سوسن الشريف
ظهرت ملامح التمرد على قلبها، فلم يعد يخضع للعقل، بل أصبح سيد الموقف، هو الذي يُصدر الأحكام، ويطلق العنان لسيطرة بلا حدود. يصدر أوامره إلى يدها لتتحرك رغمًا عنها، فتمتد أصابعها إلى الهاتف لتطلب رقم هاتفه. يأتيها صوت الرنين عبر الأثير، تنتظر أن تسمع صوته المعتاد الذي أصبح يصاحبها كظلها، لكن الرنين لا ينتهي، يظل الهاتف مُعلقًا على أذنيها، متعلق به قلبها، حتى ينتهي صوت الرنين، تضع الهاتف في يأس.
كان صوته يأتيها من بُعد، كأنه بجانبها يشعر بها، يسمع كلماتها قبل أن تنطق بها شفتاها.
يُجبرها عقلها على العودة إلي الواقع، يُنبهها بأنه أبدًا لن يجيب لأنه ليس هناك، ليس في تلك البلاد البعيدة الغريبة، لقد عاد لنفس البلد التي تعيش فيها، وإن كان قلبها يُصر على إنه لم يعد إليها بعد. صارت تراه كل يوم، لكنها لا تراه أبدًا، فالعيون تتلاقى، لكنها ليست عينيه، ليس صوته، ليس هو، ومازال قلبها يبحث عنه.
كانت أحاديثهما في البُعد مجرد كلمات، لا تحمل أكثر من ملامح الود المعتاد، ما لبثت أن تحولت إلى أحاديث خاصة، امتدت إلى أكثر من مجرد كلمات أو عبارات، كانت الجسر الدافئ الذي يربطه بوطنه، النهر الذي يُلقى فيه همومه ومتاعبه، وكان بالنسبة لها مرآة ترى فيها مشاعر جديدة لم تشهدها من قبل، تلمح جوانب من شخصيتها لم تعتد عليها.
صارت أحاديثهما لقاءات، والهاتف هو المكان، متحديًا فروق الزمان والمكان، ذابت بينهما كل الحدود والفواصل، فأصبح قلبها ميناء له في كل مدينة يرسو عليها، وأصبح قلبه سفينة لا ترسو إلا على ميناء قلبها. كان يروى لها عن يومه، وكيف تمر عليه الساعات الثقال، وآلام الوحدة والغربة، تعيش معه لحظات السعادة، وأيام القلق، يخبرها صوته بأنها عالمه الأقرب لقلبه.
كم مرت بهما الأيام والسنوات فيما مضى، يرى كل منهما الآخر، تتلامس أيديهما في سلام عابر، تنطلق الألسنة بكلمات عن مئات بل آلاف الموضوعات، لكنها اكتشفت أنها لم تكن تعرفه، لم تسمعه من قبل، لم تره. كأن الفراق هو الذي جمع بين قلبيهما، فصار أقرب مكان منه هو أبعد مكان عنه، يأتيها صوته عبر الهاتف حاملًا إليها نبض قلبه، تمضى بهما الساعات يتحدثان، يفقد كل منهما الإحساس بكل شيء حولهما، ماعدا إحساس كل منهما بالآخر.
عندما أعلن عن عودته، لم تصدق أنها ستراه، لم تذق عيناها النوم، وما أن علمت بموعد وصوله، نهضت من مكانها مسرعة ارتدت ملابسها، نثرت عليها قطرات من العطر الذي يحبه، اختارت ألوانه المفضلة، أسرعت نحو المطار تراقب الطائرات، كأن قلبها معلقًا بالسماء، كانت الدقائق تمر ببطء، وترفض عقارب الساعة التحرك من مكانها.
رأته أخيرًا يطل عليها من بين جموع المسافرين، بقامته الفارعة، وشعره الأسود الفاحم، بعينيه الباسمة، أسرعت إليه، أهداها ابتسامة دافئة، وأخذ يدها بين راحتيه في حنو، ألقى عليها التحية بصوته العميق، أجابته بكل ما تحمل من شوق وحنين. ازداد الزحام، التف الجميع حوله في صخب لا ينتهي، أهداها نظرة ساحرة مودعة خلبت لُبها، ظلت تنظر إلى السيارة وهى تبتعد حاملة قلبها بداخلها، امتلأت عيناها بغيمة من الدموع، تاهت ابتسامتها في خضمها. شيء ما أثار القلق بداخلها، لابد وأنه الفراق السريع، هرعت إلي منزلها، طلبت رقمه، أتاها صوته يحمل نبرات متعجبة متسائلًا عن سبب اتصالها!! مع وعد فاتر بلقاء، لم تجبه بشيء، فقط أغلقت الهاتف.
تكررت بينهما فيما بعد لقاءات باردة، مُغلفة بابتسامة مجاملة، تصاحبها نظرة متسائلة من عينيها.. هل حقاً عدُت من السفر؟ هل عدُت إلي؟
مرت بذاكرتها أحاديثهما وكيف كانت، تأكدت بعد وقت ليس بالكثير أنه لم يعد من السفر، فالبُعد ليس في المكان، نحن من يخلق شعور الغربة ونعيش فيه، كما نخلق الشعور بالدفء ولا نحيا إلا به.
في كل يوم تجلس بجانب الهاتف، تطلب رقمه بالخارج، تنتظر عودته إليها، لكن لا يأتيها سوى صوت رنين لا ينتهي …