هامبورغ إلى أمستردام إلى جزر الكناري إلى قرية مونتيني لو روا في شمال فرنسا التي وصلتها في العشرين مع صديقها هانس فوق دراجة نارية وأخذت بمشهد العجوز الفرنسية جالسة أمام البيت تحيك الصوف بين الديكة والدجاج السارح أمامها صورة موحية بمعاني الثبات والهدوء وغياب القلق فاشترت البيت الريفي ثم واصلت رحلتها إلى الجنوب لتختفي داخل حقل في فونفياي القرية المجاورة لآرل… ولماذا وفي سن الأربعين، ففي السن التي يطمح فيها الانسان قد استقر في العمل والحياة وبدأ يحلم بالار تقاء إلى قمة أخرى يغادر   لورانتسو حياته فجأة. يغادر لندن وكراكوف وحياة الأركولوجي اللندني والعلاقات الأكاديمية ويأتي إلى البروفانس ليشتري بيتا قديما متهالكا جوار كوليزي آرل/ محافظا على تلك الأعشاب الشيطانية التي نمت في عتبة باب البيت… كنت أتأمل كامل الوقت سلوك هذا الجيل، كيف يصرف طاقاته داخل نظام رأسمالي استولى على كامل الفضاء. لماذا هذا الغرب، ومنذ القرن الثامن عشر بدأ يفرز ظاهرة الهروب لدى مثقفيه وفنانيه؟!!!

ثمّ جاء زمن الهروب إلى آسيا وتصوفها، الهروب إلى جزر الهند الغربية وإلى المكسيك، إلى الجنوب، إلى المياه الدّافئة.. &أو الهروب إلى الدّاخل، هرب ديكارت إلى ألمانيا وهولاندا، والدّنمارك والسّويد وصار صديقا للملكة كريستينا السويدية التي كانت لقاءاتها معه فجرا في الخامسة صباحا، كما ذهب ميشال فوكو من بعده بقرون لينعزل في ريف الأراضي الواطئة، وهرب مونتانيي إلى الرّيف، ورامبو إلى افريقيا إلى هرار …

لعلّ هذا الهروب قادم من حادثة بسيطة وسحيقة…

إن حادثا بسيطا أو فكرة تطلق في مجال ما تظلّ تفعل فعلها السريّ في الزّمن، مثل صفحة ماء ألقيت فيها حصاة فإذا هي دوائر ماء تتوالد دوائر أكبر، وتظلّ الدّوائر تكبر وتكبر إلى أن تصل إلى المحيطات البعيدة حيث تحدث حركة يسيرة جدّا مثل رفّة جناح فراشة قبل قرون. هذه الجماعات العائدة إلى الطبيعة اليوم هي دوائر تلك الحصاة التي ألقاها روسو، وثورو في بحر الوعي الغربي في القرون الأخيرة أو قل وضعها في المحيط الكبير للاوعي الجمعي. هذه الجماعات هي وريثة وبشكل من الأشكال أدب الباستورال الرعوي، الأدب الرّيفي الإيطالي، وريثة جون جاك روسو الداعي إلى العود إلى صفاء الطبيعة، والمؤمن بأيديولوجيا البدائي الطيّب، روسو الذي ظلّ يتردّد على الرّيف. وريثة ثورو الكاتب الأميركي الذي حسم الأمر وذهب إلى الغابة واستوطنها.

هم أناس تركوا وظائفهم ومواقعهم وحياتهم المستقرّة في المدن الكبرى وفي لحظة ما في العقد الخامس اتّخذوا قرارا بتبديل نمط وأسلوب حياتهم. بل قرّروا استبدال حياتهم بحياة أخرى؛ غادروا المدينة والوظيفة والوضع المستقر، وضع البورجوازي الصّغير الكائن ذو البعد الوحيد وهو الاستهلاك. الانسان المطحون بين الرّاتب الشهري والضّرائب، سجين التلفزيون وملصقات الدّعاية والسوبرماركت.

وعلى غير اتفاق جاءوا آرل منجذبين إليها، وعلى غير اتفاق التقوا.

… ثمّة ريح سريّة قادتهم، موجة لا مرئيّة اقتلعهم من شققهم وبيوتهم في باريس ولندن وجينيف وهامبورغ وأمستردام، وكراكوف. نداء داخلي غامض وحاسم وقدريّ.

لعلّها رياح الميسترال التي تهبّ بشكل دوري على المدينة، يقال أن هذه الرّياح تسبّب الجنون وهي التي تجذبهم سريا وكأنهم يلبون نداء كونيا وهو النّداء الداخلي الغامض الذي استجاب له فان غوغ قبل قرن من الزّمان ليتخذ آرل سكنا له، وتقترن آرل باسمه وتشكّل أسطورته، تشكل مجده ومأساته

هكذا جاءوا من أركان الأرض غابي من هامبورغ، لورانزو من بوينس رايس، سيزار الخيّاط ألأرمني العجوز من أرمينيا، خبّأته أمه في الأقماط وهي تعبر الحدود التّركية إلى اليونان إبّان محنة الأرمن في تركيا حوالي 1915 لوقوفهم مع الإنكليز الذين ولدى انسحابهم تخلوا عنهم كما تخلى الفرنسيون فيما بعد عن حوالي نصف الحركة الجزائريين…

 رودولف السّويسري الألماني رسّام الكوتشينة المثليّ الذي كان يقضي وقته يهيم على أرصفة الرون يطارد اليافعين…

البروفيسور جيمس أستاذ الأدب الانكليزي في جامعة ملبورن، جاء مع زوجته كاتي العذراء الطّهريّة ذات الصوت الشبيه بصوت الحدأة. تبدو كاتي في قيافتها كأنّما هي شخصية خارجة لتوّها من شريط ذهب مع الرّياح لمارغريت ميتشل. امرأة نحيلة صموتة، رقيقة يعلو وجهها شحوب ايملي ديكنسن؛ بيد أنّها تنطوي على جنون صامت. ركبت هي وجيمس باخرة نقل بضائع أبحرت بهما من سدني في أستراليا وظلّت في الطّريق مدّة شهر إلى أن ألقت مراسيها في ميناء مرسيليا، قال لي جيمس ونحن نتمشّى في رواق المعهد بلهجة ترفّع الأساتذة الكبار، وتؤدة من يقول كلاما خطيرا :

  • ركبنا باخرة بضائع أقلتنا من أستراليا إلى مرسيليا. دامت الرحلة شهراكاملا. وفي أثناء هذا الشهر أنهيت في الباخرة كتابة قصة للأطفال…

سألته عن ترجمته لبروست، فأنا أعتقد أن بروست لابد وأنه نقل للانكليزية عدة مرات بعد كل هذه السنين التي مضت على ظهور عمله الأساسي في البحث عن الزمن الضائع. بدا جيمس على السريع وكأنه أدرك مغزى السؤال، وأعتقد أن هناك من سبقني لطرح هذا السؤال ولابد أنه سمعه عديد المرات وأنه متعود على تقديم جواب لهذا التساؤل الشرعي. قال:

  • الترجمة المتداولة لبرست في الإنكليزية لم تأخذ بعين الاعتبار أن لغة بروست قريبة من فرنسية القرن التاسع عشر

لذلك أردت أن أعيد ترجمة هذا الكتاب وأن أضعها في لغة إنكليزية معاصرة للغة بروست لقد دققت كثيرا في تراكيب وتعابير بروست ولغة بروست التي أجد أنها تنتمي للغة القرن التاسع عشر الفرنسي. الترجمة المتداولة مليئة بالتعابير الحديثة البعيدة عن مناخ بروست…

ولم أعلق. فكرت أن الرجل سجين الأكاديمية، ومستلب بالدقة اللغوية التي تقضي على حس النص الأدبي وحرارته وتلقائيته. وأنه وبعد جهد عقلي سيحصل في الأخير على نص ترجمي مثل زهرة البلاستيك بهية ومصقولة وبلا حرارة. نص ميت. قد يكون دقيقا جدا، وخلوا من الأخطاء بيد أنه سيكون نصا بلا إيقاع ولا توتر…

وأردف متنقلا بالحديث إلى ترجمتي لحوارات هنري ميلر:

  • لماذا تترجم ميلر؟ ميلر كاتب غير مهم، غير معروف. الفرنسيون وحدهم يعتبرونه كاتبا كبيرا… هم صانعو أسطورته.

ميلر غير مهم في العالم الأنكلو سكسوني…

وصمت… كان يتكلم بلهجة المعلم الواثق. كان كلامه يوحي بقناعة لديه…  بما أني قادم من مستعمرة فرنسية قديمة فلابد أنني واقع تحت تأثير التبشير الفرنسي، وأن تعلقي بميلر هو تأثر بالثقافة الفرنسية وليس خيارا شخصيا فمثلي غير قادر على الاختيار، والآن جاء دوره هو ليحررني من ربقة هذه الثقافة الكولونيا لية وأساطيرها… 

قلت بهدوء مفتعل:

أنت لا تعرف ثقافتنا. نحن في العالم العربي لنا احتفاء كبير بميلر. ومترجمو ميلر للغة العربية ليسوا كما قد يتبادر إلى ذهنك من المثقفين الفرنكوفونيين الواقعين تحت تأثير الثقافة الفرنسية، بل نادرا ما يترجمونوهم يفضلون قراءة النصوص في لغتها الأصليةوعزوفهم عن الترجمة يعود في الغالب الأعم إلى احتقارهم للغة العربية وكثيرا ما تراهم يسخرون من أولئك الذين يقرؤن الكتب المترجمة. كل مترجمي ميلر نقلوه من لغته الأصلية. ولا علاقة لهم بالثقافة لفرنسية وبأساطيرها. أغلبهم من البلدان التي كانت واقعة تحت الاستعمار الإنكليزي الذي هو كما تدري غير تبشيري ولا يعرفون بل لا تهمهم التقليعات الأدبية الباريسية… وأنا قرأت ميلر في ترجماته العربية لأني أعتقد أنك لا تمتلك أي نص خارج لغتك.  وأكرر أنا لا علاقة لي بأساطير الثقافة الفرنسية…

ولكن الأستاذ ظل مصرا، كأي باحث لا يحتمّ بالنصوص، لا يتعامل مع النصوص بالمعايشة الداخلية العميقة، وإنما بالعقل والتجريد وهما نقيض الدفق الإبداعي. واستمر مدافعا عن رأيه، ونحن نسير في الرواق المحيط بباحة مستشفى العناية الالهية.  وأنا أنظر إلى ظلال أعمدة العقود الممتدة فوق الباحة، مأخوذا بزهور حديقة فان خوخ، مأخوذا بضوء الخريف البرتقالي على الجدران مثل لوحة لبالتوس. لماذا أفكر في بالتوس وحصانه في ليل أمستردام هذا. وأعود إلى آرل. وتعودني صورة هذا الأستاذ سجين المؤسسة التعليمية… جيمس لا يعرف المستجد في عالمه الانكلوسكسوني، وربما لم يسمع أو لا يعرف الروائي نورمان مايلر الذي أخرج هنري ميلر من الصمت. كانت قد مرت أربع سنوات على صدور كتاب نورمان نصوص هنري ميلر الرائدة. الأستاذ لا يعرف أن الناس بدأت في أميركا تعيد الاعتبار إلى هنري ميلر. نورمان  مايلر يشبه أسلوب هنري ميلر وقوة مخيلته بمارلو وشكسبير  ويقول أن النخبة الأميركية تعتبر اليوم (صدر الكتاب منتصف السبعينات من القرن العشرين) هنري ميلر عبقري الأدب ورمزا لثراء أميركا الإنساني… هكذا كتب نورمان مايلر… وقبل ذلك كان لورانس داريل اقترح وضع مختارات من أعمال ميلر لتوضع في الفنادق مكان الكتاب المقدس…

آه جيمس لست مفردا في هذا الخلط بين الابداع والتقنية. بورخيس نفسه كتب: في هذه الأزمنة الأخير لم أصادف أميا لا يحمل شهادة.

فقط لدى العرب استمر الخلط بين الثقافة والتقنية وهم يعتبرون الدارس الأكاديمي مثقفا.

 و جاء فيليب ريغو، وآلان، وبيير إيميل. على غير اتتفاق جاءوا آرل وعلى غير موعد التقوا…

غابي الرسّامة، والمترجمة، والمشبعة بروح التّصوّف الإغريقي، والإرث اللاّتيني نبيّها سيناك الفيلسوف الأخلاقي الرّواقي الذي يجمع بين الفضيلة واللّذة، وهما قطبا حياة غابي. غابي القادمة من الشّمال من هامبورغ حيث تركت وراءها هناك قصّة يجب أن تروى: طفولة إبان الحرب تعرّضت فيها لغسيل دماغ وإحساس معذّب بالذنب إزاء اليهود، في المدرسة وهي في الثامنة رفضت حضور الدروس الدينية، واستجابت لها المدرسة. وتطوّعت تحت ذاك الإحساس العنيف بالذّنب وهي ما تزال في مراهقتها الأولى لمساعدة عجوز يهوديّة تقوم على العناية ببيعة يهوديّة في هامبور:

كنت أحتقر نفسي لأنّني ألمانيّة، وأشعر بالذّنب، وكانت العجوز اليهوديّة التي تشرف على المعبد تقول لي إنّ ما وقع لنا نحن اليهود عقاب إلهي لأنّنا انحرفنا، حدنا عن الدين، لم نتّبع التعاليم فأرسل علينا الإله غضبه…

نحن في الخمسينات وأوروبّا خارجة لتوّها من حرب ضروس كما تقول العرب؛ لم تعرف الإنسانيّة أكثر تدميرا منها؛ كانت عبارة عن أبوكاليبس حقيقي، نهاية العالم، ومخطط مارشال على قدم وساق. أب كان قد بعث به هتلر للجبهة ليجد نفسه في العشرين في إيطاليا يحمل بندقيّة لا يدري لماذا، وماذا يفعل بها. وأعلنوا نهاية الحرب فعاد فالتر المسكين من الجبهة راجلا إلى بلدته مع فلول العساكر الألمانيّة المنهزمة. وفي الأثناء يلتقي فالتر بسغريد المرأة التي ستصير زوجته، وينجب منها غابريالاّ وهانس. تنحدّر سغريد من أصول إقطاعية بإقليم بافاريا. هربت عائلتها بعد الحرب وتركت كل أملاكها من أراضي وخيول وماشية. انتمت في شبابها لمدرسة الباوهاوس الألمانيّة الشّهيرة. كانت تطمح في أن تصير رسّامة، كانت تحلم بتحقيق طموحاتها؛ وبعد زواجها من فالتر وإنجابها طفلين أحسّت وكأنّها خانت نفسها؛ فقدت مبرر وجودها، وغرقت في كآبة عميقة. في أحد الأيّام غادرت البيت، ولم تعد مطلقا. بحثوا عنها في كل مكان ولكن بلا جدوى بعد حوالي إحدى عشرة شهرا على اختفائها. تقول غابي: كانت جدتي تتصفح الجريدة على عادتها كل صباح عندما وقعت على خبر مفاده أنهم وجدوا امرأة ميتة في الغابة لم يتعرّف عليها ومباشرة اتصلت بأبي ليذهب ويرى وذهب أبي وكانت الصدمة. عثروا على أمي معلقة في شجرة؛ شنقت نفسها في الغابة.

وصمتت غابريالا للحظة، بدت طويلة وغائرة في النفس. أتذكر تلك الليلة. كانت آرل غارقة في ليلها وصمتها سوى هدير هبوب رياح الميسترال في أشجار الدلب تزيد الليل وحشة. الأشجار التي يتراءى اهتزازها في الخارج من خلال الفتحة التي تعلو باب البيت. عادت غابي للبؤرة التي شكلت دراما وجودها ورمت بظلالها على كامل سنوات مراهقتها، وشبابها.  

ثم استمرّت بصوت هادئ حزين، كانت عيناها ازدادت زرقة درامية وجمودا:

رهيب، ما فعلته أمي بنا… وعلى وجه الخصوص بأخي الذي كان في الثامنة من عمره. ولم يتحمل. لقد كسرته إلى الأبد…  خذلتنا بشكل تراجيدي. غياب أمه عاشه كتخل عنه، كرفض جوهري لوجوده الكلي…  

قبل أن تأتي غابي وتستقرّ في آرل كانت تعيش في أمستردام من فنّها، ثماني سنوات درست فيها الرسم. وقبلها تنقّلت في بلدان كثيرة من جزر الكناري إلى اليونان وشمال فرنسا. الآن ها هي أرست في حيّ لاروكيت في آرل اشترت بيتا تقليديّا ورمّمته حسب أصول الصيانة المعماريّة جعلت منه عشا وملأته بلوحاتها وكتبها؛ تعيش غابريالاّ منطوية على هذا التاريخ العائلي المستمرّ داخلها وفي مكابدته حولته إلى أسئلة مضيئة لوعيها بالوجود ولكنه حاضر بقوة في حياتها بل تبدو حياتها بشكل ما عملية ترميم طويلة لذاك الحدث التراجيدي الغير قابل للترميم. هي تعي وبقدر الإمكان كل هذا. وكأنماتقول مع برخس ليس الأمر محاربة الماضي وإنما منع آثاره من الظهول وهدم مستقبلنا

بعد غابي بقليل جاء لورانزو الأرستقراطي التشيلي الفرنسي الأمّ، شبيه أيضا في حوله ولون عينيه بلورانس العرب. شاب في منتصف الأربعين أبوه من الأرستقراطيّة التشيليّة، وأمّه النبيلة الفرنسية. كان أبوه يعمل بالسّلك الدّبلوماسي. عمل في لندن وهونكونغ والقاهرة.

 تخلّصت منه أمّه مبكّرا بأن وضعته في القسم الداخلي في مدرسة انكليزيّة عريقة. وهناك زامل أبناء الطبقة الأرستقراطية الإنكليزية. تقول غابي يبدو أن لورانتزو تعرّض في هذه المدرسة المتشدّدة لاغتصاب من أحد الرّهبان المثليّين. هناك أيضا خضع لأساليب التربية الانكليزية الكلاسيكيّة المتشدّدة، نظام صارم، تدريب على التّقشّف، الاستيقاظ باكرا في الشتاء والاغتسال بمياه النّهر الباردة في مدرسة هي أشبه بالمعسكر في صرامة نظامها، أو بدير من القرون الوسطى… طفولة أولى في سانتياغو، بيتهم يقع على مقربة من بيت بابلونيرودا في إيسلا نيغرا، الجزيرة السّوداء؛ فقد كان أبوه صديقا لنيرودا ودبلوماسيّا أيضا مثل نيرودا. وقضى لورنتزو مراهقته مع الرسّام كوكوشكا صديق والدته الارستقراطية المتحدرة من منطقة البروفانس الفرنسية، كنّا نتحدّث عن الرّسم وفجأة وفي سياق الحديث ذكرت كوكوشكا ولوحته الرّبيع الكونيّ التي عرضت ذات سنة في تونس في صالون الخريف قاعة العرض البلدية في بناية البارماليوم التي كانت ما تزال في تلك الأيام تحمل ملامح الحقبة الكولونيالية. وكان المعرض حديث الأوساط الثقافية طيلة الموسم، التفت إلي لورنتسو ونحن نسير في الليل تحت نجوم مارس قرب بيته أعلى المدينة وندّت منه آه وأضاف بعد ثوان بلهجة مفاجئة: أنت تعرف كوكوشكا ؟ قلت لا، إنّما أعرف لوحته الربيع الكوني وقد عرضت في السبعينات في تونس، قال كان صديق والدتي عرفته جيّدا في طفولتي كنت دائما في بيته. كانت أمّي تختلف إليه ليعلمها الرّسم.

 ولورانتزو يتمتع بذاك اللطف الانكليزي العميق يشي بالتزمت كأنه شخصيّة خارجة من العصر الفيكتوري، يتنقل في كلامه بيسر من ميلتون إلى شكسبير إلى كارلايل إلى لورانس العرب، إلى الدكتور جنسون إلى الأدب الذي يسمى أدب عصر الانحطاط أو الأدباء المنحطين الانكليز Les décadents وهو تعريف وليس تقييما أخلاقيا. يحفظ مقاطع لجون دون، وليم بليك، ييتس واللورد بايرن كثيرا ما يضمنها كلامه معنا ثم يترجمها لنا بالفرنسية، تلك الاستشهادات التي يبلسم بها جراحه العاطفيّة.

لم يمض أسبوع على وجودي في معهد المترجمين حتى انعقدت أواصر الصّداقة مع فيليب المؤرّخ العصامي وآلان الصعلوك الهامشي، الاستفزازي، الذي جاء من دار الأيتام وقضى شبابه يبحث عن اعتراف ما، يستجدي اعتراف الآخرين عن طريق الرّفض. فيه شيء من غضب شباب ثورة 68، وكثير من ثقافة الموسوعيين الفرنسيين. ذهب في الأول إلى منطقة الكامارغ وهناك وسط المستنقعات وقريبا من البحر، من شاطئ قديسات البحر سكن باصا قديما حوّله إلى كوخ. تعرفت على غابي، ولورنتزو، وسيزار، وإيرينا مافرودين الرومانية، وآلش السّلوفاني، ولاسلو السّلوفاكي، وميكاييلا التّشيكيّة، وطبعا برناديت القادمة من الألزاس.

وفي أحد الأيّام. نحن القادمون من خارج فرنسا. نحن السواح المأخوذون بكل ما هو غريب، إيكزوتيك لدينا شغف اكتشاف أساطير وحقائق فرنسا… أردنا التفرّج على هذه الجغرافيا التي نعرفها من خلال الكتب والنّصوص. كان الوقت أوائل نوفمبر وانحشرنا ذات صباح في سيّارة غابي. وكان آلان سائقنا ودليلنا مضينا وسط حقول فان خوخ الكئيبة. وصلنا إلى غدران ومستنقعات منطقة الكامارغ ومخاضته؛ وهناك وبعد ضياع وسط متاهة تلك الدروب التي تشقّ البحيرات وأراضي السباخ التي يكثر فيها القصب والعوسجان وطيور النحام الوردي وعبر دروب ترابية ضيقة تحيطها المياه وصلنا إلى شواطئ بدائية خالية. وتفرجنا على بحر الخريف الأصفر المزبد، وعلى خيول الكامارغ البيضاء والسّوداء، خيول فرنسا العملاقة وهي تخوض في المياه الخضراء الداكنة وسط الحشائش البحرية وتفرجنا على مراعي ثيران الكوريدا الضّخمة، الكوريدا التي كنّا شاهدنا عرضا لها قبل اسبوع بالمسرح الرّوماني في آرل تلك الثيران شبيهة ثيران بيكاسو:

 آه، صرنا نرى الطبيعة من خلال الفنّ وكانّ العالم الحقيقي هو تمثل فنّي؛ فقدنا براءة النظرة الأولى للعالم وللطبيعة، التراث الإنساني من شعر ورسم ونحت كيّف نظرتنا، الخلق الأوّل هو الطبيعة بيد أن الخلق الثاني هو المهمّ، هو الذي يعّمق وعي الكائن بسكنه السّعيد في الأرض، كلّ تفّاح العالم واحد متكرر سوى تفاحة سيزان. ونحن نرى وجوه النّساء عبر وجوه روبنس كما نرى وجوه المتأزمين عبر بورتريهات كليمت، ومساحات الكامارغ الممتدّة العارية من خلال أعمال تونير، والصور الفوتوغرافيّة السّوداء والبيضاء للفن الحديث والمتداخلة مع وعينا

أيّ مجال هو مجال الكامارغ ببحيراته وببطّه التائه في الغدران، وطيور النّحام، والكواسر وجبال الملح وجبال بيضاء موشورة بالورديّ تتراءى من بعيد،

شاهدنا ملاّحات سان جون بيرس جبال الملح التي تعكس أضواء سحرية من الأزرق إلى البرتقالي ووجدت نفسي أستعيد بيرس في ذاكرتي ومشاهده الكونية الغنائية:

عندما يشدّ الجفاف جلده الأتانيّ فوق الأرض، ويملّط الطّين الأبيض على حوافّ النّبع سيعلن ملح السّباخ الورديّ النّهات الدّمويّة للأمبراطوريّات…

أجل هي حمرة الغروب القانية التي رآها سان جون بيرس… وفي طريق العودة وكان الليل قد هبط على الرّيف ملنا إلى مطعم موريس في أحد الحقول قبل آرل ببضع كيلومترات، وبعد مسير وسط الحشائش واللّيل دلفنا بيتا ريفيا بروفانسيا قديما وقاعة تملأ صدارتها مدفأة حجرية كبيرة بعلو قامة الانسان تشتعل، والجلبة تملأ المكان، قلت هي نفس جلبة الفرنسيس التي لحظها رفاعة رافع الطّهطاوي قبل قرنين في باريس ولا عجب أن يثير انتباهه ذاك الضحك هو القادم من وسط أزهري جاد ينهى عن الضحك الذي يميت القلب كما تقول الفقهاء.

***

 هناك بدأت ما دعوناه أيامها أحاديث آخر القرن. كانت قد تشكلت الحلقة حول ايرينا مافرودين الشاعرة الرومانية نسبة لرومانيا كانت ايرينا في الستين امرأة ذات بنية قوية تتحرك بهدوء وتتكلم بهدوء بلغة فرنسية طليقة، وجاورتنا إيرينا مافرودين الأرستقراطية الرومانية نسبة لرومانيا، إيرينا شاعرة مطبوعة كما يقولون، وأكاديميّة رصينة على اطلاع واسع على حضارة الغرب في العصور القديمة والوسيطة وبعض فلاسفة الاسلام؛ وكنّا متفقين أمام هجمة كتاب الحداثة الخاوية في غالب الأحيان، وقد أطلقنا شعارا: من لا يعرف الكلاسيكيات الإغريقية أو إحدى لغات العالم القديم عربية أو لاتينية لا يمكن أن يكون حداثوي Moderniste وأن يدرك انجازات الحداثة؛ كانت إيرينا مغرمة ببول فاليري وتترجم رواية مارسيل بروست: في البحث عن الزّمن الضائع.

فهي شاعرة ومترجمة

 وهي أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة بوخاريست لها معرفة بفلسفات العالم القديم واطلاع على فكر النهضة كانت تتحدث عن ابن رشد وتوما الاكويني وتنتقد هؤلاء المترجمين المحترفين مثل لاسلو السلوفاكي و ذاك الشاب السويدي الذي مرّ بالمعهد لأسبوعين 

ان الزمن بداية تسعينات القرن العشرين كنا جماعة كإخوان الصّفا بيد أنّه لا مشروع لديهم سوى المشروع الفردي، أو ما يسمّى بالانكفاء على الرّفاه الجسدي وتنمية الذّات، أو البناء الرّوحي، بمعنى آخر العمل على تنمية القدرات الشخصيّة، يبدو المشروع بالنسبة لعالمنا الثالث مشروعا أنانيّا، وعدميّا؛ فآخر مثقف في أبعد قرية لا يحلم بأقل من تغيير العالم بأسره…

هكذا صرنا نجتمع كلّ مساء في ندوة شبه منتظمة في القاعة العليا لمستشفى العناية الإلهية،

هناك استعدنا أفلام أهم كلاسيكيات السينما الغربية من الحسناء والوحش إلى فيلم لي لي مارلين، ولورانس العرب، وأمريكا أمريكا لإيليا قازان، وموسيقى ما بين الحربين وكأننا جماعة سريّة تأتي لجرد ثقافة حقبة مضت، تأتي لتودّع القرن العشرين،

 إخوان صفاء بيد أنّنا لسنا فلاسفة ولا ندّعي ذلك.

كان إلش من سلوفينيا، أكثر تماسكا وجديّة ورصانة ينقل أعمال مونتيني

 كانت غابي قد أنجزت في تلك الفترة ترجماتها الألمانية لنصوص ألفونس دوديه، وأخرج فيليب بعض المخطوطات من أرشيف مرسيليا الذّائع، وكتب عن سفن نهر الرّون في القرن الرّابع عشر ثمّ صحب بعثة أثريّة لليونسكو إلى الإسكندريّة وخليج سرت حيث بحثوا عن مراكب الفينيقيّين الغارقة في البحر فلم يظفروا سوى ببعض العملات وبقايا سفينة نابوليونيّة جنحت إلى تلك الشّواطئ وتمثالا يونانيّا لإله زحل هو الآن في إحدى غرف متحف بنغازي.

في مستشفى العناية الإلهيّة نام فان غوغ يوم قطع أذنه ليقدّمها هديّة لحبيبته هكذا تقول الاسطورة، نام في نفس القاعة تقريبا التي صارت اليوم قاعة القراءة. كان لاسلو المترجم السلوفاكي يتندّر إذا ما اشتكى أحدنا من نوم متقطّع، مكدّر أو اشتكى من كوابيس فيقول له مواسيا:

– Ce sont les névroses de Van Gogh qui hantent ces lieux 1 et qui nous empêchent de dormir!

إنّه عصاب فان خوخ الذي يسكن هذا المكان، وهو الذي يمنع عنّا النّوم

لاسلو الذي كان ينقل ميشال بيتور من الفرنسيّة إلى السّلوفاكيّة، ولا يكفّ عن الحديث عن الرقيّ الثقافي والحضاري لبلده، وكيف أنّهم يصنعون الكريستال هناك في الجبال؛ وإذ أخطئ وأقول له عفوا وأنا أتحدّث عن أيّ موضوع:

  • في بلدك تشيكوسلوفاكيا؟

فما أكاد أكمل جملتي حتّى يغضب ويصيح بي وهو يعيدني إلى الصّواب، ويقول لا، لا أنا من سلوفينيا ويلمز من قناة التّشيك ومن تيتو، من لغتهم وثقافتهم وأساليب عيشهم، ونسائهم ويغرق في خطاب عدائي شديد ضد التشيك ويتخلّى عن الموضوع وينشأ يحدّثني بحماس غنائي عن التشيك وأنّهم شبه بدائيين وأنّهم بعيدون عن الحضارة وعن أساليب العيش الرهيف، وأنّ النخبة في تشيكوسلوفاكيا القديمة، على أيّام تيتو هي كلها من السّلوفاك بيد أنّهم لم يحتلّوا أيّ مواقع مهمّة في الدّولة. واكتشفت أن الأمر لا يقتصر علينا فقط حيث في كلّ دولة عربيّة ثمّة قرية ما تأتي بها ورقة يناصيب التّاريخ إلى الحكم فتستأثر به لأهلها.

لاسلو شوفيني متعصّب، بل عنصري يكره التشيك والعثمانيّين، ولا يترك فرصة لا يهاجم فيها وبلطف حضارة الإسلام؛ أصمت؛ ثمّ أساله بعد حين، وببلاهة وفي غفلة منه، كم قرن ظللتم تحت الحكم العثماني، تحت الدّولة الإسلاميّة؟ وبعد ثواني أضيف ظللتم ثلاث أم أربعة قرون؟ نسيت.

ويفهم قصدي، ويصمت. وأحيانا أضيف عندما جئناكم كنتم تعيشون عصورا مظلمة حقيقيّة.

وتقول عن تشاو سيسكو إنّه من أصل فلاّحي وضيع، وما اشتراكيته سوى انتقام لوضاعته… لقد خرّب رومانيا هدم بيوت الفلاّحين التقليديّة ودمّر كلّ الكنائس والأديرة التاريخية بتماثيلها وأيقوناتها وعمارتها الرّومانية العريقة التي تعود إلى العصر الوسيط وحتّى إلى ما قبله، وأقول لها بورقيبة أيضا قام بعمل شبيه، هدم كثيرا من معالم تونس 23 الإسلاميّة بتأثير أيديولوجيا حداثة عُصابيّة Modernisme névrotique تصور خاطئ للحداثة أراد أن يعالج تونس من صيدليّة الثّورة الفرنسيّة. شكّل حركة شبيهة بحركة اليعاقبة في تاريخ الثورة الفرنسيّة إلا أنهم قادمون من الريف التونسي

***

وبعدها بسنوات طويلة في إسطنبول، وفي ذلك الحفل الذي أقيم للوفود بحدائق توب كابي، وأنا أتطلّع مشدوها إلى الأشجار الباسقة وإلى القصر المغلق في ذاك المساء المطير والحديقة تمتلئ بالأتراك بأطقمهم الزرقاء النّيليّة والسّوداء وياقاتهم البيضاء، ووجوههم الآسيويّة الأوربيّة ونسائهم في كامل زينتهنّ، بملابسهن الفارهة وذاك الخفر الشرقي الذي يتبدّى في حركاتهنّ وسحنتهنّ البيضاء الضاربة إلى الحنطة وشعورهن الشقراء والسوداء، خليط من أجناس عريقة: روم، وترك طورانيّون، وكرد، وأرمن، وقوقازيون، وعرب وصرب وبلغار؛ مزيج مثير من أعراق وأجناس وثقافات من آسيا الصغرى إلى البلقان.

يا إلهي هؤلاء أحفاد الجند العثمانيّين الذين أنهوا الأمبراطوريّة البيزنطيّة، أوغلوا على صهوات خيولهم شرقا وغربا وغزوا بلاد البلقان في حروب دامت قرونا، لعلّ آخرها حرب البوسنة والهرسك

قلت لصديقي حمزة ونحن نتهيّأ للنزول إلى كنيسة القديسة إيفام تحت حدائق توب كابي:

ـ حمزة باي أنا حزين أنّي أصل إلى باب القصر ولا أستطيع زيارته.

 

مأخوذا بالرّفاه الإمبراطوري العثماني الذي ما يزال ماثلا في العمارة وفي الخط الدّيواني العربي المذهّب الذي على بوّابات الجوامع والقصور والمعاهد والقشلات والمراسم العثمانيّة، وأروي لمحدّثي مقدار اعجابي بالرسوم الباقية من دار الخلافة أو الباب العالي ففي كلّ بناية أثريّة ثمة طغرى السلطان الذّهبية تعلو البوّابات الحديديّة العملاقة الشبيهة ببوابات الحدائق الإمبراطورية في فيينا، قلت لصديقي إن هدم هذا التراث جريمة، جريمة تاريخيّة كبرى وأنا أعتقد أنّ ما بقي ماثلا للعيان، ولم تمسسه يد البلى أو الإهمال بفعل إديولوجيا التحديث الكماليّة هو جزء يسير.

 قال صديقي حمزة باي وهو يخاطبني بفرنسيّة راقية ومخارج كلام ونطق سليمين وبرهافة شديدة تجدها لدى عشاق اللغة الفرنسية من غير الفرنسيّين وهو يوجه لي كلامه بصيغة الجمع كما تعلّم ذلك في مدرسة الألسن العريقة التي أنشأها السلطان عبد المجيد.

– أنا متفق معكم يا خالد باي، مصطفى كمال وفي هوسه التحديثي هدم كثيرا من القصور والتّكايا والمساجد والحمّامات، والغريب أنّه وفي أواخر حياته اختار الإقامة بقصر دولما سراي، في سكن السّلطان؛ والمؤسف أنه كانت بهذا القصر مائتا غرفة وقاعة، هل تتصوّر يا خالد باي مائتين من الغرف والقاعات الفارهة مؤثّثة بكامل رياشها الأمبراطوري لم يبق منها اليوم سوى أثاث عشر غرف أمّا بقيّة أثاث القصر فقد اختفى؛ حارب مصطفى كمال كلّ الإرث العثماني في اللّغة، والعمارة واللّباس وأنظمة الحكم، باختصار اعتدى على تاريخنا وهويّتنا وهو يفكر أنّه يدافع عن هذه الهويّة.

ثمّ صمت قليلا، وخفّف شيئا من حماسه واستمرّ:

هي مفارقة؛ هو أزال تراثنا هويّتنا وهو يعتقد أنّه يبني؛ وقد أرسى لدى الأتراك حسّا قوميّا شوفينيّا مقيتا عزلنا عن ماضينا وعن الشعوب المجاورة، عن إخواننا العرب، ثمّ لا تدري كم أتألّم أنا ! عندما أتجوّل في اسطنبول وأرى كلّ هذه الكتابات التركيّة بالقلم العربي فوق المعالم الماضية ولا أستطيع فك حروفها وقراءتها، تراث تركي كامل مكتوب بالخط العربي يثوي ميّتا في المكتبات بيننا وبينه سدّ، تراث لا نستطيع قراءته، لذلك شرعت هذه السنوات في تعلّم اللغة العربيّة. أنا أحبّ إخواننا العرب. هكذا أنهى كلامه

الفتاة الكرديّة أيضا اختزلت الأمر والباص يصعد بنا في ذلك المساء الداكن إلى باي أوغلو وشبّهت دور جماعة مصطفى كمال الثقافي بدور اليعاقبة في الثورة الفرنسيّة. كانت خيوط المطر تنزل على زجاج الباص، وعلى باي أوغلو وعلى البوسفور الغارق في الضّباب، وواجهة فندق لندن كما هي من أيام كان يقيم فيه ارنست هيمنغواي… وكنت وكأنّي في بغداد قبل خمسة عشر سنة أصغي إلى الكاتب الصّيني صاعد جنديّ الكون هكذا اسمه وهو يقول لقد ألحقت ثورة ماوتسيتونغ الثقافية ضررا فادحا بالتراث الثقافي الصيني، وبلمحة بصر عبرت آرل بخيولها العملاقة وفرسانها المسيحيّين في أزيائهم السوداء وبيارقهم ذات الصلبان الذّهبيّة والفضية فرسان مالطة ورأيت إيرينا مافرودين في صورة السيّدة الكرديّة جالسة في القاعة الكبرى وسط صخب الطّيور في الخارج وتحت ضوء الكهرباء البرتقالي الممتزج بحمرة الغروب في النافذة وهي ترثي رومانيا كما عرفتها هي في طفولتها وشبابها والتي هدمها تشاوسيسكو، رومانيا التي لم تعد سوى صورة مريرة في بطاقات البريد القديمة وفي الذاكرة.

***

هل آرل مدينة واقعيّة أم هي حلم، لا، هي مكان رمزي لطقس عبور كامل في حياة هؤلاء الناس الذين جاءوها من أماكن بعيدة واستوطنوها؛ من سويسرة وأستراليا تركيا وأميركا اللاّتينية وألمانيا، ورومانيا كاليفورنيا، أذكر مايكل الرّسام الأميركي الرجل الفارع النحيف الذي تلقاه في أزقة آرل وفي عطفاتها على دراجته وهو في التسعين من العمر وتلك الثرية الألمانية البدينة التي ترتدي طقما واحدا لا يتغير جاكة صينية زرقاء وبنطلون أسود فضفاض تغطي به سمنتها… تخرج كل مساء بكلابها كما لو أنها هيبي فقير متشرد

 هل آرل إيثاكا عصريّة، والوصول إليها وإدراكها هو وصول وإدراك رمزي لنقطة ما في الذات، في الدّاخل. تعبير عن لحظة نضج سعت إليها الذات في ترقيها الذي يسلك طرقا ملتوية وغامضة… فالذهاب إلى آرل هو مغامرة داخليّة، مغامرة الوصول والتكشّف على ذاك الجانب من الذات الذي يظلّ عصيّا عن الظّهور، وإذا ما تبدّى يكون الإنسان قد تحول من حياة إلى أخرى، وكأنّه قد مارس طقس عبور جعله في عالم آخر، طقس هو مكابدة جغرافيّة وروحيّة في الآن، وربما هروب من مأساة وقعت في ماضيه.. وهنا يتمّ التطهّر من هذهالمأساة برفضها أو تقبّلها والرّضا بها، فكل من جاء آرل من هؤلاء كان من المرضى او ممن تعرض إلى جرح عميق في طفولته مثل غابي ولوزنتسو…

أم هي رياح الميسترال التي تبعث الجنون والتي تهبّ على المدينة في شكل دوريّ، وإذا ما هبّت فهي تتغلغل في طيّات نفوسهم حتّى أحلامهم، وتفعل شيئا في هويّتهم، أم هي الرّغبة في الضياع كما ضاع من قبل فان غوغ، هنا اكتشف الشّمس في أعماقه وهنا أضاع عقله وقطع أذنه، ورقد في مستشفى الربّ أو العناية الإلهية الذي إذا ما زرت باحته وجدت الحديقة وقد أعيد تنسيق زهورها كما كانت قبل قرن من الزّمان، بيد أنها لم تعد تنتمي إلى عالم فان خوخ الكوكبي المتوتّر بل هي صورة مسخ لا تنتمي إلى عالم الطبيعة ولا إلى عالم الفنّ، صورة ميّتة كأشياء المتاحف.

لعلّه نداء فان غوغ الصّامت الذي ما يزال يتردّد سرّا في جنبات المدينة. نداء، لا تسمعه سوى طيور الرّون اللّيليّة أو الرّضيع الذي لمّا تنبت أسنانه بعد.

***

في غبش البكور بين الليل والنّهار تتذكر عندما كنت تستيقظ على صيحة العصفور الأولى، تكون غابي نائمة، ويتحرّك القط آغريبّا يتبع خطاك إلى الباب تفتح له الباب ينفلت سريعا إلى الشّارع وتصعد أنت إلى السّطح في حركة مخاتلة، هادئة بدون أن تحدث أيّ نأمة تعبر غرفة الطابق الأوّل الباروكيّة حيث تنام غابي الغرفة التي تبدو في الظّلمة بأطر لوحاتها المذهّبة وصورة نابليون بونابرت وأثاثها القديم والستائر الحمراء القانية وكأنّها مذبح كنيسة صغيرة… تواصل الصّعود إلى الطابق الثاني حيث المرسم والمكتبة ومنه تصعد إلى السّطح، تجوز الباب الحديدي ويلفحك برد الصّباح، وتلتفت إلى النّاحية الغربية تعبر بنظرك سطوح القرميد البروفانسي الشبيه بالقرميد الأندلسي في قرى الشمال التونسي في مدينة تستور، وتلتفت ويتعرّى المشهد الشامل للمدينة والنّهر كما لو كنت تراها من خلال عدسة كاميرا عملاقة؛ كاميرا تتحرّك بشكل دائري بطئ نحو الأفق عابرا بنظرك السطوح حتّى قبّة دير الرّاهبات ومتحف التّريانون، بعض النوافذ المضاءة، وتمضي من هناك ساهما تتطلّع إلى مياه النهر الدّاكنة المنسابة في صمت آخر الليل، وإلى الضفّة الأخرى وإلى الأفق المزيج من زرقة وخضرة غامقة، هناك أشباح البواخر النهريّة راسية، ومن خلفها على الضفّة المقابلة صفّ أشجار السّرو ثمّ المقبرة ومن بعدها الحرج الكثيف حيث يخيّم غجر آرل في عرباتهم البيضاء… وفي البعيد أعمدة الكهرباء ما تكاد تبين، وعلى يمينك الجسر والمتحف، وتتأمّل أن هذه المدينة التي كانت تابعة في زمن ما للأمبراطوريّة الرّمانيّة المقدّسة، تابعة للأراضي الجرمانيّة، ثمّ مرّت في عصر كانت فيه عاصمة مقاطعة بلاد آرل، ولها مع تونس والجزائر تبادل تجاري وتبادل أسرى قصص كثيرة لمسلمين أسروا هنا ولم يجدوا من يبادلهم، منهم من تنصر، وتزوّج وعاش هنا، ومنهم من احتفظ سرّا بدينه كما فعل الموريسكيون في الأندلس في تلك الأزمنة حيث احتفظوا بالقرآن، وبعباداتهم في دهاليز وأقبية بيوتهم خوفا من محاكم التّفتيش… قصص كثير تمتلئ بها مكتبة الصديق فيليب ريغو الذي ظلّ يلازم أرشيف مرسيليا… وأذكر ذات ليلة وكنّا في صالون بيته قرأ علي نصّا يصف الاستقبال الفخم الذي حظي به خير الدين برباروس لدى وصول مراكبه إلى مرسيليا…

   ***

الفصل الثاني

آرل المدينة التي ولدت من المياه والرّياح

ها أنا أعود إلى آرل… 

هناك رابط ما، رابط سرّي يشدّك إلى المدن اللاّتينيّة المفتوحة على العالم في مواجهة المدن الأنكلوسكسونيّة ومدن الشمال الدّاكنة والمغلقة تماما كغاباته… أستثني فيينا وأمستردام اللتين تبدوان لي في إشراقهما السّعيد وكأنهما مدينتان متوسطيتان زرعتا في الشمال… فيينا التي تنتمي للعالم الجرماني ولكن بدون تلك الرزانة وذاك الجدّ الألمانيّ وأمستردام التي هي فينيسيا الشمال برسوم عصر نهضتها التي تلقاها في الرايكس موزيوم، وقنواتها التي لا تنتهي، وبنايات شوارعها الرّاقصة في المياه وقواربها الزاهية… أذكر، في أوّل زيارة لها وكنت جالسا ليلا أسمر في شرفة بالدور الثاني أو الثالث مع بعض الأصدقاء فإذا بي ألمح فجأة باخرة تدخل المدينة، تمرّ من أمامنا عبر البنايات، باخرة بيضاء كبيرة بأبراجها وصفوف كواها المستقيمة المضيئة؛ تمرّ صامتة، هادئة تحت نجوم ذلك الليل الهولنديّ البعيد، كأنها تمخر الشارع؛ بدا المشهد عجائبيّا، مشهد مسرحي، فنحن في ظلام الشرفة والباخرة تمرّ صامتة فوق الرّكح المضاء… ثمّ، وبلمحة بصر، أحسست أنّي في مدينة بحريّة… أو، كأننّي داخل بطاقة بريد بالأبيض والأسود لأحد المصورين الفوتوغرافيين… يا إلهي كيف يرتقي الواقع ليصير عملا فنيّا… أجل، الواقع أيضا مثل العمل الفنّي هو حقيقي وغير حقيقي في الآن… آه لقد فقدنا النظر للعالم مباشرة والإحساس بحضوره المباشر في النّفس، صار الفن من فوتوغرافيا ورسم وسينما ورواية يقف بيننا وبين العالم، يكيّف نظرتنا، باختصار صرنا نرى العالم من خلال الأعمال الفنيّة التي يكتظ بها وعينا وتحتشد بها ذاكرتنا المرئيّة واللغويّة، صار العالم شبه افتراضي… ومن يومها ارتبطت أمستردام في ذهني بالبحر المتوسّط…

أجل، للعالم هويّتان واحدة موضوعيّة لا ندركها مطلقا، وأخرى ذاتيّة وهي التي نؤسس عليها وجودنا ورؤانا للعالم… لعلّ شيئا من منطق الحلم اللاّعقلاني يكيّف نظرتنا ممّا يضفي على الوجود البشري ذاك السحر… وهي الصور الفاعلة في وجودنا وبالتالي في مصيرنا…إذن الأسطورة هي التي تصنع التاريخ؛ والتاريخ ليس سوى حلم طويل لا ينتهي…

   ثمّة رابط سرّي يشدّك إلى المدن اللاّتينيّة التي تحكمها جدليّة صلابة الحجر وليونة الأضواء؛ وهي، لا فرق بينها كبير إن كانت مدنا داخليّة أو نهريّة أو على البحر… كلّ المدن التي مررت بها من رومه إلى فيتاربو، إلى ميلانو، إلى مرسيليا، إلى أفينيون، إلى أوكسيير، إلى ليون، إلى باريس، إلى مدريد إلى سلمنكة إلى برشلونة، ثمّة قاسم يجمع بين هذه المدن اللاّتينيّة وهو احتفاؤها بالحجر وتلك العمارة المنفتحة على العالم الخارجي، على أضواء السماء… وأنت ما تزال تحتفظ في ذاكرتك وروحك بتلك الأضواء الرّومانيّة المتوسّطيّة الناعمة، أضواء المساء البرتقاليّة والحمراء القانية منعكسة على صفحة نهر السين الزرقاء الرماديّة قبل الغروب في حي الشاتلي، أو فوق زجاج نوافذ الحيّ اللاّتيني أواخر الربيع عندما يطول النهار حسب التوقيت الصيفي وتقفر الشوارع، هي أضواء سلمنكة الاسبانية على صفحة نهر التورميس وفوق جدران كاتدرائيتها الحجرية الصفراء أضواء آرل على نهر الرّون بلونه الرصاصي والمنساب في البكور أو العشايا وأنت تتطلع إليه خلل أشجار الدلب والأوكاليبتوس الكبيرة من سطح بيت غابي.

 

أجل، هناك رابط سرّي يشدّك إلى المدن اللاّتينية الصاخبة، تلك المدن الديونيزوسيّة الحسيّة السعيدة. مشاهد المراقص والحفلات العامّة في الشوارع والساحات وأكشاك الموسيقى وألعاب البهلوانات الذين يطلقون النيران من أفواههم. مشاهد لا تخلو منها مدينة فرنسية… وفترينات المخازن الزّجاجيّة المضاءة في مدن أوروبا والناس الهائمة على وجوهها فوق الأرصفة وفي حدائق التويلري كما نراهم في فوتوغرافيا آخر القرن التاسع عشر بقبعاتهم ومطرياتهم السوداء أو في حديقة الليكسمبورغ… رجال ونساء يدورون فرادى أو مع أطفالهم وحيواناتهم الأليفة… تلك المشاهد التي صورها رسامو آخر القرن التاسع عشر من التعبيريين: مشاهد مونمارتر وكورنيش مدينة نيس: في لوحات رونوار، وماني، وموني، وبرنار دوفي وإدغار ديغا بحسية رسومه التي تحتشد بالخيول وراقصات الباليه… وموانئ سيزلي التي تكتض بالقوارب فتبدو غابة من الصّواري… مشاهد الناس في الشوارع الصاخبة، وفي المقاهي والمشارب والبارات الضاجّة بالأصوات والدخان المرتفع…. نفس الأماكن صورها وفي نفس الحقبة تقريبا رافع رفاعة الطهطاوي في كتابه الديوان النّفيس أو تخليص الابريز في تلخيص باريز وبدا له هو الإمام الأزهري المتحفّظ شاذّا ذاك الطبع الفرنسي المنفعل والضّاجّ في المقاهي والمشارب، ذاك الطبع المتقلب بسرعة كما لاحظ من الفرح العارم إلى الغضب العارم…. الشارع في هذه المدن نشيد دينامي من الألوان الزاهية والصّخب: ستارات المقاهي المخططة الألوان وأرصفتها برساميها الشوارعيين وعازفي الأكورديون والحواة… موسيقيون من آسيا وأميركا اللاتينية… الساحات العامّة المبلطة وريثة الأغورا Agoraالإغريقية حيث يلجأ الكلوشارات والعشاق إلى الكراسي العامّة التي غناها جورج براسانز، وساحات الكنائس Les parvis حيث يتلكّأ الناس بعد خروجهم من الكنيسة أيام الآحاد، المماشي التي تعبر الحدائق العموميّة، حدائق رومة وميلانو ومدريد وفرساي، تلك الحدائق الفرنسية ذات الأشكال الهندسيّة، حدائق السيّد لونوتر وهي حدائق ديكارتية ذات تقسيم هندسي صارم، تضبط وتتحكّم في مساراتك داخلها، على نقيض الحديقة الانكليزيّة أو الحديقة الفارسيّة اللاّنهائيّة الألوان تماما كالمنمنمة والتي تأخذك سرّا عبر أضواء زهورها وورودها البابليّة القانية وتدفق مياه نوافيرها إلى معارج الروح؛ ولا عجب أن كلّ مراقد شعراء إيران هي حدائق سعيدة يبدو فيها الموت استمرارا سرّيا للحياة، استمرار ذو غموض شاعري يربط الإنسان بالأبديّة… وحيث تلك العصافير الممتزجة بالماء والتي لا ندري من أيّ شفق وُلدت.

***

بيد أنّ ما يشدّك إلى مدينة آرل، مدينة الرّياح في إقليم البروفانس جنوبي فرنسا شيء يتجاوز هذا الرابط السريّ، فقد عشت فيها فترات كثيرة من حياتك وارتبطت بصداقات هناك… كانت آرل في ذهني قبل أن أزورها مرتبطة بأسطورة فان خوخ، كان هناك إحساس شاعري يهزني كلما فكرت بأني سأذهب إليها قريبا وأنّي سأقيم فيها في المركز الدولي للترجمة الأدبية، وأنّي سأجول في تلك المغاني التي جال فيها فان خوخ، هناك قطع أذنه ليقدّمها هدية لامرأة لم تحببه، هكذا تقول الأسطورة التي قرأت وصدّقت وفي مرّة أخرى وضع كفه فوق شعلة شمعة وترك لحمه يحترق ليبرهن عن حبه لامرأة كانت معه في إحدى مقاهي آرل، لعلّه المقهى اللّيليّ الذي رسمه… قايضها جادّا: لن أرفع يدي عن النار حتى تبوحين لي بحبّك…

فكنت آخذ كتاب رسائل فان خوخ وهو عمل أدبي راق من الرفّ لأقرأ رسالة أو رسالتين إلى شقيقه ثيو يحدثه فيها عن حياته في آرل، وفي سان ريمي يحدّثه عن الفلاحين، وعن عذاباته وآلامه واضطراباته النفسية، ثم أتوقف عن القراءة لأمضي بعيدا في أحلام يقظة لا تنتهي، أغرق في الخيال حيث أرى مشاهد الريف الفرنسي، حياة الفلاحين، الغابات والبحيرات الزرقاء والطواحين والجسور على الأنهار والرعاة مع قطعانهم والبيوت الريفيّة المتناثرة قي الآفاق الزّرقاء بقرميدها الأحمر والدخان المتصاعد في البعيد من مداخنها… وتلك الأبقار تكرع الماء على حوافّ الغدران والسواقي وفي خلفيتها بيوت الفلاحين الحجريّة الخربة التي تكثر في رسوم عصر النهضة والتي تذكرك بقصة بول وفيرجيني… وكالعادة كنت ضحيّة صور ومشاهد رسوم رومنسية كنت رأيتها في طفولتي على الزرابي الحائطيّة في بيوت تونس وكانت لنا زربية تغطي الحائط بأشجارها وغيومها وفرسانها الرافعي غداراتهم إلى السماء وحيوانات وغدران في البعيد. أذكر كم كنت أحلم بتلك المشاهد وأوغل داخل الزربية ولا أخرج أبدا. بعدها بسنوات طويلة رأيت نفس المشاهد أو شبيهة بها في أعمال الرسام الفرنسي أوجين دي لا كروا… أجل هي صور جاءت مع الاستعمار الفرنسي لتزاحم رسوم الأنبياء التقليديّة التي نرسمها على الزجاج… مشاهد لنساء في قوارب خيالية في بحيرات أمام فيراندات ذات أسيجة من الرخام وغابات تعبرها الأيائل والطيور والفرسان؛ باختصار صور رومانسيّة خليقة بقصص من أمثال عذابات الشاب فارتر وغادة الكاميليا. وعندما ذهبت إلى آرل الحقيقيّة اكتشفت أنّي كنت ضحيّة تلك الرسائل وضحية خيالي الرومانسي في المقام الأوّل…

اكتشفت أن آرل لم تكن على هذه الصورة وأنّها لم تكن مرحبة بفان خوخ، بل كتب الأهالي عريضة يطالبون فيها السلطات بحجزه في إحدى المشافي. وتقدمه المعمّرة الأرليزية جان كليمون التي عرفته في طفولتها، في سن الثالثة عشرة في صورة بشعة في الذكرى المائوية لمروره بآرل والناس تحتفل بذكراه.

 تقول جان كليمون: عندما كان يأتي لدكان أبي لشراء قماش لوحاته كان يبدو رجلا سيّء الهندام والخلق، وسخ بشع وغريب الأطوار. فكنت أهرب لدى رؤيته

هكذا كانت صورة فان خوخ في الحياة اليوميّة لدى أهالي آرل… وهذا أمر عادي، فالفنان الحق نادرا ما يقبله معاصروه ترفضه المدينة وذاك شرفه ومجده… أليس أفلاطون من قال يظل الفيلسوف خارج المدينة حتّى يغيّرها.

خرجت من محطّة القطار ومضيت في اتجاه النهر ثم حاذيته بعض الوقت في اتجاه الجسر الذي هدمته الطائرات الأميركية في الحرب العالمية الثانية 1944، لم يبق من الجسر سوى بوابتيه على الضفّتين، ألمح من بعيد الأسدين الحجريين على مدخله في البرّ وكأنهما يسبحان في السماء الزرقاء، آه ها أنا مرّة أخرى في آرل بأزقتها الملتوية أسير كما هو شأني على رصيف الرون الحجري والريح تجعد سطح المياه الماضية أبدا أفهم لماذا شبه هيراقليطس حركة الزمن بحركة النهر

 في الضفة الأخرى ألمح أشجار الدلب والكالتوس والسرو والمقبرة الحديثة ثمّ خطّ الأفق، وبلحظة وأنت تقترب من الميناء النّهري السياحي تلمح تلك الباخرة النهريّة الرابضة على الرصيف، بغرفها المضاءة بالأباجورات ومطعمها على السطح تتذكر كلّ أولئك المجانين التي كانت أوروبا القرون الوسطى تتخلص منهم بوضعهم في القوارب، فقد كانت الناس تعتقد أن مياه البحر مطهّرة من السحر والجن الذي يسكنهم، بيد أن هذه الباخرة النهرية لا تحمل مجانين، هي عبارة عن فندق عائم يحمل سياحا من ألمانيا وجينيف وصلوا إلى آرل عبر الخطوط النهريّة جاؤوا من أجل ملاقاة الشمس… وبلحظة تحس بنعمة ذاك الضوء السّعيد الذي يختلط عليك فلا تدري هل هو صاعد من الدّاخل، من أعماقك أم من التماعات سطح النهر أم هو في الأجواء الأثيريّة التي تحيط بك: الريح الهيّنة تهزّ أيك القصب النابت على حافة نهر الرّون الذي ينساب في هدوء عميق، هدوء راسخ وقديم مثل سيلان الزمن… ثمّ انعكاس أضواء الشمس على زجاج نوافذ البيوت التي على الرّصيف كما على نوافذ دير فرسان مالطة الذين كانوا يحلمون باستعادة القدس من المسلمين… دير فرسان مالطة بواجهته الحجريّة الصموتة وجدرانه السميكة الشبيهة بجدران القلاع… كلما مررت من هناك تذكرت قصة الأمير العربي الذي مرّ بآرل وترك فيها كنزا مدفونا لا يعرف مكانه أحد، ومازال الناس يبحثون عن هذا الكنز. فقد كانت آرل في تلك الأزمنة ومناطق كثيرة من جنوب فرنسا عرضة لهجمات فرق العرب الأندلسيين أو ما يسمّى في أدبيات القرون الوسطى اللاتينية بالسّارازان… Les Sarrazin

 تذكرت قصص الأسرى المسلمين الذين اقتنصهم القرصان وقضوا بقية حياتهم هنا… قصص كثيرة مثيرة تكتظ بها المخيلة الشعبية… وهناك جدارية كبيرة في دير سانت تروفيم تصور بعض الكرادلة الأرليزيين وهو يبادل أسرى مسيحيين مع العرب…

و دير الرهبان الذي انتزعته الثورة الفرنسية من الكنيسة وانتهى بيتا لصديقي جيرار لو بوا الاركيولوجي المأخوذ بالبيوت والعمائر القديمة… والجسر الذي يصل المدينة بحي تانكتاي والذي رسمه فان خوخ ودار النشر آكت سود لصاحبها الكاتب والناشر اليهودي البلجيكي هيبرت نيسان… عرفت نيسان في زيارتي الأولى عندما جاء في ذلك المساء الخريفي إلى المعهد لحضور حفل التعارف على المترجمين كان اللقاء دافئا كنت معجبا في الأول بإنجازه ككاتب وناشر رائد ورجل تقدّمي ذو أفق إنساني إلى أن قرأت بعد سنوات في تونس يومياته حيث يروي عن إقاماته في الكيان يومياته التي تنضح بحس صهيوني يتنافى مع كلّ هذا الخطاب التقدمي والإنساني الذي يسوق به نفسه لدى مثقفي العالم لعربي وخاصة العرب… وهذا شأن كثير من الكتاب والشعراء في الغرب تجد الواحد منهم تقدّميا ديمقراطيا لايكيّا حداثيا معاديا للأديان وما أن ينتقل الحوار إلى الكيان الإسرائيلي وإلى الاديولوجيا الصهيونيّة حتى ينقلب هذا الكاتب أو الشاعر الحداثي على كلّ مبادئه في تناقض فاضح ليتحوّل إلى رجل من أقصى اليمين يؤيّد دولة دينية استعمارية تتخذ لها اسم نبيّ، تمارس الأبارتايد باختصار تمارس التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، تهدم البيوت على أهلها وتقتل الأطفال بالفوسفور دون أن يرف له جفن أو يشعر بأيّ تناقض في مواقفه بين درس فولتير والتنوير الذي يريد تسويقه لدى تلاميذ فرنسا من الفرنكوفونيين من أبناء المستعمرات المغتربين ثقافيا وبين عقيدته في هذه الدولة الدّينية الخارجة على القانون كما يصفها الكاتب الألماني غنتر غراس. وتكتشف أنك أمام أمام شخصية ليكودية متسربلة بالحداثة متخفية وراء الجنسية الفرنسية

و قد تركوا هذا الازدواج لدى كثير من تلاميذهم في المستعمرات القديمة من الفرانكوفونيين التونسيين والجزائريين والمغاربة واللبنانيين العاجزين على بناء موقف فكري مستقل عن موقف السيد المستعمر. بل صار بعضهم يدافع علانية عن الدولة الصهيونية الدينية !!! ويدعوا إلى لايكية كولونيالية داخل بلاده، لايكية هي خلطة جاهزة من صيدلية الثورة الفرنسية يعالج بها تاريخه. لايكية غير موجودة في ثقافة وذهنية شعبه.

***

و بيت ميراي في البعيد تلمح بيت ميراي الذي يلقاك في زاوية شارع سافوريان مع كورنيش لاروكيت، ماتت ميراي فجأة ذات شتاء. فقط الأم روزيتا استمرت في هذه الزاوية كجزء من المشهد تجلس فوق تلك السطيحة المرتفعة قليلا عن الأرض كما هو شأنها في العصارى… روزيتّا إيطالية مهاجرة جاءت إلى آرل بعد الحرب مع زوجها البوليتاري جيوفاني، إذ كانت آرل قد عرفت موجة مهاجرين من العمال المياومين الايطاليين والاسبان حوالي 1850مع بدايات ظهور السكة الحديد وسكنوا حيّ لاروكيت في طرف المدينة على الرّون، ثم، وفي الخمسينات من القرن العشرين أعقبتهم موجة من المهاجرين العرب، من حركيين جزائريين وعمّال مغاربة وتونسيين… يجيئون عادة في الخريف في موسم جني الكروم في الحقول المحيطة بآرل… وفي آخر السبعينات جاء أو قل التجأ إلى آرل من أماكن قصية في أوربا وأميركا ما كان يسمّى بشباب ماي 68 القلق… جاء بعد الثورة آخر السبعينات وأوائل الثمانينات، جاء وهو يناهز الأربعين، جاء منكسرا في لحظة إحباطه وضياع حلمه… فالثورة هي الثورة وعابرة بيد أن النظام هو النظام وراسخ. والنظام هو القاعدة والثورة استثناء ولكنّه استثناء ضروري.

شباب ثورة ماي الحالم والمحبط من الثورة منح المدينة سمتا آخر أدخل دينامية على حياة المدينة بدل تلك الجهامة الكاثوليكية والسمت الجدي للبروليتاريا المتعبة… اكتمل البناء الفسيفسائي للمدينة المتشكل من عائلات أرليزية عريقة ومهاجرين أسبان وايطاليين وعرب شمال إفريقيا وأخيرا طلبة المدرسة القومية للتّصوير الفوتوغرافي.

***

… و أعود إلى  روزيتّا من المهاجرين الايطاليين الأول عجوز تناهز الثمانين تتكلم الفرنسية بلكنة إيطاليّة وأثناء الكلام تنتقل إلى لغتها الأم دون أن تدري، وهي تعتقد أنها ما تزال تتكلم الفرنسية… آه لروزيتا وهي تتذكر بكثير من الحسرة أيام شبابها: كنت جميلة جدّا وكان الشباب يطاردونني… يحاولون لمسي وتشير بيدها إلى صدرها وتعقّب: آه كم كان رائعا ذاك الزمان… لقد مضى، مضى الشباب… آه يا للشباب… وأسالها هل أدركت موسليني في إيطاليا أيام الحرب… كم كان عمرك

؟ وتقول آه موسولّيني… موسو ليني رائع، رائع… أنا أحبّ موسو ليني… كنت صغيرة في رومة عندما رأيته في الساحة العامّة وهو يخطب على الشعب من شرفة قصر المدينة ويحيي الشعب… موسو ليني طيّب… طيّب موسليني طيّب جدّا… كان يحب الشعب، كان يحبّ الفقراء…

وتغوص روزيتّا من بعدها في اللغة الايطالية ولا أستطيع متابعتها وأريد أن أسألها ماذا تقول ولكنها تستمرّ في مونولوغ لا ينتهي… وهي تظنّ أنّي ما أزال أتابعها. هكذا هي مشاعر روزيتا شعبية بسيطة وصادقة ولا بدّ لي أن انزع من دماغي كلّ تلك الأدبيات السياسية التي قدّمت لنا موسوليني كفاشي فقط… وأدركت تلك اللحظة كم البون شاسع بين الحقيقة المعاشة، بين مشاعر الناس الحقيقية في لحظة تاريخيّة ما وبين تلك التصنيفات الاديولوجيّة التجريدية وما يكتب المؤرخون.

أما جيوفاني زوجها فنادرا ما كنا نراه، فهو ومنذ سنين طويلة يغادر بيته في الفجر للصيد صيفا كان الفصل أم شتاء ونادرا ما ألقاه وهو يدخل أو يخر ج من بيته منحنيا حاملا قصبة وأدوات الصيد لا يتطلع إلى أي كان ولا يحيي أي كان… ظلت صورته لسنوات صورة ذاك الرجل القصير الذي يسير في انحناءة كبيرة إلى أن توفي ودخلنا بيته للعزاء فإذا بنا وهو مسجى على فراش الموت نكتشف كم كان طويلا… طويلا ورجلاه تكادان تتجاوزان السرير…

***

أحبّ أن أزور آرل في الخريف هكذا تعود صورتها إلي وأنا في عزّ صيف تونس أو جالسا في إحدى مقاهي الحي اللاتيني في باريس استعيد صور شوارعها الخالية والزرقاء التي تجتاحها ريح الميسترال كما تهب على ساحة الجمهورية وتعبر الأزقة وتزيد الجوّ وحشة رومانسيّة… يأوي الأرليزيون إلى بيوتهم؛ لا أحد في الشوارع سوى القطط وبعض من تخلف من السياح اليابانيين والأمريكان تلقاهم في الشوارع المحيطة بساحة الجمهورية قريبا من متحف التريانون وأمام بوابة كنيسة القديس تروفيم ذات النحوت الأخرويّة وكأنها تجسيم حجري لجحيم دانتي من قبل أن ينحت رودان جحيم دانتي في بوابته العظيمة في كاتدرائية ميلانو، هكذا كانت كنيسة العصر الوسيط ترهب الناس بالنيران الأبديّة… أو تراهم ( هؤلاء السياح) يجلسون في جماعات على أرصفة مقاهي شارع ديليس الذي يلف آرل القديمة… يمنحون المدينة شيئا من احتفاليّة الصيف الذي يمضي إلى الاضمحلال وسط رياح الميسترال التي تهزّ الأشجار وتدفع بأوراق الخريف الصفراء في زوايا الأرصفة وتموّج سطح الرّون النيليّ…

وتأتي غلوريا ونسير قرب الليل في جادة ديليس تختلط النجوم التي في الأشجار بأضواء المحال يشتعل الشارع بأسره نمرّ من أمام حديقة المسرح الروماني مبتعدين عن قلب المدينة حيث تبدأ الظلمة وحيث تمثال فان خوخ وذاك النبع الرومانسي المختفي بين الحجر وتحت شجرة اللبلاب المعترشة في جداره… هنا مرّت أجيال من الشعراء والكتاب الرومانسيين… أشعار كثيرة أنشدت في ظلال هذه الأشجار وتحت أقمار فرنسا الباردة منذ القرن الثامن عشر، من أيام روسو وروايته وهيلويز الجديدة التي دشّنت العصر الرّومانسي… لا أدري لماذا يذكّرني هذا المشهد كلما مررت به برواية آلام الشاب فارتر للشاعر الألماني غوتة، فأرى شابّا طويلا نحيلا ضاربا إلى صفرة بذقن سوداء خفيفة وقبّعة سوداء مستطيلة وعصا في يده تحت شجرة زيزفون وهو يبوح بحبّ يائس إلى حبيبته التي لا تأبه بكلّ ما يقول… ويسيل الدمع في صمت على وجنتيه…

واستمرّ النبع في الوعي الأوربي فضاء شعريا… كان ريلكة أيام إقامته في باريس يذهب إلى ذلك الركن الداكن والخفي من حديقة اللوكسمبورغ ليجلس قرب نبع ميديسيس متأمّلا تماثيل الآلهة الإغريقية الموزعة في الحديقة كما كان يفعل من قبل الشعراء جيرا ردي نرفال وبول فيرلين وتيوفيل غوتييه… كان معاصروهم من الشعراء العرب يعتمدون على الذّاكرة والحفظ والتّمكّن من اللغة لصياغة شعر جزل أكثر ممّا يعتمدون على التجربة…

آه ! آرل حديقة المسرح الروماني والسور الذي يحضن المدينة وبوابة الفرسان وهي البوابة الرئيسية للمدينة… هناك في المنعطف مرتفع حجري يقع فوقه ما تبقى من آرل الرومانية سور المدينة وبوّابة أغسطس وبرج المورغ. في هذا الموقع شيّد أوّل دير للنساء في أوروبا في القرن السادس ميلادية… وعلى هذه الصّخرة أيضا تقع كنيسة سيدة الماجور التي شيّدت في القرن الثاني عشر هي اليوم المقر الديني لأخويّة الحرّاس من الفلاّحين؛ يأتون إليها كل سنة من الأرياف المحيطة، من الكامارغ وفونفياي وسانت ماري دو لامير يأتون بخيولهم القديمة وأزيائهم الفلكلورية السوداء لزيارة الكنيسة وتأدية شعائرهم ونذرهم للقديس غريغوار حتى يبارك خيولهم. قال لي لورنتسو وقد أخذني في ظلال ذاك الصباح إلى مضانّه السريّة في آرل القديمة: أحب هذه الكنيسة كنيسة أخويّة الحراس ولكن نادرا ما أجدها مفتوحة ثمّ عقّب أحب أن أرسمها باستمرار… كان، وكأنّه يعيد سرّا سيرة رسامي البروفانس سيرة سيزان الذي ظل يرسم أضواء جبل القديسة فيكتوريا في كل أوقات النهار

كانت بوابة أغسطس هي الحد الفاصل نهاية العمران، المنفذ الذي تغادر منه الناس المدينة وتنحدر إلى الريف الذي صار اليوم عمرانا فقد امتدّت المدينة خارج الأسوار… من هذا المرتفع أيضا نشهد المقبرة خارج المدينة، هناك بعيدا عن عالم الأحياء، كان الرومان يفصلون عمرانيا بين عالم الأحياء وعالم الموتى أو مملكة الموتى؛ على نقيض عمران الإسلام المتصالح مع الموت حيث تجد مراقد الأولياء ومدافن الملوك والسلاطين في التّرب داخل المدينة كما هي تربة الباي في تونس حيث يرقد ملوك العائلة الحسينيّة، وتربة سلاطين آل عثمان في حي جامع السلطان أحمد في قلب اسطنبول بل تجد كثيرا من الأولياء والصّالحين يدفنون في بيوتهم في القيروان وفاس والقاهرة المعزيّة.

هكذا تجد الأليسكوم او المقبرة الرومانية بممرها الطويل مقصيّة في مجال منعزل عن المدينة خاص بالموتى، تقبع هناك بتوابيتها الحجريّة المصطلح عليها بالساركوفاج وبكنيستها الصغيرة وقد خلدها دانتي في قصيدة الجحيم من الكوميديا الإلهية… كان فان خوخ يجيئها صحبة غوغان ليصوّرا دربها المحاط بأشجار الصنوبر قبل أن يتخاصما ويفترقا… غوغان أوغل مع البحّارة نحو الجنوب، نحو الشمس حتى جزر الماركيز في تايتي بأضوائها وألوان زهورها الوسيعة وطبيعتها المداريّة الوافرة ونسائها الدافئات بعيدا عن الحضارة كما يقول هو، كان ارتحاله عن أوروبا بلا عودة مثل رامبو… وغرق فان خوخ في سوداويته المظلمة التي مضت به إلى الموت…

في رسالة لأخيه ثيو بتاريخ نوفمبر 1888 يصف لحظات عمله داخل هذه المقبرة الرومانيّة:

…أعتقد أنك ستحب مشهد سقوط الأوراق الذي رسمته. إنها جذوع الحور رسمتها بلون الليلك، يقطعها إطار اللوحة حيث تبدأ الأوراق، أشجار الحور تحفّ الممشى الذي تصطف على يمينه ويساره قبور رومانية قديمة جعلتها هي أيضا بلون الليلك الأزرق، والحال أن الأرض مغطاة مثل السجادة بطبقة كثيفة من أوراق الشجر البرتقاليّة والصفراء المتساقطة كندف الثلج وهي ما تزال تتساقط باستمرار…

أحبّ أن أعود إلى آرل في الخريف وأن أذهب إلى مقهى الفوروم في الصباح الباكر قبل أن يأتي العجوز الغجري… وأن اتأمّل ساحة الفوروم في صمت الصباح الرمادي، أذكر لسعة البرد الخفيفة، نور الصباح الطالع يمتزج بهواء الخريف خلل أشجارها العملاقة أفتح كتاب خطاب إلى غريكو ما أكاد أتمّ الصفحة حتّى أعود إلى تأمّل أشجار الدلب التي تحيط بالساحة وتمثال فريديريك ميسترال شاعر المدينة وفندق بينوس الشمال ومقهى فان خوخ هو أيضا مثل حديقة المستشفى أعادوا طلاء واجهته نقلا عن لوحة رسمها للمقهى سنة 1888 واجهة صفراء وحمراء كما هي ألوان عباد الشمس ولكن أين منها ألوان فان خوخ التي يمتزج فيها المادي بالروحي حتّى أنك لا تدري حدودهما… وحيث اللون يصير روحا…

في آرل اكتشف فان خوخ الضوء الذي انفجر في أعماقه مع محبّة غامرة للحياة للبشر عبر عذاباته ما أضفي نبرة رسوليّة على عمله الفنّي… لقد ارتبطت مأساة وأسطورة هذا الرسام الهولندي بهذه المدينة. هنا، وفي حمّة إبداعية رهيبة استنفدت كلّ طاقاته رسم وفي بحر 15 شهرا عددا من الأعمال ما يستنفذ إنجازه حياة بأكملها كان ينجز في بعض الأحيان ثلاث أعمال في اليوم الواحد: حقول عباد الشمس مقاهي آرل الجسور المتحركة في الريف المجاور فلل المدينة وبيوت الفلاحين، رسم حفل الكوريدا في الكوليزي وبرتريهات الأرليزيين وزهور اللوز الشتائيّة البيضاء… رسم مشاهد مدينة سان ريمي التي انتقل للإقامة فيها آخر أيامه في البروفانس، ورسم قوارب شاطئ قديسات البحر المريميات… لوحات نابضة بحياة تعكس اشتعال أعماقه بتلك النار المقدسة وهي نعمة لا يعرفها إلا من اختارتهم الآلهة… من بين أعماله المتبقية آثارها المقهى الليلي الذي ما يزال يحتفظ إلى اليوم بديكوره كما كان أيام فان خوخ، وجسر لونغلوا، ولوحة الليلة ذات النجوم… بيد أنّ آرل لا تملك في متاحفها اليوم ولا عمل واحد من أعماله وكأن التاريخ ينتقم من هذه المدينة التي رفضته بل أقصته من خلال عريضة تقدم بها السكان للسلطات تطلب طرد فان خوخ من آرل… هنا تمر بالأماكن التي ألهمته أعماله لم تتغيّر سوى تلك السيارات وأولئك السياح الذين ينتشرون أمامك ويجعلون المشهد غير حقيقي… هنا قهوة فان خوخ القريبة من مستشفى العناية الإلهية الذي تحوّل إلى مجمّع ثقافي يحمل اسم فان خوخ. يشتمل هذا المجمع على قاعة عرض كبيرة/ ومكتبة المدينة ومركزي الدراسات الجامعية والمركز الدولي للترجمة الأدبية. في هذا المكان نام فان خوخ أيام إقامته في المستشفى ومن شرفته رسم الحديقة القائمة إلى اليوم… أمّا البيت الأصفر الذي رسمه أثناء تلك الإقامة المضطربة والذي استقبل فيه لمدة شهرين صديقه بول غوغان فقد أزيل بالكامل…

رسائله إلى أخيه ثيو شاهدة على عذابات الفنان في تلك الأيام من سنتي 1888 و1889… في مستشفى العناية الإلهية عولج فان خوخ عندما قطع جزءا من أذنه في خصومته مع بول غوغان ولكن الأسطورة تقول انه قطع أذنه بالكامل وقدّمها في اليوم التالي هدية لحبيبته… واليوم يأتي السائح ويدفع ثلاث أورو ليزور متحف هو غرفة فان خوخ وقد أعادوا صياغتها كما هي في اللوحة الشهيرة بيد أنها تقع داخل بيت لم يعش فيه الفنان أبدا.

من مكاني في المقهى أتأمّل فندق بينوس أتذكر أيام عزّه آخر العشرينات من القرن الماضي كان يستقبل الفنانين والشعراء كوكتو وبيكاسو وشارلي شابلن، كان محطة إرنست هيمنغواي في طريقه إلى اسبانيا لحضور مهرجانات صراع الثيران؛ وقد كتب من آرل رسالة إلى صديقه الشاعر ايزرا باوند يقول فيها:

ذهبت إلى البروفانس، واكتشفت أنها ليست مكانا للكتابة. ولكن ما أتمنّى رسمه ! يا إلهي أي شجر سرو جميل… هناك السرو دائما لديهم كما هو أحيانا لدى الايطاليين. حججت إلى ماخور فان خوخ في آرل وإلى مقابر أخرى…

كان ينزل في تلك السيارة العتيدة من باريس نحو الجنوب مع زوجته وصديقه الصحافي الأميركي هتشنر… كانت سنوات المقامرة في سباق الخيل في أوشون بباريس ومدريد… أفراح وصخب وعربدة ديونيزيّة مع الحلقة الضيقة من الأصدقاء، كانت حياتهم كما رسمها هتشنر في كتابه العتيد بابا همنغواي وكأنها استعادة واقعية لعالم غاتسبي العظيم بطل رواية صديقه سكوت فيتزجرالد، عربدة واغتباط وفرح نتشوي وإقبال على الحياة والعالم انتهت بكآبة أدّت به إلى الانتحار… كما انتحر من قبله سكوت فيزجرالد… ثمّة شيء شبيه بالإرادة السريّة في تدمير الذات لدى أولئك الرجال المتفوقي الذكاء… من سقراط إلى فريديريك نيتشه إلى رامبو…

عاصر توفيق الحكيم في باريس حقبة آنييس نين، همنغواي، وهنري ميللر أو ما اصطلح عليه بالجيل الضائع وكان هناك جيمس جويس بيد أنّه لم يعرف تلك الحلقة ولم يستسغ رواية جويس يوليسيس…

آرل هل هي متحف أم مكان أسطوري يثير خيال الفنانين والزوّار. أجل مرّ بها كثيرون، مرّ بها أباطرة الرومان: القيصر قسطنطين الذي تنسب إليه حمامات آرل القائمة إلى اليوم، والأمبراطور سيزار الذي ظلّ تمثاله 16 قرنا ثاويا في قاع الرّون إلى أن اكتشف قبل سنتين. استخرج من قاع النهر ووضع في المتحف… مرّ بها رجال دين كبار قاموا بنشر المسيحية في شمال أوروبا أبرزهم القديس كنتربري الذي جعل الانكليز مسيحيين؛ مرّ بها صعاليك وفنانون وسحرة وجوالون وبروليتاريون. هناك أنجز نوستراداموس الخلطة العلاجيّة المشكلة من أعشاب مختلفة والقادرة على استباق الوباء… وكتب في قرية غورد على مرمى حجر من آرل نبوءاته الشهيرة نظما في شكل رباعيات سجل فيها كلّ الوقائع التي سيشهدها العالم حتّى نهايته.

 

 أحبها بيكاسو ووضع لوحتين و57 رسما لها ما تزال إلى اليوم في متحف آرلتان بالمدينة.

الشاعر الملحمي فريديريك ميسترال صاحب جائزة نوزبل هو باعث أسطورة آرل في القرن العشرين، ميسترال شاعر المدينة كما كفافيس شاعر الإسكندرية والفرق بينهما أن ميسترال اعتنى بجمع تراث المدينة الاثني واللغوي والفلكلوري وأسس متحفا جامعا لها.

 

و لكن من أيّ ليل انبثقت آرل؟ وأين تقع أرضها تبدو هذه المدينة وكأنها ولدت من الماء والرياح من مياه مستنقعات وبحيرات الكامارغ ومن رياح الميسترال التي تهبّ عليها باستمرار …

تقع هذه المدينة الاسطورية في بداية دلتا نهر الرّون تحيطها حقول الخزامى وعباد الشمس وزهور الكولزا أو نبات السلجم، مساحات مشتعلة على امتداد البصر بالأصفر والبنفسجي والأخضر تلك الحقول التي تلقاها في لوحات رسامي البروفانس، المناطق التي تلف بها هي: سهول التريبون ومرتفعات جبال الألبي ونحو الجنوب هناك مدينة سانت ماري دو لامير أو قديسات البحر المريميات وهن قديسات سوداوات… مدينة سانت ماري الواقعة بين المتوسط ومستنقعات الكامارغ الشهيرة بخيولها العملاقة وثيرانها السوداء القديمة يأتون بها لمهرجان الكوريدا الذي يقام في آرل كل ربيع.

عرفت المدينة ومنذ أقدم العصور بهذا الاسم آرل، ومعناه أرض المستنقعات… بنيت على صخرة وسط المياه ورياح الميسترال التي تهبّ عليها في كلّ الفصول… تعود أقدم آثارها لسبعة آلاف سنة قبل الميلاد. كانت في العصور السحيقة ملاذا لقبائل السلت ثم تحولت الى مستعمرة يونانية أيام كان الإغريق ينافسون قرطاجنّة الفينيقية ورومة اللاتينية على الاتجار في البحر المتوسط؛ ولم تعرف ازدهارها الحقيقي إلاّ عندما دخلت ضمن ممتلكات الإمبراطورية الرومانيّة، ومعالمها التاريخيّة ما تزال قائمة إلى اليوم شاهدة على ذلك العصر الروماني الذهبي: المدرّج الروماني أو الكوليزي الذي شيّد حوالي سنة 90 ميلاديّة ويسع حوالي 20 ألف متفرّجا ممّا يعني أن آرل كانت في تلك الحقبة مدينة ذات عمران كبير؛ كما بنى الرومان آخر القرن الأول مسرحا يعرف اليوم بالمسرح القديم تقام فيه مهرجاناتها الصّيفيّة…

وقد أجرى الرومان إليها الماء عبر قناة شيدوها تعرف بالحنايا AQUEDUCS   على بعد 11 كيلومتر. جعلها الإمبراطور الروماني أنطونيوس مقر إقامته عام 395 فصارت مثل رومة مركزا للسلطتين الدينية والروحيّة ولقّبت برومة شعوب الغال. عرفت آرل بعد هذا المجد الروماني السياسي والديني حقبة تراجع تحت ضربات الغزاة العرب التي تعرضت لها أواخر العصر الوسيط بفعل الهجمات العربية التي كانت تجتاح جنوب فرنسا ويطلق عليها غزوات السارازان في هذا العصر المضطرب القرن 11شيدت كنيسة القديس هونوري وهي محطة يتوقف عندها الحجاج المشاؤون في طريقهم الطويلة إلى سان جاك دي كمبوستيل في اسبانيا… وما يزال هذا التقليد قائما إلى اليوم.

 وبداية من القرن 14 نرى آرل تشهد من جديد حركة بناء كبيرة.

 

وأنت تعبر ساحة الجمهوريّة في الصباحات ترى أفواج السياح اليابانيين، وطلبة المدارس تقف يوميا في طوابير لأخذ صور لبوابة كنيسة القديس تروفيم التي تعدّ مع الكوليزي والمسرح الروماني من أهم معالم آرل الأثرية، تقع في مركز المدينة القديمة، وتشتهر هذه البوابة الحجرية بنحوتها البارزة التي تصوّر مشاهد الدينونة وتعد من تحف فن النحت الرومي نسبة للرومانس، ولأهميّة هذه الكاتدرائية وخطورتها فقد ورد ذكرها في الوثائق القرطاجنيّة في رسالة للأسقف سيريانو… وهي شاهدة على عصور الإيمان الأولى، عصور القديسين الشهداء، والآباء الأُوَل الذين عملوا على نشر الدين الجديد في أوروبا؛ كان دور هذه الكاتدرائيّة كبيرا… منها انتشر الدين الجديد في كامل فرنسا ومن ثمة في أوروبا. من هذه الأسقفية الرئيسيّة Primate انطلقت بعثة تبشيرية إلى الجزر البريطانيّة إذ قام الاسقف أغسطينوس كنتربري سنة 597 ميلادية بتنصير ملك وملكة انكلترا وحاشيتهما ومن ثمّة كلّ بلاد الانكليز؛ وما تزال الكنيسة التي تحمل اسم هذا الأسقف كنتربري قائمة إلى اليوم بلندن بوصفها من أهم معالم لندن. وفي هذه الكاتدرائيّة الأرليزية أيضا أقيم سنة 1178 حفل إعلان فريديريك بارباروس أمبراطورا أوّل على مملكة آرل وما جاورها؛ ووضع أسقفها ريمون بولين التاج على رأس الأمبراطور؛ كما توّج في هذه الكاتدرائيّة وبعد حوالي قرنين سنة 1365 شارل الرابع على غرار سلفه.

و في آخر القرن 18 حولتها الثورة الفرنسيّة إلى معبد الكائن الأسمى وبانتهاء الثورة لم تعد هذه الكاتدرائية إلى سالف مجدها.

 

10 هل هي لعنة فان خوخ، من يوم استوطنها هذا الفنان الكبير الذي اشتهر بعذاباته وباضطرابه العقلي صارت تجتذب إليها أنواعا غريبة من البشر من هامشيين وفنانين وأفّاقين وأصحاب أحوال كما نقول عن المتصوفة المجاذيب، أم هي رياح الميسترال التي تهبّ على المدينة باستمرار وفي كلّ الفصول فتصيب الناس بنوع من المسّ، هكذا تقول الأسطورة الشعبيّة من أن ريح المسترال تصيب بالجنون… بيد أن الجنون فنون كما يقال ولعلّ أخطرها وأشقها هو ذاك الجنون السرّي الذي لا نشعر به إلا بعد معاشرة شخص عن قرب ولسنوات، هكذا تقول الزوجة عن زوجها والزوج عن زوجته بعد حياة طويلة من المعاشرة: مجنون. والواقع في آرل لا يكذب هذه الأسطورة فهي تضمّ عددا لا بأس به من النماذج البشرية الغريبة، من مجانين وعاطلين مزمنين، وشذّاذ آفاق كما تقول العرب…

***

في ساحة فولتير تجتمع دزينة من الأجناس من جزائريين ومغاربة وبلغار ورومانيين وإسبان مهاجرين، وإيطاليين وسيزار الخياط الأرمني الذي هو أمّة برأسه، والذي يشكل لوحده الطائفة الأرمنيّة، تجتمع منذالصباح هناك تحت الأشجار التي تظلل الساحة، والشمس تتخللها فتصنع من الأضواء والظلال دانتيلاّ على الأرض… والزوبير وعُمار والرشيد والشاب حسن وألبرتو الرسام البولوني الهاوي، وبوعمّاري يكرعون البيرة أمام المشرب وهم يتصايحون ويتمازحون بفرنسيتهم ذات اللكنة البربريّة،

سيزار

ومن الناحية الأخرى من الرصيف أرى سيزار العجوز الثمانيني جالسا كعادته وهو يقرأ من صحائف بالية بين يديه حكما وأمثلة من التراث الأرمني صار يصطحبها معه هذه السنين الأخيرة حيث ما ذهب كوطن من ورق… قال لي ذات سنة وكان قد ناهز الثمانين وهو يسرد لي بعضا من تلك الأمثلة والحكم وهي كلّ ما تبقى في الذّاكرة من هويّته الأرمنيّة بعد أكثر من سبعين سنة قضاها في فرنسا…

  • نحن لدينا في الشرق الحكمة التي يفتقدونها هنا… أليس كذلك؟! توافقني… ليس لديهم حكمتنا التي تنير الحياة! اسمتع… اسمع هذه الجملة الحكميّة. ويبدأ بسرد الحكمة وراء الأخرى على مسامعي، يقرأ ما دوّنه في تلك الأوراق البالية من كثرة استخرجها وأعادتها إلى جيبه… ويتوقف عن القراءة ويتجه لي بكليته وابتسامة من ظفر بشيء نادر تلوح في وجهه القمري ذي الشوارب الضاربة إلى حمرة من كثرة صبغها:
  • ألا ترى!! ؟ ألا ترى!!!… أنظر استمع إلى هذه القولة ما أروعها… الناس هنا تريد أن تسمع هذه الحكم التي ليست لديهم… ويطلبون منّي أن أقرأها عليهم. نحن في الشرق لدينا فلسفة عميقة يفتقدونها هنا… أليس كذلك أليس كذلك ؟؟!

ويستمرّ في قراءة ما نقله في أوراقه لا أدري من أيّ الكتب من حكم وأمثلة وأوابد مّما هو عام وشائع ومتداول في كلّ ثقافات العالم، بيد أنّي لا أريد أن أقطع عليه متعته بهذا الاكتشاف العظيم فاستمر أصغي إليه بنصف أذني كما يقال وأأمّن على ما يقول وينطق… وأردّد أجل، أجل… نعم… نعم

سيزار إحدى معالم آرل، هو في الآن ذاكرتها وأرشيفها في الأربعين سنة الأخيرة، كلّ فناني فرنسا مرّوا بدكان الخياطة الذي يمتلكه على ناصية شارع 4 سبتمبر؛ مثله مثل رودريغو آخر غجريّ في آرل، غجري بالتمام والكمال، رجل أسمر، رفيع ممشوق وكأنّه نوبي لولا تلك الصفاقة التي تغيم على ملامحه، ولولا تلك الحمرة التي تشوب سمرته الداكنة، ولولا تلك الملابس: القبعة الجلديّة الشبيهة بقبّعة الوستارن في أفلام الهنود الحمر الأميركيّة يعتمرها صيفا شتاءا، وسيرها الجلديّ يتدلّى من تحت ذقنه الرفيع؛ وبنطلونه الدجينز وحذاؤه ذو الكعب العالي وتلك الخواتم الفضيّة والنحاسية التي يضعها في كلّ أصابعه، والقلادات المعدنية بعقيقها الملوّن تلتمع على صدره، تراه واقفا باستمرار أمام بار التبغ في ساحة الفوروم وكأس النبيذ لا يفارقه… وهناك مايكل الرسام الأميركي الذي اختار آرل كمكان أسطوري للرسّامين تراه دائما على دراجته يقودها الهوينا هو الرجل التسعيني… ومارتين الستّينيّة الطويلة الفارهة البدينة ذات الملابس الفضفاضة والخواتم والأساور الملونة الغريبة، التي تجول باستمرار في شوارع وأزقة آرل القديمة بكلابها  11الضخمة الثلاث التي تصطحبها، وتدخلها معها للمحال العامّة من مطاعم ومقاهي ودكاكين والويل لمن يعترض. كانت مارتين في سالف أيامها تعمل محررة صحافية في مجلة باري ماتش بباريس، ثمّ، وفي يوم من الأيام ظهرت فجأة في شوارع آرل بكلابها الثلاث وماكياجها الغريب من أحمر الشفاه والبودرة البيضاء، والكحل البنفسجي حول عينيها الواسعتين، والشعر المصبوغ باللون الأحمر ممّا يضفي على وجهها سحنة المهرج…

وهناك ألفريدو عازف الكمان الكئيب رجل نحيف، طويل أبيض يكاد يكون مسلوب الدم، بطقم أسود حركاته هندسية كما لو كان دمية، وجه مستطيل وأنف معقوف قليلا وشعر اسود فاحم نازل على جبينه، وجه يشبه من بعيد شوبان وفرانز ليست. لا يغادر البيت مطلقا؛ قد تراه مرّة آخر الليل وهو يعبر شوارع آرل مثل ملاك أسود غامض… وهناك ميشال، المثلي الباريسي؛ رجل رقيق في العقد السادس من العمر، وجه أبيض مشرّب بصفرة يعتمر برنيطة إيطاليّة وقمصان ملونة صفراء وحمراء على أطقم ذات مربعات إيكوسيّة، تبدو عيناه اللاّمعتان من تحت البرنيطة وكأنّهما تبتسمان لك ولا تدري هل هو لاعب سيرك أم هو شخصيّة خارجة لتوها من إحدى أفلام الستّينات الايطاليّة المرحة التي تروي قصص الجنوب. رجل يعيش على ريع كراء بعض مفاتيح يملكها، نادرا ما تراه في النهار هو أيضا يخرج بالليل…

في الثانية أو الثالثة صباحا ينقر على زجاج نافذة جيرترود المضاء فيشير إليه الصحب الساهر هناك وراء النافذة بالدخول. يعتذر وهو يطلّ برأسه من فتحة الباب الموارب على الدوام ثم يمرق إلى الداخل وفي يده زجاجة نبيذ… يجلس، ولا تمضي سوى ثوان حتّى يتدخل مباشرة في الحديث الدّائر ومن أوّل جملة يسمعها في الحوار؛ يدلي برأيه بقوّة وكأنّه كان حاضرا مع الصّحب منذ أوّل السّهرة…

أحاديث رثاء الغرب رثاء الانسان الذي نفي إلى عالم افتراضي وأقصي في الآن عن عالمه؛ فالمواطن في هذه البلدان تحوّل إلى خرقة في الهواء تحركها الميديا كيفما تشاء. خرقة خفيفة لا حول لها. الغرب الذي هدم الطبيعة والإنسان وذهب بحس استعماري استعلائي لنهب ثروات العالم غير الغربية… نراه يستعمل الديمقراطية وحقوق الإنسان كشعارات وفي الآن يمارس الإجرام ضد الأرض والإنسان… تذهب جيوشه إلى أركان الأرض الأربعة كما كانت تفعل أيام الاستعمار المباشر آخر القرن التاسع عشر لتقتل الناس في أفغانستان والعراق وإفريقيا دون رقيب فهو الذي يملك قوة المال والعلم والسلاح والإعلام لإخفاء جرائمه عن مواطنيه… شباب يجمع التبرعات لبواخر غزّة ويذهب باستمرار إلى مرسيليا ونيم للمشاركة في التظاهرات المؤيدة لفلسطين، وفيهم من ركب الطائرة إلى القاهرة في تجمع عرف بتجمع ديسمر 2010

كأنّ هذا الجمع وريث لفكر جورج أوروال وهيدغر وأوزفالد شبنغلر ونتشة وهرمن هسه وهنري ميلر والجماعات الفوضويّة في نقده للغرب ولكن دون اغراق في التنظير أو استعمال للمصطلح الأكاديمي هم أناس يتحركون داخل هذه المناخات الفكريّة ولكن اعتمادهم الأساسي على تجاربهم الفردية، على دراما حياتهم اليومية؛ يستخلصون منها أفكارهم ومواقفهم… ولغتهم مباشرة، حيّة؛ تقول معاناتهم دون بلاغة وتجريد وضبابية تجدها لدى منظّرينا.

 

 12 كانت آر ل لبعض هؤلاء مكانا للحلم؛ حلم يقظة طويل أو حلم نهاري كما يقولون في الفرنسيّة؛ إنّها مكان خلاصه أو هكذا يخيّل إليه، فهي إيثاكاه التي ينشدها وفي بلوغها يتحقق مبرر حياته، هي طقس تحوّل، هكذا كانت آرل لهؤلاء الحالمين بالعصافير السابحة في البحر وبالأسماك الطائرة تحت سقوف الكنائس… وهو جيل آخر السبعينات في أوروبا جيل جاء مباشرة عقب ثورة ماي 68، جيل نستطيع أن نقول عنه مخضرم، لا هو من جماعات 68 ولا هو ممّا يليها… وهي آخر موجة مهاجرين بدأت بالهبوب على آرل من أوائل الثمانينات، كان ذاك الجيل قد بدأ يشعر بتبخر الأحلام اليوطوبيّة التي عاشتها أوروبا 68، جيل أحس بقلق عميق هزّ كيانه، ولم تعد باريس أو لندن أو برلين أو ستوكهولم تستجيب لمطالبه الفكريّة والروحيّة… أناس غادروا إلى جبال السيفين، وآخرون استقروا في جبال ساوورج على حدود إيطاليا… هناك من حسم أمره مع أوروبا وذهب إلى الهند وإلى المكسيك وجماعة جاءت إلى آرل… لعلهم أقرب إلى فلسفة أنطونان أرتو وهرمن هسة نماذج بشريّة حيّة شبيهة بشخصياته الرّوائيّة: بطل ذئب البوادي وكنولب، الفرد الذي رفض الانقياد للبرنامج العام الذي رسمه له المجتمع وشق حياته كما أراد ودفع باهضا تلك الحريّة التي يتهدّدنا المجتمع باستمرار بسلبها منّا… آه كنولب الذي انطفأ في الثلج وهو يتأمّل شريط حياته… هكذا أتخيّل لورانتسو نموذج آخر للإنسان الباحث باستمرار عن حريّته والذي ينجز حياته كما لو كانت عملا فنّيّا إنّه يبدعها في القلق والتردّد والرّهبة والإحساس بالمعقوليّة وبالعبث في الآن… والآن وأنا أستعيد وجوههم: برناديت، كلودي، جيرترود، كاثي الاستراليّة فيليب المؤرّخ وفيليب صاحب المكتبة، سيلفي ورفيقها المثقف الثوري الذي يشتغل بنّاءا، إيرينا، آلان النحاة الكحولي غادر أخيرا ليقوم بعمل في متحف سان بطرسبورغ في روسيا… لكلّ قصّة جديرة بأن تروى، جيسلان التي أضاعت قطتها في غابة وهي عائدة من زيارة والدتها في شمال فرنسا يدأت بأن وضعت صورة القطّة في الفايسبوك مع إعلان يه عنوانها ثم عادت إلى النقطة التي اختفت فيها القطّة ورابطت أسبوعين في الغابة حتّى ظهرت القطّة…

 

كلّ واحد من هؤلاء حاول إسناد نفسه على طريقته؛ بعد سقوط الأحلام، بعد الاختفاء شبه الكلّي للعائلة وللزواج كمؤسسة تقدم نوعا من الأمن؛ الأحزاب لم تعد تلك التي لها سمت المذاهب الدينيّة والملل، والتي تمنح معتنقيها إشباعا ودلالة روحيّة بحيث يجد فيها الفرد رسالة يؤمن بها، يقدّم حياته قربانا في سبيلها وتمنح بالمقابل وجوده وحياته المعنى والهدف والامتلاء… يخيّل إليك أنّه ثمّة إحساس بالعبث ولا جدوى الوجود لدى هذا الجيل الذي يحاول ترميم عالمه بالرسم والشعر، بالسفر وبرغبة عميقة بالارتباط بعلاقة حبّ تعيد له روعة الإحساس بأصوات العصافير من وراء النافذة في الصباحات، وتوهّج الزهور، زرقة السماء، باختصار يعيد إليه الإحساس بربيع العالم الذي لا نعيشه سوى مرّة واحدة وهو الربيع الذي عناه راينر ماريا ريلكة عندما انشد من أعماق فرحه ويأسه:

       يا إلهي إنّ دماءنا لا تحتمل ربيعا آخر…

 

و في الآن، لديهم رغبة لا تقل قوّة ولا عمقا في التشبّث بوحدتهم وعزلتهم، والاحتفاظ بحريّتهم كاملة لأنفسهم دون ارتباط بأيّ كان… إنها المفارقة الأساسيّة التي يقوم عليها وجود الكائن: الرغبة في الشيء ونقيضه والنّدم الأساسي الذي كشف عنه سورين كيركغارد عندما قال كلمته الشهيرة من يتزوّج يندم ومن لا يتزوّج يندم أيضا. فالإنسان لديه كائن معذّب باستمرار والحس التراجيدي هو جوهر وجوده…

 

يفسر بعض علماء النفس هذا اللجوء المفرط لاقتناء حيوان أليف في هذه المجتمعات التي تشتد فيها العزلة على الفرد بفعل هذا الخيار الثقافي. حتّى أنّك تجد الواحد منهم يوفر ميزانيّة خاصّة للعناية بحيوانه. والرفوف الخاصة

 بأغذية القطط وأنواع اللحوم التي يستهلكها في السوبر ماركت شاهدة على هذا التحوّل النفسي لدى هذا الإنسان الجديد… الذي قد نختلط به ولكننا نظل نجهله من الدّاخل.

ولكن كيف وصل هؤلاء لآرل مدينة رياح الميسترال؟؟ تقول جيرترود وهي نموذج لهؤلاء أنها وصلت ذات ظهيرة من نوفمبر 1979 بدراجة ناريّة يسوقها هانس كانا قد قد عبرا ألمانيا وجالا في فرنسا واسبانيا وهم في طريق العودة توقفا في آرل وهناك قررت جيرترود أن تقيم سكنت أوّل الأمر على مشارف المدينة في قرية فونفياي قريبا من القصر الذي عاش فيه ألفونس دوديه وقريبا من الطاحونة الشهيرة التي كتب حولها رسائل طاحونتي وقد تحوّلت اليوم إلى متحف زرته فإذا به يحوي كلّ أعمال دوديه في لغات العالم منها ترجمة عربية لرسائل طاحونتي أنجزها مترجم لبناني في الثلاثينات… تقول اخترت هذا المكان لأسباب عدّة: لأجل شمس الجنوب أمّا الخدمات فإنّك في أوروبا، العلاقات الإنسانية الدّافئة، وتيرة الحياة الأوربية التقليديّة، آرل مدينة غير مصنّعة لم تقطع وشائجها مع الطبيعة وقد حافظت على هويّة المجتمع الفرنسي التّقليدي… أحب البروفانس بمطبخها المتوسطي هنا تلتقي بنموذج الشخصية الفرنسية كما قرأت عنها في أدب بلزاك وغوستاف فلوبير وغي دي موباسان… وألفونس دودييه وحتّى مارسيل بانيول. وقد نقلت للألمانية كتاب رسائل طاحونتي… الآن بدأت المدينة تتغيّر تلتحق بمدن الاستهلاك، وأفكر في النزوح أما إلى جنوب إيطاليا أو إلى بعض الشواطئ التركية النائية عن العمران، حيث الإنسان السويّ الذي لم تمسسه هذه الحداثة المزيّفة، الإنسان الذي مازال محافظا على علائقه الطبيعية بالطبيعة، لا أحب هذه المدن الغربية الكبيرة التي تحوّل الإنسان داخلها إلى شيء لا قيمت له وإذا ما كانت له قيمة فهي تحدد بالاستهلاك؛ هو موجود بقدر ما يستهلك… وأقول لها لعل كوجيتو ديكارت تحوّل اليوم إلى مقولة أنا أستهلك فإذن أنا موجود. وتقول في سياق كلامها أجل، وتستمر في مونولوغها الدرامي ترسم صورة قاتمة لعالمنا هذا تقول عد لقراءة ألدوس هيسكلي وإلى جورج أوروال لقد تنبأوا بكل هذا الذي يحدث اليوم. المدن الكبيرة أللإنسانية. اختزال الانسان إلى مجرد كائن مستهلك. سكنت جيرترود في الأوّل في قرية فونفياي وغادرت عندما غادر آخر فرّان يصنع الخبز على نار الحطب القرية ما أزال أذكر عندما أخذتني إلى قرية ألفونس دودييه ومررنا في الطريق بدير موماجور الذي تحوّل إلى خرائب وتفرجنا على القبور المسيحية الأولى المنقورة في الحجر، قبور صغيرة قالت لم تكن أجسامهم كبيرة وهذا ما يفسّر أيضا المدارج الشبه شاقولية في الكوليزي فقد كان الرومان أقرب إلى القصر منهم إلى الطول…

آلان جاء آرل بعد إقامة سنوات داخل حافلة قديمة وسط أراضي الكامارغ المائيّة، كلود جاءت من بيت الأيتام وظلّ طيلة حياته يستجدي العطف والمحبّة التي افتقدها في طفولته بشكل حاسم… وجون اختار الغوص في كتب التاريخ صار مؤرخا عصاميا، فريديريك غرق في الكحول برناديت عادت إلى الكنيسة وذهبت مع حجاج سان جاك دي كامبستال. ومشت 160 كم…

اليوم ربط خط سريع باريس بآرل، صار الباريسيون يقضون ألويك أند في آرل… وفقدت آرل طعمها الأبدي

مضى رجال ذاك الجيل كلّ في طريقه… آه لأولئك الذين عرفتهم يوما، أولئك الشهود الصامتين…

الحالمون بالعصافير التي تسبح في البحر وبالأسماك الطائرة في الهواء تحت سقوف الكنائس، بالأرنب الذي يأتي من القاهرة… وبسيّارات سنوات الخمسين السيتروان دي شوفو ذات السقف القماش المضطرب في هواء طرقات الجنوب… يدخنون الغولواز ذاك التبغ الأسود الحريف الطعم، يرتدون طقم البروليتاريا الدنغري الأزرق الليلي، طقم عمال رصيف مرسيليا الذين كانوا يفرغون البواخر في الخمسينات قبل ظهور الرافعات الحديثة المتطورة… طقم ماوتسي تونغ القطني الأزرق الغامق فوق قمصان ومرايل تشي غيفرا ويعتمرون قبعات البحارة اليونانيين ويلفون أعناقهم بالطّرحة الفلسطينيّة ويرسلون شواربهم على طريقة جورج براسانز. يقرؤون ميللر وكافكا ورامبو وهيدغر وجيفارا وأرنست همنغواي وهرمن هسة، وكتاب أميركا اللاتينية فقد تمرّدوا على الحياة الفرنسية بكل أوجهها… تمردوا على الرواية الفرنسيّة التي تكتب اليوم  لم تعد الرواية الجديدة تفي بحاجياتهم الروحية فهي رواية مغرقة في اللفظيّة والتّقنية؛ وهذا شأن يتماشى مع موقفهم الرافض لكلّ ما هو فرنسي… هم الحالمون بالعصافير التي تنبثق من مياه البحر… هجروا الشانزيليزي والحيّ اللاّتيني وربوة مونمارتر وسكنوا جبال الهملايا، وجبال ساوورج في وادي الروايا المقفر على حدود ايطاليا قرب فانتيميليا… يجمعون الأحجار من بلاد بعيدة والقواقع البحريّة من شواطئ تاهيتي وجزر الكناري والبحر الأحمر تصل إلى أسماعهم في الصباحات الباكرة وهم بين النوم واليقظة صرخات الهنود الحمر التي تتردّد ذبذباتها في سهول كاليفورنيا… وصيحات الأطفال المقتولين في فلسطين وفي أقاصي آسيا وإفريقيا.

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار