الراقصة.. وسيد الناس

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد بركة

إلى جدي، طيب الله ثراه وألان الطوب تحت رأسه بالقبر ، يعود الفضل في حنيني المتقد إلى قصة غرام مستحيلة مع سيدة من وراء البحار  تقول للقمر: قم وأنا أقعد مكانك، لكن ليس جمالها هو ما يذهب بعقلي، وإنما الحزن الآسر الذي يسحبني خلفه كالنداهة فأهج وراءها عبر المطارات والفنادق وأطارد عطرها في  الممرات الطويلة المفروشة بالسجاد الأحمر و همسات الأحلام . عبر طرق غير مشروعة أحتفظ بتفاصيلها لنفسي ، على الأقل حاليا ، عرفت أن الحاج حسين  وقع  قبل نصف معوض بغرام غازية من غوازي الغجر، فهج وراءها في العزب والكفور ، وطاردها بالأفراح وليالي الطهور الملاح. أولاد الحلال تدخلوا فقط حين ترك بيته "يضرب يقلب" وعياله على فيض الكريم وكانت وجهة نظرهم أن الراجل منا يعمل ما بدا له ، بشرط ألا يخرب بيته ، و صحيح أن  البنت  مثل طبق القشدة  المضروب بمعلقتين عسل نحل جبلي، لكنها راحت أم جاءت تظل بالنهاية راقصة ... هل تعرف معنى راقصة ؟ 

أعرف بالثلاثة !

 أقر أنا حسين حسن محفوظ وأعترف وأحلف على الخاتمة الشريفة أنني أعرف تماماً معنى أن تكون هذه المهرة الصهباء غجرية: أن الشعر جدائل من الضوء المشرب بالحمرة، والعينان بئران عميقان موصولان بتيار دافق من الأحزان الجوفية ،  أن الصدر طبق من الجيلى الأبيض تهزه دفقة ريح متناهية الصغر، والخصر النحيل نخلة عفية نبتت بمفردها بالبراري، وما حدث بيننا لم يمنحني فقط “كلمة السر” عند الحور العين، وإنما وهبني كذلك اللعنة الأبدية لملك كريم فسق عن أمر ربه.

في المرة الأولى، لم أتمالك نفسي وانهرت سريعاً حين  فاجأتني ورأيتها تخلع فستانها الأحمر المطرز بالترتر الأسود اللامع. لم يستوقفها الأمر، وبإصبعها الأشهى من الشهد مسحت القطرات البيضاء المتناثرة قبل أن تخرج علبة الدخان المعدنية وتلف التبغ في ورق البفـرة وتضع السيجارة بفمي ثم تستلقي بجانبي وأنا ممدد على ظهري. كنا بعيدين عن العمار حيث اتفقت مع صديق لي يعمل خفيراً خصوصياً لأستعير منه “الخُص” الذي يستريح فيه أثناء وردية حراسته لمخازن الغلال التابعة لعائلة  أبو حاشي . كان شعاع من ضوء القمر يتسرب من بين عيدان البوص ليتكسر على  خجولا ، أما حنان الدنيا فتجمع بشفتيها وهى تقول:

من أين جئتني يا سيد الناس ؟

تمنيت في هذه اللحظة أن يسخطني الله شفاهاً لا تعرف شيئاً سوى الذوبان تقبيلاً. والحق أنى ذبت بالشفتين لكنى صعدت بعدها تلالا فقد كانت محبوبتي  طويلة وعفية، ونزلت سهولاً فقد كانت رشيقة ومستديرة. تذوقت عناقيد العنب، فقد كانت بستاناً كامل الأوصاف وغصت عميقاً بالأدغال المتكاثفة حول نبع الحياة، فقد كانت سر الله في نسائه.

ما لم يقله  جدي: كان دمه الحامي يغلى وأعصابه المرهفة تحتـرق كلما اقترب أحـد منها – وما أكثـر من كانوا يقتربون – باعتبارها طبق البقلاوة المرغوب. وكان العاشق الغيور مضطراً  بحكم الظروف أن يبتلع فورانه ويكفى على  الخبر ماجورا  فهو الزوج أبو العيال وهى الراقصة التي لا تحل له. بمرور الوقت لم يعد يحتمل. كان أصحابه يضربون كفاً بكف وهو يبكى أمامهم مثل طفل صغير وتسح دموع حيرته ساخنة،  وما أصعب وأغلى دموع الرجال بقريتنا ، لكن الأسوأ لم يكن قد جاء بعد. قرر أن يطلب يدها بعد أن هدته ليالي التفكير الطويلة إلى أن زواجه منها سراً  لكن على سنة الله ورسوله هو الحل. شرح لأصحابه كيف أن سيبيع البقرتين ويستغنى عن الحمار ويستلف قرشين ويعمل لها بيتاً على قد الحال ويرحمها من الشقاء والبهدلة في بلاد تحطها وبلاد تشيلها. لم تفلح محاولات الصحاب بإثنائه عن هذا الجنون الرسمي، وإن كان أحدهم جاهر بإعجابه:

 قيس و ليلى ، علىَّ الطلاق  حسين  أعظم منك يا قيس و إصبع قدمه  برقبتك يا روميو ، لكنه الحظ ..

يا عم  أقول  لك دماغه فوّت  و سيرته ستصبح  لبانا في فم  القرية  و أنت تقول لي روميو وقيس !

يا أجهل من دابة ،  هؤلاء أناس عرفوا العشق وقلوبهم احترقت  ودخلوا التاريخ. حسين   تفوق عليهم  لكن  المؤرخين  لن يتطرقوا  لحظة إلى  سيرته  طالما  هناك أشخاص على شاكلتك “ 

       ظل جدي يبحث عن معشوقته التي تحولت فجأة إلى فص ملح وذاب . الفأر لعب في عبه لأنها في المرة الأخيرة كانت “متغيرة  شوية “. وحين قال بعد انفجارهما معاً:

–  لا أقدر أعيش يوما بعد الآن  من غيرك .  

ردت عليه بنبرة  باردة لا تتفق مع حرارة اللحظة :

هذا ما كنت أخاف منه !

عرف أنها اتفقت على إحياء ليلة كبيرة  للابن البكري  لعمدة مقتدر من ناحية  المنصورة. شد معوض الرحال وهناك عرف أن العمدة خصص لجميع الآلاتية والمداحين والراقصات   ”    مندرة  ” ، أو جناح بلغة  هذا  الزمان ،  لإقامتهم . تدبر العاشق أمره وعرف كيف يجد له  مأوى حيث كان العرس لا يزال أمامه ثلاثة أيام بلياليهم.

كانت عجلة الاستعدادات قد دارت: ذبائح وخبيز وشيف خصوصى جئ به من  العاصمة ، والأهم أن معوض  قادته قدماه إلى  “غرزة” لها موقع استراتيجي يستطيع أن يطل منها على الداخل والخارج من مقر إقامة المحبوب . كان الكوخ  سابقا عصره، بل لعلها الأولى بالدلتا التي  يجتمع فيها  في مكان واحد  الحشيش والبيرة. لم يكن يسكر سريعاً أو  يصبح  ” مسطولاً ”  على الفور، باستثناء مرة يتيمة لم يستطع كبح هيجان أشواقه وحط همه في الدخان الأزرق والماء المر الذي وقع فى غرامه من أول رشفة جرعها زمان أيام الجيش حين جاء موقع خدمته بمعسكر “الهايكستب”.

وما بين  خشونة عالم اليقظة  و حريرية  عالم الأحلام، تجلى فجأة الطيف المعشوق أمام عينيه، فانتبه جدي تماما. كانت هي بالفعل. على تقاطيع وجهها الجميل، ينسدل ما يشبه الخمار الأسود وتتسلل بالظلام. انسل وراءها بخفة ورشاقة الثعالب وقلبه لا يحدثه خيراً لا سيما حين تجاوزت البيوت  إلى حيث  كوخ بعيد يقف على حراسته خفير اصطحبها إلى الداخل ثم خرج بمفرده على الفور.

هات العواقب سليمة يا رب  !

كان يضحك على نفسه، فكيف تأتى العواقب سليمة وقلوب العاشقين أصدق من مقياس ريختر. والخفير العملاق لم يأخذ في يده  ثوان حتى  تكوم أرضاً على إثر خبطة تلقاها بحجر جيري على مؤخرة رأسه. والابن الأصغر للعمدة كان راكباً والملاك مركوباً والابن الأصغر خرجت أمعاؤه بضربة واحدة من مطواة ”  قرن غزال ”  استعاد فيها العاشق المخدوع مهارته في استخدام  ” السونكى ”  وهو جندي مجند يسدد النصل الحاد عميقاً ثم يلويه بشدة ليكون الجرح مميتاً . مجاملةً للعمدة، استجاب البيه المأمور لفكرة لم الموضوع. كانت الجثتان عاريتين تماماً وقيدت الجريمة ضد مجهول ظل ينام  بالكوخ بمفرده عدة أيام. لا يأكل ولا يشرب ويرتجف بدنه من حمى غريبة جعلته يرى الغازية مكان الفتاة اللعوب التي كانت بصحبة الطيار الإسرائيلي وهو يطارد فلول المنسحبين من سيناء. الله الذي جعل كل شيء له أول له آخر، كتب لجدي عمراً جديداً. كان أول ما فعله أن تزوج من جدتي سميرة  التي  تحول  اسمها  إلى “سميرة” بحجة أنه  التدليل  و الحب . أما السبب الحقيقي الذي لا   يعلمه سوى الحفيد الفضائحي الذي يتحدث إليكم الآن ، فهو أن سمر هو اسم من شغفته ذات يوم حباً . وكلما أخرج صورتها   من محفظته البنية الضخمة وقارن بينها وبين سعاد المستلقية بجانبه على الفراش،  همس لنفسه  ” فولة  وانقسمت نصفين ” . وكان معه كل الحق…

……………..

كاتب من مصر

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون