علائقيات الحكي وفواتح السندباد

د. نعيمة عاشور حامد

“فاتحة للسندباد” هو عنوان المجموعة القصصية التي صدرت مؤخرًا للكاتب محمد عبد الحافظ ناصف عام 2021 عن المجلس الأعلى للثقافة تقع في 279 صفحة من القطع المتوسط.

تضم “فاتحة للسندباد” خمسين قصة ضمن ثلاثة أبواب، وفيها ينسج الكاتب مجموعته القصصية، ونلمح مع بداياتها ولع الكاتب بتنوع شخصياته وتعدد المستوى اللغوي بما يتلاءم مع هذه الشخصيات حتى تتحول الحكاية إلى أشخاص حقيقيين؛ حيث يقدم الراوي في سرده مجموعة أنماط لغوية تتحدد في العلاقة بين الإشارات والعلاقات الدلالية في الجمل، حتى تلتقي المتغيرات اللفظية، ويتحدد الفعل الخطابي القصصي في علاقته بغيره من الأفعال، وهي أصناف يشكلها الخطاب باعتبارها جزءًا من النشاط الاجتماعي.

واستنادًا إلى العلائقيات النصية لـ”فاتحة للسندباد” بين الكلمات والإشارات اللغوية وكيفية تصنيفها لأجزاء من العالم الاجتماعي ومن علاقات الترادف والتلازم والمسلمات والسمات النحوية والتفرع الدلالي على أنواعها، تتميز كل قصة من قصص المجموعة بأنها طريقة مختلفة في التمثيل الاجتماعي تملك درجة من التطور عبر أزمنة مختلفة وأمكنة متنوعة، وأن كل قصة تنبئ عن عدة ممثليات خطابية لجوانب عديدة من العالم الحكائي، فالخطاب الحكائي القصصي أسهم في توليد الكثير من الممثليات الخاصة في علاقته بالشخصيات وتطور الأزمنة والأمكنة اختلف من حيث درجة التكرار والثبات الوصفي أو الزمني، حتى أسفرت القصص عن أنماط مختلفة من ضروب الخطاب، إذ تكوَّن خطاب جديد مهجن من تمفصلات خيالية قديمة.

وبين فواتح ثلاث تتصل العلائقيات وتتمفصل؛ فاتحة للروح، وفاتحة للقلب، وفاتحة للسندباد. ثلاثة فواتح تشكل مفتتحًا مهمًّا للمجموعة القصصية، يجمعها لون أحادي واحد هو الخوف، وفيها يُجثم الواقع الاجتماعي بثقله على الشخصيات ويُشكل مسرحًا للأحداث، مفتقرًا للحرية الفردية.

وتتعدد أوجه الخوف وتتعقد؛ حيث تفتتح به فاتحة للروح رائحة الموت فقد ماتت أم جار النبي، ماتت بالأمس حتى أحس باليتم بطل أحداثها، وتغير لون الماء بعينيه وانتقل من لون الصفاء والحياة للون آخر حزين، وتغيرت سحب التراب الجاثمة على صدره حتى أطلق زفرات الآه، وتختتم به موت الأم وهي تعاني من رعب يعاني منه أحد شخوصه فما كان عليه إزاء هذا الواقع الموحش إلا أن يشرب زجاجة التيم باستمتاع غريب وهو جالس مكانه يعيد تفرس رؤية صورته مرة أخرى؛ ليربط ذلك بشكل متشابك ومعقد متعدد البنيات الخطابية.

وفي فاتحة للقلب ينفرط عقد الصبر وتتهادى الأشياء على مدار الأحداث على المستوى النفسي، ولا نجد إلا صدى الصوت الذي شكله الموت، وتتشكل حركة من الاكتشاف المؤلم للموت، والرضا به في الوقت نفسه، ومحاورة الموت: “سرت أتلمس الخشبة أربت عليها، أكرر لها ما قلت سلفًا فتجيب: نعم .. نعم”. وتنشغل القصة بصراع الذات وتشتعل في النهاية بإعلانها عن إحساسها بالخوف، ليتشكل صراع الذات ضد الذات، وينتهي بفقد الطرفين لأحدهما، يتوقف أمام “مقبرة أمل.. نعم أمل”. فلم يتفقا أن يقف أمامها، فقد توقف رغمًا عنه، آخذًا في العتاب أنها لم تأتِ، مع محاولة للإمساك بها حتى تلاشت بعيدًا بعيدًا، وهو بلا شك نهاية طبيعية للحياة، فقد استخدم الكاتب عنصر الواقعية الذي يؤكد إيمانه بحتمية الموت والرضا به، ومدار العمل على المستوى النفسي، والذي ينتقل من وحشة الموت إلى الإحساس بالأمان، كما أن لفاتحة للقلب خصائص علاماتية ودلالية متعددة يساعد فهمها في إدراك بعد آخر مغاير، فقد لعب تداخل اللون الأخضر للصبار دورًا كبيرًا في تحويل المشهد لترسيخ رؤية مغايرة قوية انتقلت بالحدث القصصي وامتزجت بطبيعة اللون، لينقلنا بكل رحابة في دورة طبيعية من الموت إلى الحياة مرة أخرى.

وفي فاتحة للسندباد ينشغل الراوي بخطاب أكثر استقلالية من خلال صراع الذات مع الذات مع عدة أطراف، والذات مع المجتمع، والوعي مع اللا وعي، وصراع الحقيقة مع الخيال، وهو أشبه بالموت والعدم، ومن العلاقة بين المشاركين الاجتماعيين في التفاعل الخطابي يمتزج واقع بخيال، إذ إن الأسى الحقيقي يتأتى من واقع آخر خيالي منتظر، فنجد انتقالاً منتظمًا لنمط خطابي متعدد الجوانب، ومن خلال إمكانية القيام بفعال رابطة بين أحداث اجتماعية خبراتية تنتمي إلى ممارسات اجتماعية مختلفة ونظم خطابية متشابكة ومنتظمة لغويا اشتملت على العديد من الحركات والإشارات التي جمعت أضدادًا عديدة بين الواقع واللا واقع، يزداد إيقاع السرعة والزمن وسط مجموع أطفال أضاف إليهم الفقر قسوة باردة، ومن سعيه إلى تحدي القهر يرحل أحد الأطفال مع رحلة للسندباد إلى بلاد العجب، فقد مل طريقه اليومي من الشعبية إلى محله أبو علي وسط إهانات الأسطى وضربه على قفاه، وللنوم هنا عنصر فجائي منه يسعى إلى تحدي القهر؛ إذ يغفو قليلاً، ويطير مع السندباد على بساطه السحري على قصور بغداد ودجلة، وسط مجموع أطفال من كل بلاد العالم فرحين يضحك لهم السندباد وتستقبلهم ست الحسن بوردة لكل ولد، في رغبة صريحة منه لتحرير كل هؤلاء الأطفال من هذا الواقع الجاثم بظلاله المؤلم عليهم، وحتى في حلمه لا تفلت أدواته الواقعية منه، فمعه عالمه كاملاً؛ معه إيمان، والعيال الذين يمسحون العربات بفوطة قماش قاتمة، ومعه الدركسيون لكنه هذه المرة دركسيون للبساط، فقد كان شيء عجيب إذ يجد نفسه على طرف البساط ينادي بصوتٍ عالٍ:

الهند، السند، بلاد العجب… لعالم خيالي.

فقد كانت بديلًا.. للشعبية، أبو علي، الشعبية، أبو علي… عالمه الحقيقي.

فقد رصد الكاتب العديد من عبثية حياة هؤلاء الأطفال، يحددها زمان ومكان واحد وفاعلون اجتماعيون ثابتون متعددون ومتشابهون في البراءة وسرعة إيقاع تظهر تأثيرات تعبيرية لعنصر الزمن وسرعته صوتًا وتنغيمًا وحركة سريعة والتي تتلاقى مع سرعة فرامل السائق المفاجئة، فقد زادت سرعة الإيقاع تأثيرًا على بنية الخطاب القصصي فتشكلت مجموعة من القيم التعبيرية التي يعيشها هؤلاء الأطفال، وهو نمط خطابي متميز من الكتابة يُخرج المجتمع عن صمته بهيمنة قوة أكبر وهي قوة الخيال.

تتضمن المجموعة القصصية “فاتحة للسندباد” خمسين قصة؛ منها بالباب الأول: شعر البنت، شارع الحب، عصفور، الفاوريكة(1)، بندق، حارة الموناليزا، ابتسامة القمر، ورق أبيض، مقاعد خالية، أحلام بسيطة، ليدجيا، كلمات سبارتكوس الأخيرة، أغنية الخروج، نقط فوق حروف مائلة، إصبع وحيد في كف الشمس، البحر بيضحك ليه، من حكايات البنت المسافرة، وبالباب الثاني: نصف نظرة حانية، طائر الليل، حياء الإبل، من هنا تشرق الشمس، صدى، وجع المدينة، موافقة أخيرة لكائن رافض، فاتحة للعين، الفلنكات، بقاء، مطاردة، نبوت الخفير، شعر البنات، أما الباب الثالث فيضم: قاهرة، سكر نبات، رقصة، برسيم، هئت لك، رقصة الفئران، خطوط، نُباح، تفسير، حصار، مناجاة، إبيجرامات، اختيار، خوار، وجبات، قصتان من يوم العيد، وكل عام وأنت….

والكاتب محمد عبد الحافظ ناصف كاتب مسرحي وكاتب أطفال وسيناريست وقاص ومترجم، فاز بعدة جوائز منها في المسرح: جائزة محمد تيمور للإبداع المسرحي عن مسرحية طلوع النهار أول الليل عام 1998، ومسرحية وداعًا قرطبة عام 2003، وجائزة التأليف المسرحي من المجلس الأعلى للثقافة عن مسرحيتي أرض الله والفلنكات عام 2001، وجائزة رابطة العالم الإسلامي عن مسرحية سجين الهاء والواو، وجائزة سوزان مبارك في مسرح الطفل. وفي القصة القصيرة جائزة محمود تيمور عن مجموعة الفاوريكة 1998، وفي أدب الطفل جائزة قصور الثقافة في قصة الطفل عن مجموعة “مدرستي يا مدرستي” عام 1996، ومجموعة “ابتسامة القمر” عام 2004، أما في الدراما التليفزيونية فاز بأحسن عمل درامي للطفل عروض مسرحية منها: طلوع النهار أول الليل، مسرح الهناجر، الفلنكات، وداعًا قرطبة، طلوع النهار، رقصة الفئران الأخيرة، النهر، حضرة صاحب البطاقة، الغد، حارة الموناليزا، وحكايات رمضان أبو صيام وغيرها.