العمل الذي صدر عن دار “الكتب خان”، حصل على جائزة أفضل رواية في معرض القاهرة للكتاب 2013 وفيها، يحكي شرقاوي عن شاب وحيد جدا لا يتواصل مع العالم تقريبا ويعيش في بيته مسدلا الستائر وضاربا على نفسه عزلة دائمة، تلك العزلة أفرزت شخصية محورية تحمل حياةً بلا دراما وأحداث ذات حبكة تصاعدية، إنما يتشكل السرد كشذرات وتهويمات لأحلام مكتملة أو مبتورة واستعادات لذكريات سحيقة، كل هذا يحدث في فترة زمنية تفصل بين اتصالات البطل المجهّل وصديقته سيرين، وحتى اللحظات الأخيرة قبل لقائهما.
وحتى شخصية “سيرين” تبدو مموهة بطريقة فنية لاندرك معها يقينا وجودها من عدمه، فهي تبدو كطيف تارة وتبدو حقيقية تارة أخرى لدرجة أن تقترح على الراوي/البطل أن يعرض نفسه على طبيب نفسي. وربما يكون اسم “سيرين” ذا دلالة، بالإحالة إلى “ابن سيرين” مفسر الأحلام العربي الشهير، ليضفي المفتاح المبثوث في ثنايا الحكاية، مزيدا من الرؤية الضبابية لعالم الأحلام. في هذه الأجواء الشبحية غير اليقينية، يعرض الطاهر شرقاوي كل شخصيات الرواية تحت اسم “س” إذ لاداعي للتعرف على الهويات في عالم الأحلام والتهويمات، وأحيانا في ما تجلبه الذاكرة من القاع، وهي حيلة فنية سبق لشرقاوي أن وظفها في أعمال سابقة. في حين تحتفظ سيرين وحدها باسم، حيث أنها تبدو رغم انطماس ملامحها، كأحد أكثر الشخصيات وضوحا، إلى جانب الراوي .
شخصيات الحكايات التي اتكأ عليها الشرقاوي في خلق عالمه، تبدو كظلال، شخصيات مبتورة و برّاقة في آن، تخطف انتباه القارئ في حكاية قصيرة تستغرق عدة صفحات، يزرع بعدها شرقاوي حكاية أخرى تسير في نفس السياق اللايقيني الذي تمضي فيه الرواية، وعلى هذا النحو، يبدو البطل، متقاربا مع أبطال روايات الحقبة التسعينية في السرد المصري: مشوشا ووحيدا ومكتئبا، يدير عينيه للداخل، ويرصد نفسه قبل أن يرصد العالم، حتى وإن بدا ثمة انعكاس طفيف للعالم على مرآة الذات، فهو في النهاية بطل يصادق خيالاته وذكرياته وكل ما إلى هنالك من أمور تبدو منبتة الصلة عن الحاضر والواقع، فهو هنا يصادق حتى الأحجار، التي تكلمه أحيانا، وتجمعه بها علاقات عجيبة “الأحجار التي أحتفظ بها، كانت تبدو لي في بعض الأحيان شهية، ومغوية لتجربة طعمها، مخمنا أنها ستكون مثل الحبوب المحمصة، وربما تفوح برائحة تخصها كالفول السوداني” ص16. وهو الأمر الذي دفع بصديقه الشاعر لتأليف قصيدة عنه بعنوان “عن الذي يربي حجرا في بيته” كطرفة. عدا عن الأحجار، تمتد غرائبية عالم الرواية، ليصادق الراوي الأشباح والأطياف الذين كانوا يشاكسونه بإخفاء أقلامه وكتبه، وعندما اشتكى لأمه قالت له : “إخوتك يلعبون معك، لن يؤذوك مادمت لم تؤذهم، ثم أخذت تتمتم برقيات وأدعية تحفظها” ص92، وفي موضع آخر يقول “بالإضافة إلى موضوع إخوتي، هناك أيضا بعض الأشياء التي تحدث لي، أو تختارني خصيصا بين الخلق… فالفتاة التي تسكن في وجه القمر لوحت لي بيدها ذات ليل في الحديقة..” ص97. هذه العوالم السحرية، والضلالات والتهويمات، تلضم بلغة بسيطة، فصول الرواية، وتمنحها مذاقها الخاص وخلفيتها الضبابية.
تتسم رواية “عن الذي يربي حجرا في بيته” بسلاسة وسيولة في الأحداث، فحلم يؤدي إلى ذكرى تؤدي إلى شطحة، والمونولج الداخلي يزيد من تلك الأريحية في الحكي ويضفي نوع من الحميمة على ما يقال، بينما يتخلل السرد من آن لآخر استفاقات للراوي من تهويماته، يخرج فيها للشارع، ويقابل أحيانا مصاصي الدماء، الذين يبدون في عالم الطاهر شرقاوي كمقابل موضوعي للثرثارين، الذين يستدرجونه للمقهى ويطيلون الحديث معه خادشين عالمه الصامت.
لكن برغم تلك الانسيابية، لم تخلُ النوفيللا التي تقع في 124 صفحة، من بعض الثرثرة، التي كانت تعطل انسيابية الحكي، حتى وإن كانت تلك الثرثرة مجرد تأملات وشرود لذهن الراوي، إلا أن إيقاعها في بعض الأحيان جاء ليعطل سيولة الحكايات المتتابعة، والتي تمضي هي أيضا في إيقاع يتراوح في التمهل والتثاقل مثل الفصل الذي يسرد فيه الراوي تأملاته عن كرسي خشبي وحيد في الحديقة القريبة من بيته، فهو يسرد تأملات مجردة لا تقدم شيئا. و في مواضع أخرى بالرواية، نتوءات السردية، حيث يطل الروائي بنفسه في بعض الجمل التوضيحية، يتطوع فيها بشرح مشهد من حلم أو ذكرى يحكيها الراوي، فيفسر للقارئ مثلا رؤيته لشخص يشبهه تماما ” كنت على يقين أنه أنا، عندما كنت مجندا منذ بضع سنوات قليلة، وكأنني أعيش في حلم أو أتفرج على شريط سينما” ص72، وتبدو مثل تلك الجملة كزيادات في السرد تعمل – رغم قلتها – على تعطيله.