عناقٌ برائحة الياسمين .. من رواية “إنجيل بيسوا”

إنجيل بيسوا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسام سيد 

نادين زهران

في هذا العام ستُتم العشرين، لكن مظهرها ما زالت تكسوه مسحة طفولية، تُحافظ على ضفائر طويلة تُزين وجهًا مليحًا مشربًا بحُمرة، ترتدي قميصًا بسيطًا وجينزًا أزرق، الحُمرة في وجنتيها هي زينتها، لا يوجد مسحوق تجميلي واحد، حافظ ذلك على طابعها الطفولي مع عُقد لؤلؤي حول عنقها كل لؤلؤة فيه لها لونها الخاص، لم يكسر تلك الهالة الطفولية سوى نظارة شمسية جادة تخفي عينيها، وعصا معدنية تتحرك بها مكسوة بشريط وردي في أعلاها، كأنها تروِّض أدوات عجزها الشخصي وتمنحها مسحة من أمل.

فقدت «نادين» بصرها في سن الثالثة، لا تتذكر الكثير من عالم المبصرين، حاولت التمسك بذكرى الألوان لكنها تبددت بالوقت، يسألها أحدهم ما الذي يعنيه العمى الكامل؟ ولا تُجيد الشرح، ليس العمى هو بحر من الظلام، ليس العمى أسود، العمى ببساطة هو غياب الرؤية، حاولت مرة أن تشرح لأحدهم بأن تخبره أن يضع كفه وراء مؤخرة رأسه وسألته:

  • هل ترى كفك؟

يخبرها بالنفي، فتسأله:

  • ما الذي تراه منه؟ هل ترى ظلامًا مكانه؟

 فيخبرها بالنفي، ثم تخبره أن ذلك هو العمى، لا يقدم العالم خلفية سوداء له، إنما العالم بأكمله يقف خلفها، ولا يُقدِّم رسولًا عنه.

بالوقت زهدت كثيرًا في مُناقشة المُبصرين، معهم كل شيء مُغلَّف بالشفقة، كل محاولة لأن تتواصل بشكل عادي يردها الآخرون إلى العمى، إما بالشفقة الزائدة وإما بمحاولة التعاطي معها بأريحية زائدة كأنها مبصرة، الشفقة المفرطة عليها أو التجاهل المفرط لعاهتها كلاهما تنويعات مُختلفة عن حقيقة واحدة، أنها لا شيء سوى عاهتها، أنها مُختزلة بالكامل في كونها عمياء.

هذا جعلها تقطع علاقاتها بالجميع تقريبًا، لم تكوِّن صداقةً واحدةً لتستمر، لكن العلاقة الأصعب والتي لا يُمكن قطعها كانت مع أمها، الشخص القيوم على عالمها، كانت أمها تتأرجح بين الحماية المفرطة والشفقة المُبالغة، أمومة ثقيلة خانقة، تجعل «نادين» فرخًا عاجزًا لم تعلِّمه أمه الطيران ولم تترك له مساحة تنفس بالعش، هي ترقد فوقه خوفًا من العالم، في حين أن الخوف الحقيقي هو أن يختنق الفرخ تحت وطأة حمايتها.

تمنت أن يكون أبوها حيًّا، مات أبوها وهي في سن السابعة، لا تتذكر إلا القليل عنه خاصة صوته الرخيم، كان صوته هو الرسول الوحيد عنه وكان جميلًا، غير مُحمَّل بشفقة أو حماية، بدا كأنه صوت الرب، صوت الحكمة مُقطَّرة، كان يقرأ لها قصصًا قبل النوم فيبدو كإله يُخبر صنيعته عن العالم، كانت تنام آمنة في كل ليلة من تلك الليالي، بعد موته صارت تكره النوم، صارت تستيقظ في منتصف الليل وهي مُحاصرة بالعجز والعمى، فترتعد كأنها تختبر عماها لأول مرة، تتخبط في الموجودات ثم تسقط عاجزة على الأرض وهي ترتجف.

ذات مرة في سن السابعة عشرة ومع اكتئاب المُراهقة الحاد لم تنم لثلاثة أيام كاملة، فقدت صوابها، حاولت وقتها ابتلاع علبة كاملة من الأقراص المُهدئة، لم تقصد قتل نفسها، كل ما أرادته أن تنام وحسب، أنقذتها أمها بأعجوبة، كان الوقت سانحًا لأمها لتُخبرها أخيرًا بسر خاص، لتمنحها سببًا للعيش.

مات أبوها في غُربته بالكويت، كان يؤمِّن الأموال الكافية لعلاج «نادين» بإدخالها في مجموعات أدوية تجريبية، قبل أن يؤكد له الأطباء أن حالتها ميؤوس منها، أخبرتها أمها أن أباها بعد موته ترك مُذكراته، وكلها مُخاطبات لنادين، ظلت تلك المُذكرات منسية لا يعرفها أحد حتى وجدها أحد أصدقائه ضمن أرشيف ملفات الشركة في مكتبه القديم، عندها أرسلها إلى زوجة صديقه، أم نادين، التي احتفظت بها شهرين لتقرأها ثم حدثت حادثة الحبوب المهدئة، ألحَّت «نادين» على أمها لتقرأها لها، لم تكن تتوق إلى شيء أكثر من أطلال مُحادثة آمنة مع أبيها تنام على إثرها.

كل كفيف يُريد مُقايضة العالم من أجل ليلة يُبصر فيها ما فاته، يبصر الألوان، يبصر شروق الشمس، يُبصر وجه أمه وأحباءه.

كانت «نادين» تُريد مقايضة العالم من أجل ليلة واحدة تنام فيها نومًا هانئًا، على صوت أبيها، صوت إله يحميها من كل شرور العالم، إله على وقع صوته يبدو حتى العمى مملكة آمنة وليست باردة موحشة.

أخبرتها أمها أنها ستمنحها المُذكرات عندما تُتم العشرين، أقسمت لها «نادين» أنها لم تحاول الانتحار، أنها أرادت النوم وحسب، وأنها لن تفعلها ثانية، لكنَّ أمها أرادت منحها سببًا تعيش من أجله، سببًا يُجبرها على التمسك بالحياة، كانت تريدها أن تُنهي مراهقتها بسلام، دون أن تختطفها منها لحظة يأس في ليلة باردة، خاصمتها نادين وأخبرتها أنها تبتز عاهتها لمصلحتها، تجلَّدت الأم ولم تضعف، كانت ذروة أمومتها هي ذروة قسوتها، تلقت كل سهام ابنتها دون شكوى، ولم تُغير رأيها. كان على «نادين» أن تنتظر ثلاثة أعوام لتُكمل العشرين، هنا ظهر في حياتها صوت «عامر».

نتيجة غياب البصر أدمنت «نادين» الكُتب الصوتية، كانت تُجيد القراءة بطريقة برايل لكنها أحبت الطريقة الأولى التي قدَّم بها أحدهم العالم لها مسموعًا، كانت في كل صوت يهمس لها بحكاية، بمعرفة، تتذكر صوت والدها الأول، كانت تلك طريقتها في افتقاد والدها واستبقائه في عالمها ولو مُنتحلًا أصوات آخرين وكلماتهم، حتى سمعت «عامر».

تتذكر في المرة الأولى، أنها بكت بشدة، سمعت كتاب «بيسوا» كاملًا، أحد عشر ساعة من الحديث، لم تتحرك من فراشها حتى انتهت، كان يشبه صوت أبيها؛ رخيم، عميق، كأنه يُعلن قيامة العالم، لكنها في الوقت نفسه تشعر بالأمان في تلك القيامة كما أشعرها صوت أبيها بالأمان في مملكة العمى.

بسببه وقعت في غرام بيسوا، كانت تكره الشفقة من الجميع، مناورة الألفاظ الرقيقة حولها كأن الجميع يحاول الابتعاد عن ألفاظ مثل:

  • انظري، العمى، كفيف، لن تستطيع، سوف تسقط…

 في حين أن «بيسوا» كان قاسيًا، كان يقول بصوت «عامر»:

«ثمة في بعض العيون البشرية، وإن كانت مطبوعة على الحجر، شيء مُرعب، إعلان الوعي عن ذاته، إعلان لا يمكن تفاديه، الصرخة السرية الدالة على وجود روح».

العيون لدى «بيسوا» نوافذ مُخيفة تطل على الروح، وعيٌ صارخ، يمكن للمرء أن يعلن ذاته عبرها، لذلك بدت «نادين» في عماها كأنها لا أحد، أعجبها التعبير رغم ثقل وطأته، لو نظرت إلى أحدهم في عينيه ستدرك كذبه، خوفه، حُبه، أما الأعمى يبدو مثل وجه لاعب بوكر، لا تتسرب منه لمحة واحدة، كانت روحها مُخفاة، بيسوا جعلها تُحب جانبًا من العمى؛ أنه حصن ومملكة يجعلها مخفية عن الجميع، فلا يفطنوا لما يدور حقًّا بداخلها، باختصار يجعلها لا أحد، سيارة زجاجها أسود لا يفضح ما بداخلها.

عندما ظهرت تطبيقات الكتب الصوتية اقترحت عليها أمها كل كتب التنمية الذاتية والعلاج والتكيف مع عاهة العمى، كان صوت المعلق الحنون في تلك الكُتب يزيد إحساسها الثقيل بالشفقة وأنها لا أحد سوى روح عالقة في جسد عاطب، حينها جاء «بيسوا» ليُخبرها بصوت «عامر» في بساطة لا مُكترثة:

«أنا أهديك هذا الكتاب لأنني أعلم أنه جميل وعديم النفع، لقد وصفت روحي كلها في تأليفي غير أنني لم أفكر في ذلك حال كتابتي إياه، بل فكرت في نفسي فقط، لأنني حزين.. وفيك أنت لأنك لا أحد».

شعرت «نادين» لأول مرة بلذة المُخاطَبة، كأن صوت أبيها يخبرها عبر عامر وبيسوا أنه لن يكون صوتًا مشفقًا، مهما بدت صراحته لاذعة، سيُخاطبها كأنها إنسان يمكنه أن يتحمل الحقيقة، حتى لو كانت الحقيقة أنها لا أحد.

منحها «بيسوا» عبر حديثه، الندَّ الذي تحتاج إليه في مقابل أمها، صوت عامر الشبيه بأبيها، قسوة تعبيرات بيسوا ولا مبالاته بقارئه، قالب المُحادثة الصوتية الذي يشبه قصص النوم الأبوية استدعى ذكرى الأمان الوحيدة التي تملكها مع أبيها، كل ذلك المزيج صنع ندًّا لحياتها القديمة يُمكنه أن يمنحها ما تاقت إليه منذ سنوات.

نوم هانئ

بدأت حالتها تتحسن، استغنت عن المُهدئات، وبدأت لأول مرة تنام نومًا عميقًا، اقتاتت على كل شيء سجَّله عامر، وأعادته مرارًا حتى قرأت مرة اقتباس لبيسوا يقول فيه:

«لا أكتب للنشر ولا للكتابة نفسها ولا حتى لأصنع فنًّا، أكتب بهدف المغالاة القصوى في الدقة، آه لو أمسكت بواحد من أحاسيسي ونسَّلته حتى أتمكن به، سأفعل ذلك لا لكي أجعل النثر يتألق ويرتعش، إنما لأمنح برانية لكل ما هو جواني، لأجمد الحياة بداخلي، أحبسها في نثر».

أسرتها الصورة الجمالية، أن يمسك المرء بإحساس ما وينسله من نسيج الوجود ويحتفظ به، وقتها صنعت أول مسبحة جمالية، مسبحة من اللؤلؤ، ارتدتها حول عنقها، كلما جادت عليها الحياة بإحساس يستحق توثيقه، تصطنع له حبة لؤلؤ.

 صنعت حبة لؤلؤ لأول مرة زارت فيها البحر، صوت الموج الهادر، رائحة اليود، صوت النوارس، سيمفونية خلَّاقة، كانت تشعر بضآلتها أمام هدير الأمواج، اصطنعت لذلك لؤلؤة زرقاء.

أحبت اللحظة عندما ملأت جيوبها في المُتنزه بحبات القمح والشعير للحمام، ثم وقفت في منتصف المُتنزَّه، فانهالت عليها أسراب الحمام من كل صوب، كان هذا أقرب ما يُمكن لعناق، لمسة افتقدتها كثيرًا، يصعب أن تتسولها من البشر الذين يمنحونها الشفقة الكافية في تربيت الكتف وإمساك يدها كطفل لتعبر الطرق المسرعة، في حين أن حضن الحمام كان حنونًا وعنيفًا وشهوانيًّا في وقت واحد ولا يحوي طيفًا من شفقة، كان يشبه قبلات عنيفة من عاشق يتحسس جسدها بغير شفقة أو تهذيب، اصطنعت لذلك الشعور لؤلؤة بيضاء.

تملك الآن عقدًا لؤلؤيًّا متعدد الألوان، كل لؤلؤة تحوي تجربة بدت فيها للحظة الحياة جميلة داخل مملكة العمى.

الآن هي تقف على بعد لحظات من مقابلة «عامر»، لا تصدق أن صاحب هذا الصوت الرخيم ارتكب جريمة بشعة، لا تُصدق أن إنسانًا يُمكنه أن يحول آخر إلى ملاك من لحم كما أخبروها، لا تعرف هيئة الملائكة ولا شكل الأجنحة ولا لون الدم، لا يعني لها الأحمر أي شيء، ولا تثير فيها الغربان البيضاء تعجُبًا لإنها لا تعرف الأسود والأبيض من الأساس، كانت تُريد أن تسمع صوت «عامر» في مُخاطبة شخصية، وكذلك كانت تُريد أن تطمئن أنه سيحيا وقتًا كافيًا لتبلغ العشرين بعد شهرين، عندها تاقت إلى أن تسمع مُخاطبات والدها بصوته، أن تمنحه إياها ليقرأها لها، فيُبعث والدها حيًّا في صوت «عامر» مع سطور حديثه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية الأولى للكاتب .. صدرت عن دار معجم – معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون