لاقديسون ولا ملائكة .. اللامبالاة وسيلةً للخلاص

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هاميس البلشي

      في روايته "لا قديسون ولا ملائكة" الصادرة عن دار التنوير عام 2013، يعيد إيفان كليما صياغة فكرة اللامبلاة وعدم أخذ العالم على محمل الجد كوسيلة للتخلص من ثقل الحياة. فقدان الشغف والسير دون وجهة محددة، واعتبار الزمن هو الشيء العادل الوحيد في الحياة فقط لأنه يفضي بنا إلى الموت. يضعنا كليما في قلب الحياة من خلال الأحداث اليومية للشخصيات وما يواجهونه من قسوة الواقع. يعرض حالات إنسانية هشة مليئة بالتناقضات والشكوك والخوف. الأمور غير العادية تصبح عادية حين نعترف بأننا لسنا قديسين ولا ملائكة.

"
الحقيقة أن الطريقة الوحيدة للبقاء هي اللامبالاة بالأشياء التي نكرهها والتي تزعجنا في البشر والعالم"

       تدور أحداث الرواية في براغ في السنوات التي تلت التمرد على آثار العصر الستاليني .. تتكون الرواية من سبعة فصول تقوم على السرد الذاتي من خلال ثلاث شخصيات رئيسية. بنية الرواية مربكة غير منظمة، ولعل الكاتب تعمد ظهورها بهذا الشكل العبثي لتلائم حياة الشخصيات. كل شخصية تستخدم لغتها الخاصة التي تتفق مع نفسيتها وخبرتها العمرية وفهمها للأمور. الأحداث بطيئة، تفتقد عنصري الإثارة والتطور، وتركز على تحليل المواقف بشكل فلسفي يُشعرك بوجود رابط قوي مع الشخصيات، يدعوك إلى التوقف عن القراءة وتأمل نفسك وانعكاس أسئلتهم المحيرة على حياتك.

"
كنت دائماً أسأل لماذا أحيا. لم يعطني والديَّ إجابة واضحة أبداً. خمّنت أنهما أيضاً لا يعرفان. لكن من الذي يعرف؟"

        برع كليما في تجسيد شخصية "كريستيانا" المرأة المطلقة التي خانها زوجها- الأول والوحيد- وتركها وابنتها وحيدين. تعاني كريستيانا من نوبات اكتئاب حادة فرضت عليها العزلة، وصعوبة التواصل مع ابنتها. أودعتها خيانة زوجها إحساس بالرهبة من خوض علاقة جديدة، تحمل هواجس من الشك والخوف والتردد إزاء جميع الرجال. تلك الهواجس التي تأكدت لدى علمها بخيانة أبيها لأمها، ومن بعدها خيانة حبيبها الذي كان يصغرها بخمسة عشر عامًا." الرجال كلهم مقرفون. العناكب والرجال. غير أن العناكب ليست مؤذية". نجح الكاتب في فهم سيكولوجية المرأة المعقدة والتعبير عن أكثر لحظاتها هشاشة واحتياج باستخدام مشاعر أنثوية صادقة.

"
كل ما تتوق إليه في الحقيقة هو أن تسمع أن أحدًا ما يحبك، لكنك في العادة لا تسمعها، لأنها غالبًا ما تكون كلمات يقصد بها خداعك. حين تدرك هذا إما أن تكتئب، أو تبحث عن شيء ما يريحك. لا شيء يريحك على أية حال."

      قد نعتبر اختلاف الأجيال هو السبب وراء عجز كريستيانا عن احتضان ابنتها ووضعها على الطريق الصحيح. لكن الأم نفسها عاجزة عن تحديد طريق لنفسها فكيف يمكن أن ترشد طفلتها؟ وجانا الصغيرة المتمردة على كل قوانين والديها ترفض دور الوصاية على حياتها، وتتجه لتعاطي المخدرات هربًا من كآبة أمها ونكاية بصرامة أبيها.
      كريستيانا بكل ما تحمله من آلام ومسئولية تجاه ابنتها وأمها وعملها الذي تهرب فيه من مشاكلها، لديها شعور دائم بالذنب والتقصير. تلوم نفسها على ترك زوجها وحرمان طفلتها منه فتعوضها بالتدليل المفرط الذي ينقلب عليها في النهاية. حين تعرفت على جان تلميذ زوجها ظلت تؤنب نفسها على الأوقات التي تقضيها معه بدل من الاعتناء بابنتها، رغم أن ابنتها كثيرًا ما تغادرها ولا تكترث بأمرها.

"الطيبون يعانون أكثر لأنهم يأخذون معاناة الآخرين في قلوبهم"


       دائمًا هناك سبب، هذا ما يؤكد عليه الكاتب من خلال الأحداث. تكوين موقف عن أنفسنا وعن الآخرين من حولنا واكتشاف دوافعنا لارتكاب الخطأ أهم من الخوض في مواعظ عن الخطأ ذاته. فهم السبب يهون علينا الشعور بالذنب، ويمنحنا فرصة جديدة للتصالح مع الحياة وتغييرها.

"
على المرء أن يكون قادراً على التصالح مع الناس ، حتى إن لم يستطع التصالح مع أفعالهم "

      استخدم الكاتب رموزًا مؤثرة كالمزهريتين اللتين وجدتهما كريستيانا في الكنيسة واعتبرت إحداهما للدم وأخرى للدموع، السيمفونية السادسة لتشايكوفسكي "الشغف"، وجملة مثل "طرفة عين للرب" وتعني اثنى عشر عامًا تقريبًا، كما لعبت الشخصيات الثانوية دورًا متقنًا ووظفت في تسلسل الأحداث بشكل جيد.

      رواية واقعية شديدة الصدق والحساسية والحيرة في مواجهة الحياة، قدم فيها كليما تجربة مؤثرة، تحيلك إلى حياتك الخاصة لتكتشف رابطًا ما بينكما. الضجر والألم والوحدة والحزن والخيانة والأذى، هكذا تجري الأمور "تسلسل من ردود الأفعال. تؤذيني، فأؤذيك أنا أيضًا. من لا يؤذوون هم من يتلقون الأذى أكثر من الجميع"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم