عن النمل والرجال

روزا نافارو
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة: روزا نافاروا[1]

ترجمة: نجلاء فتحي الجعيدي

تسير قافلة طويلة من رهبان النمل، بشكل متناغم، عبر طاولة المطبخ؛ كأنهم جيش لحاملي محفات مواكب الاحتفالات الدينية، حاملين على رؤوسهم فتات خبز وبقايا طعام؛ بينما في نهاية الموكب، تحاول إحداهن، العرجاء، مجاراة رفاقها، رغم أنها تصبح أكثر وأكثر انفصالاً عن الموكب، لكنها لا تستسلم، تشعر كأنها هيفايستوس الأعرج (إله النار في الأساطير الإغريقية) لذا فهي تحمل الفتات الأكبر حجما والأثقل وزناً.

لقد تأخرت كثيرًا.. والآن، تلمح طرف آخر رفاقها يغوص في شق الحائط؛ تحسب الوقت الذي ستستغرقه للوصول إلى هناك، لتفرغ حملها من الفتات، أخيراً؛ ليست المسافة كبيرة، إذ بإمكانها فعلها.

في اللحظة، التي قررت أن تدفع نفسها بكل طاقتها؛ لتجتاز آخر مسافة، يشلها كسوف كلي، كان الكسوف يتمثل فى المرأة الحزينة، التي تريد أن تصبح مثل فلورنس لورانس، ممسكة بكأس من النبيذ الأحمر بيدها اليمنى، وتنظر إلى النملة بإيماءة من التعاطف الكاذب، تهاجمها بنقرة، تلصق هيفايستوس المسكينة بالحائط، وتلتصق فتات الخبز بظفر السبابة، تمسحه بثوبها دون الالتفات إلى ضحيتها؛ ثم تبحث في خزانة المطبخ عن سم النمل.

المرأة التعيسة، التي تريد أن تموت مثل فلورنس لورانس، تتجه الآن، إلى الحمام مع كأس النبيذ في يد، وسم النمل في اليد الأخرى، تاركة بقايا الأطعمة الشهية في حوض الغسيل، فتحت صنبور البانيو وبدأت في خلع ملابسها، غافلة عن حقيقة أن الجار في الجهة المقابلة، في تلك اللحظة، بالتحديد، يراقبها عبر نافذة منزله، فهو حداد تتملكه روح تيد بندي (القاتل المتسلسل) ينظر إليها برغبة متوحشة، حاكا الطرف الاصطناعي لساقه اليمنى؛ بينما تغوص المرأة في البانيو.

كان بوندي يحمل سندانًا، صغيرًا، مدببًا، متجهاً إلى منزل جارته. يتنقل بصعوبة عبر الحديقة، ثقل السندان يجعله يسحب طرفه الاصطناعي بشكل أهوج؛ دون الالتفات، وراءه، إلى الزهور المهشمة؛ لكنه لا يستسلم ويواصل اللحاق إلى نافذة الحمام دون أن يراه أحداً. يضع السندان على حافة النافذة. يتخفف من طرفه الاصطناعي. يضعه على الأرض بجوار أصيص زهور أقحوان صفراء. يتسلل من النافذة، وبمجرد دخوله، يلتقط السندان مرة أخرى، يرفعه فوق رأسه ويقفز على قدم واحدة؛ يقترب من فلورنسا، التي قد شربت كثيرا لدرجة أنها بالفعل غير واعية لأي شيء يحدث حولها، تلعب بقدميها تحت صنبور المياة، وفي الأثناء، تمسك كأساً مليئاً بالنبيذ وسم النمل باليد اليسرى. لكن ما لم يعد الرجل له العدة؛ أن عند هذه اللحظة، بالتحديد، لا يستطيع الراوي تجنب التفكير في النملة، يذهب إلى المطبخ ليرى، ما إذا كانت لا تزال موجودة! وماذا حل بها! فيجد هيفايستوس تتعافى من الضربة، وتلوح بساقيها المتبقية، واحدة تلو الأخرى، تحاول استعادة شتاتها غير أنها مشوشة، لا تعرف كيف تصل إلى فتحة الحائط، ليس لديها خيار سوى اتباع شعاع الضوء الآتِي من الحمام.

أما الراوي فيتبعها بعينيه؛ ويشعر بالأسف عليها؛ لأنه يعلم سيرها في الاتجاه الخاطئ. عندما يصلوا إلى الحمام ، يجدوا أن لا يزال تيد بندي متحجرًا مثل بومبيان* وإن كان على ساق واحدة في وضعية كأنه بطل همام، رافعاً الذراعين بالسندان وعلى وشك توجيه ضربة ملحمية لجارته، البائسة، الثملة؛ ومع ذلك، فإن الوقت الذي قضاه الراوي بالخارج تاركًا تيد مشلولًا، حول حماسته للقتل، إلى يأس وإرهاق. ومما زاد الأمر سوءا أن الماء في حوض الاستحمام يفيض، مما جعل قدمه الوحيدة تغرق أو تغوص بالماء.

يشاهد كلا من الراوي والنملة المشهد، وهما فى غاية التشويش والحيرة؛ لكن قبل أن يصل الماء إلى رقبتها، وحتى قبل أن يمس كاحليه، قرر الراوي أن يتدخل، وينبه الكاتب، الذي أصبح مدركًا أن الحبكة، قد خرجت عن السيطرة. ويجعله يلجأ إلى أكثر الحلول استحالة، وهو إغلاق الصنبور.

بحركة مفاجئة ومرتجلة، يكتب على الكمبيوتر، بسرعة كبيرة، دون  تمعن؛ وبدلاً من قطع الماء، يتخيل أن يظهر في الحمام حيوان نصفين نسر وأسد، لا يعرف جيدًا كيف ينهي هذا السيرك، يداهم هذا الوحش تيد بندي، فيصاب بنوبة قلبية. يسقط مغشيا عليه. كان ذلك، قبل ثانية من سقوط السندان على رأسها، وفي نفس الوقت، كانت المرأة قد غرقت بالفعل في البانيو وسقط ما بالكأس على النملة، فتموت وهي سكرانة ومسممة؛ تمامًا، مثلما حدث لفلورنس لورانس الحقيقية. سرعان ما التهم جثتها الغريفين (حيوان أسطوري؛ يوناني، نصف أسد ونصف نسر.) الذى كان متواجدا، بالفعل، هناك؛ كان يريد المشاركة في هذا السيرك المنصوب.

يظهر على وجه الراوي، علامات الذهول وأنه لا يفهم شيئا مما يدور. يهز كتفيه وينظر لأعلى، غير متأكدا، تمامًا، مما سيقوله.

يعي الكاتب، الفوضى التي أحدثها بنفسه، ويعتذر لهم؛ رغم أنه ليس واضحًا، تمامًا، كيف سيحل هذا العبث؛ لذا فهو يكتفي أن يصرف الغريفين ويزيل الفقرات الأخيرة، ويعود إلى الكسوف مرة أخرى؛ لكن الكسوف هذه المرة سيكون؛ سيدة مجنونة، تريد أن تموت مثل البابا أدريان الرابع (مات بسبب ذبابة مرت إلى حلقه؛ فيما هو يشرب.) مختنقة بذبابة.

بكثير من الإحباط، والشعوربالتضحية والإيثار، أخذ يتنهد الراوي، يفكر في كم أن وجوده كان جميلا ومميزا في تلك القصة، لدرجة أنه إذا سمحوا له بالكتابة، وأعطوه زمام مفاتيح كمبيوتر؛ لأصبح كبورخس أو ثربانتس، وليس مجرد معتوه، بكل ما تحمله الكلمة، لا يعرف الألف من كوز الذرة.

*بومبيان: نسبة لأهل بومبي الإيطالية، مدينة قديمة تحجر كل سكانها على أوضاعهم الأخيرة؛ نتيجة انفجار بركاني صب حممه عليهم فتحولوا إلى مسوخ حجرية.

……………………………

[1]  روزا نافارو : استاذ الادب بجامعة مدريد متخصصة فى السرد المعاصر و القصة القصيرة وقد شاركت فى العديد من الابحاث و المشاريع الادبية كم انها عضو بارز فى العديد من الجمعيات الادبية مثل منظمة البلاغة الأيبيرية الأمريكية و جمعية البلاغة الإسبانية.

مقالات من نفس القسم