عودة البحار والحاجة لتجميل الحياة بالكذب
ندى خالد
يفتتح مترجم الرواية الشاعر والروائي "ممدوح عدوان" ترجمته لرواية "جورجي أمادو" (عودة البحّار) بتلك العبارة، وهي أكثر عبارة بإمكانها تلخيص أحداث الرواية، التي تدور في عالم أمادو ذلك العالم الخاطف، الذي يصوغه بأُسلوبه الساحر جدًا..
يتساءل أمادو في نهاية روايته: "هل يستطيع قرائي الآن، بثقافتهم وخبرتهم، أن يقولوا لي ما هي الحقيقة، الحقيقة الكاملة؟ وما المغزى المستقى من هذه القصة اليومية والأحداث المتكررة، في التفاهة أو السوقية التي ترتبط بها حيوات معظم الناس؟ أم أن للحقيقة مأواها في الحلم الذي أعطيناه للهرب من شرطنا الإنساني؟ كيف يسمو الإنسان على رحلته في الحياة؟ بالكيد والغش يوما بيوم؟ أم بالحلم المحلق الذي لا يعرف قيدا ولا حدودا؟ ما الذي قاد فاسكو دا غاما أو كولومبوس إلى سطح المركب الشرعي؟ وما الذي وجه أيدي العلماء الذين أطلقوا الأقمار الصناعية فخلقوا نجوما جديدة وقمرا جديدا في هذه الضاحية من الكون؟ أين هي الحقيقة؟ قولوا لي أرجوكم - في الواقع الصغير لكل منا؟ أم في الحلم الإنساني الكبير؟ ومن الذي يقوده حول العالم ليضيء طريق الإنسان: فضيلة القاضي أم الشاعر الفقير المدقع؟ شيكو باشيكو باستقامته الدفينة؟ أم القبطان فاسكو موسكوسكو دو أراغان رئيس البحارة؟ "
ويخبرنا في بداية الرواية بأن :" الحقيقة مرمية في قرارة بئر"
تلتف الرواية حول كل تلك التساؤلات المحيرة، يذهب ويجيء أمادو حول الحقيقة، وحول كيفية العثور عليها، وهل أن الحقيقة من الواجب الحفاظ عليها/ أم أن تجميل الحياة بالكذب الأبيض شيء مباح، وحُلم نحققه بالكذبات الجميلة؟
تدور أحداث الرواية في قرية بريبري، قرية تسليتها الوحيدة هي اتباع الفضائح والاستماع لحكايات البحار والمومسات، ممتلئة بعجائز متقاعدين، يتتبعون حكايات الحب، والقصص البعيدة.
ثم يأتي البحار المتقاعد، الذي لم يقد سفينة واحدة طيلة الستين عامًا الذين هم كل حياته ،فاسكو موسكوسو دو أراغان، حفيد تاجر برازيلي غني، رباه جده، لم يكن القبطان المتقاعد يهتم بأي شيء أو يتحمًل أية مسئولية، لديه العديد من العلاقات الهامة، من كبار المدينة، مات جده وترك له المال، ولكن دون أية ألقاب يتباهى بها مثل أصدقاءه علية القوم في المدينة، نغصت عليه مسألة الألقاب حياته، وعبّست وجهه طيلة الوقت.
يحكي الحكاية مؤرخ من قرية بريبري التي حل عليها القبطان ضيفًا، والتفّ الجميع حوله، وأصبح الشخصية الأكثر شهرة، وإثارة من بين الجميع
بعد أن كان موظف الجمارك المتقاعد شيكو باشيكو هو الأكثر حضورًا، يستمع الجميع لحكاياته عن حقوقه المسلوبة، وقضيته ضد الدولة لتحصيل التعويضات منها، ليظل دائما مركز اهتمام أهل القرية
حين وفد القبطان المتقاعد، في مشهد رائع كتبه أمادو، تثار عاصفة من الحقد والضغينة من باشيكو على القبطان الوافد
ماذا يفعل باشيكو؟
يحاول استعادة موقعه بإثبات أن حكايات القبطان كاذبة، وتفتقر لأي ذرة واقعية، بل أنه ليس قبطانًا من الأساس، ولم تمسس قدمه البحر يومًا.
مؤرخنا الذي هو في الحقيقة صحفي متواضع يحب عشيقة قاضٍ غني، ويذهب لغرفة نومها في بيته، سرًا، قرر أن يؤرخ حياة القبطان الغريب الغامضة، الذي أصبح حديث المدينة، والأكثر شهرة فيها، والذي انقسم أهل القرية إلى نصفين بين مؤيد ومعارض حول مدى صدقه، في حكاياه المثيرة، والتي يلتف حولها كل عجائز القرية، صغارها، وكبارها.
قرر المؤخر أن يبحث عن قاع الحقيقة، التي هي مرمية في بئر، ليس فقط مرمية في بئر، بل أيضًا موجودة عارية هناك، لتتتابع أحداث الكشف، البحث والتأريخ، حول قبطاننا كبير البحارة المتقاعد، فاسكو موسكوسو دو أراغان، تتحرك أحداث الرواية مثل موجِ في بحرٍ عاصف، مرّة تشعر أنك اقتربت من الحقيقة، مرّة تصدق فاسكو من كل قلبك، بل إنك تتحول لعجوز من عجائز القرية الذين هم من مهووسي حكايات فاسكو، والمصدقين لها عن ظهر قلب.
يمتحن أمادو في الرواية بعبقرية، حدسك على الإمساك بالحقيقة، يقينك الأخلاقي، فيما إذا كنت سترغب في تصديقها، أم أنك ستركض وراء الكذبات الحالمة، لأنها ببساطة أجمل! ولأنه لا ضير من تجميل الحياة، بالكذب. ويبقى الصراع قائمًا، يرتفع إلى أقصى درجاته حين تأتي النهاية، التي تقف أمامها محتارًا، بين تصديق فاسكو والمشي وراء كذباته، أم الرفض التام لها، أم ببساطة الوقوف في المنتصف، أن تتلمس الحُلم الجميل، وتُسرّ، للنهاية الطيّبة، حتى وإن كانت كذبًا، وتنبسط لانتصار الكذبة، لأنها كانت أجمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية