ماجدة محيي الدين*
رحلة جديدة تقطعها الكاميرا في صفحات الأدب لتقدم صورة سينمائية لرواية الأديب إبراهيم أصلان “عصافير النيل”. قد تبتعد الصورة أو تقترب من النص الأدبي لكنها تظل تحمل روحه وتفاصيله التي التقطها المخرج مجدي أحمد علي في فيلمه السينمائي الجديد “عصافير النيل” وهو نفس اسم الرواية. الفيلم بطولة فتحي عبدالوهاب وعبير صبري ودلال عبدالعزيز ومحمود الجندي والوجه الشاب أحمد مجدي (ابن المخرج في أول ظهور له) وعدد من ضيوف الشرف: عزت أبو عوف ولطفي لبيب وألفت إمام.
يتناول الفيلم حياة مجموعة من البسطاء الذين لا تتجاوز طموحاتهم الحد الأدنى من الحياة الآمنة لكنهم يسرقون سعادتهم من اللحظات القليلة التي يمنحها لهم ذلك الزمن القاسي. ومن خلال رؤيته الرومانسية يستعرض المخرج بتعاطف واضح ذلك العالم الثري بتفاصيله وآلامه ليبدو كل منهم بطلا يستحق أن تنسج حكايته في فيلم.
تبدأ الأحداث في أحد المستشفيات الحكومية حيث يلتقي “عبدالرحيم” ـ فتحي عبدالوهاب ـ مع “بسيمة” ـ عبير صبري ـ في ردهات المستشفى بعد أن ضاق كل منهما بزحام عنبر المرضى المتراصين حوله. وبطريقة (الفلاش باك) يسترجعان قصتهما معا من خلال حوار رشيق كتبه اصلان نفسه حيث جاء “عبدالرحيم” من قريته ليقيم مع شقيقته الكبرى “نرجس” ـ دلال عبدالعزيز ـ وزوجها “البهي” الذي يعمل بهيئة البريد، ونجح في الحصول على وظيفة لـ “عبدالرحيم”. ومنذ دخوله الحارة الشعبية تقع عينا “بسيمة” عليه فهي تقطن سطح المنزل الذي يقيم فيه مع شقيقته “نرجس” وزوجها، ويلتفت “عبدالرحيم” الى عصا طويلة في مدخل المنزل ويأخذها لتتحول الى سنارة ويذهب مع أبناء شقيقته للصيد بها. ويحذرونه من أنها طويلة أكثر من اللازم لكنه يرى أن بحر النيل كبير ومختلف عن الترعة في القرية. وبدلا من أن يصطاد سمكة يخرج السنارة المرتفعة من الماء “فتصطاد عصفورا”.. كان “عبدالرحيم” يحلق بالقرب من النيل ويجري وخلفه كل الأطفال حتى يصل الى قسم الشرطة، وهناك يتم احتجازه حتى ينقذه “البهي” زوج شقيقته، وتظل تلك الحادثة مصدر تندر من أهل الحارة وأبناء شقيقته.
وعندما يلتقي مع “بسيمة” لأول مرة يبهره جمالها وأناقتها التي تساير الموضة فهي ترتدي ملابس مختلفة عن بنات الحارة ونسائها كما أنها تضح المكياج على وجهها. وتنشأ بينهما قصة حب ولكن “عبدالرحيم” يسمع من شقيقته “نرجس” كلاما يجعله يتردد؛ فهي امرأة مطلقة وأهل الحي يتعاملون معها على أنها منفلتة. ورغم ذلك يندفع “عبدالرحيم” في علاقته مع “بسيمة” التي أحبها لكنه يشعر بالحرج من سلوكها وتصرفاتها الجريئة، وتشعر “بسيمة” بذلك وتقرر ان تهجر الحارة وتختفي تماما. وينتقل الحديث بين “عبدالرحيم” و”بسيمة” إلى خارج أسوار المستشفى ويجلسان على أحد المقاهي القريبة ويتبادلان الذكريات والضحكات ويؤكد لها “عبدالرحيم” أن الكل افتقدها حتى شقيقته “نرجس” وكل اهل الحارة. ويروي لها بعض ما جرى في حياته وكيف انه تعرض لأزمة صحية ودخل المستشفى وهناك تعرف على “أفكار” الممرضة التي كانت ترعاه واختارتها له شقيقته “نرجس” لتكون عروسه. ورغم أنها على قدر من الجمال ولها خال يعمل بالخليج ويرسل الهدايا والملابس كمساعدة في تجهيزها إلا انها كانت تسخر منه ومن الجلباب الذي يرتديه.
لا ينجح “عبدالرحيم” في القاهرة فيتخذ قرارة بتطليق “أفكار”، ولكنه لا يستطيع السيطرة على رغباته ولا يجد مكانا ينفس فيه عن هذه الرغبات إلا مصعد الهيئة حيث يقضي الليلة مع إحدى الفتيات في المصعد بعد تعلقه في الطابق الأخير.. ولكن لسوء حظه يغلبه النوم هو والفتاة حتى يأتي الناس في الصباح ويكون جزاؤه الايقاف عن العمل. يعود “عبدالرحيم” إلى قريته ولكنه رغم ذلك لا يشعر بالضيق أو الخوف ويقضي وقته في الحقول وأمام الترعة يمارس الصيد. وبعد سنوات ينجح “البهي” شقيق زوجته في إعادته للعمل في وظيفة صراف على شباك المعاشات، ويتعرف على “أشجان” أرملة جميلة وتقترح عليه أن يحضر لها المعاش في المنزل، ويتفقان على الزواج. وبعد فترة ينبهه “البهي” زوج شقيقته إلى أنه لابد أن تبلغ زوجته المصلحة بزواجها خاصة انه الصراف الذي يسلمها المعاش لكن زوجته ترفض ذلك، وتقول علينا اصلاح الخطأ بالطلاق. ويشعر “عبدالرحيم” بطعنة ومرارة فقد حرم من المتعة والطعام الوفير وهكذا يجد بداخله رغبة في الانتقام منها وبعدها يهجرها. وتسعد شقيقته “نرجس” بانفصاله عن تلك الأرملة وتصر والدته على زواجه من إحدى بنات القرية، وينجب “عبدالرحيم” ثلاثة أبناء. وتتكرر لقاءات “عبدالرحيم” و”بسيمة” في ردهة المستشفى ويكتشف إصابتها بالسرطان وتلقيها جرعات الكيماوي الذي ادى إلى تساقط شعرها ويحضر لها باروكة بالاتفاق مع “عبدالله” – أحمد مجدي – لتتزين من جديد.
ويتعرض “البهي” لحادث مؤسف وهو يمارس عمله في توزيع الخطابات وينقل على أثره إلى وظيفة كتابية مما يحرمه من البدلات، ويعجل باحالته للمعاش؛ الأمر الذي أصابه بما يشبه الهوس فصار لا ينام ويكتب الشكاوى للمسؤولين بما في ذلك شكوى الى رئيس الجمهورية. يتوفى “البهي” ويترك رحيله المفاجئ مرارة في نفس كل من حوله حتى “عبدالرحيم” الذي كان يعتبره مثلا وقدوة. اما “نرجس” فتنهار صحتها وترحل بعد أن تشعر بالخوف على ابنها “عبدالله” حتى من شقيقه الذي يهدد بابلاغ الشرطة عنه؛ فهو سبق القبض عليه لمشاركته في صفوف المعارضة. وتمضي الأحداث لنجد “عبدالرحيم” و”بسيمة” يحاولان التغلب على معاناتهما وسوء حالتهما الصحية بانتزاع الضحك وسط المرضى الذين شاركوهم الغناء والمرح، بينما “عبدالله” رمز المعارضة مطارد من قوات الأمن ويحلم بالتغيير.
قدم المخرج مجدي أحمد علي معالجة شديدة الرومانسية للنص الأدبي واسقط عليها بعضا من رؤيته وتعاطفه مع هذه الشريحة المطحونة. ولعب الحوار الرشيق دورا في إضفاء قوة على العديد من المشاهد من خلال جمل تفجر الكوميديا السوداء واحيانا تكشف ابعادا غائبه في الصورة؛ مثل الحوار الشجي بين “نرجس” – دلال عبدالعزيز – وزوجها “البهي” – محمود الجندي – عن خوفها من الظلام، وكذلك رده عندما تقول: نحن نعيش مستورين والحمد لله، فيقول لها: “انت شايفه كده.. طيب”. وحتى عندما يعود ابنها “عبدالله” من المعتقل تحذره من السياسة لكنها تعود فتقول له: “انا عارفة انك سوف تنفذ ما تريده”.
تفوق اداء فتحي عبدالوهاب في شخصية “عبدالرحيم” القروي وهي الشخصية التي منحته جائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة السينمائي، كذلك عبير صبري قامت بأداء سلس شخصية “بسيمة” بكل تحولاتها. اما دلال عبدالعزيز فقد جسدت واحدا من اجمل ادوارها مع “نرجس” واضاف محمود الجندي لرصيده من الادوار المتميزة بأدائه لشخصية “البهي”، ولقي الوجه الشاب احمد مجدي قبولا وتعاطفا رغم مساحة دوره الصغيرة ، ونجح مدير التصوير رمسيس مرزوق في أن يوظف الإضاءة والظلال لتلعب دورا مباشرا في تأكيد الحالة الدرامية للفيلم، وتناغمت الموسيقى التصويرية لراجح داود مع الأحداث، واتسقت لمسات مهندس الديكور خالد أمين مع الحياة البسيطة التي لا تخلو من مسحة جمال في بعض التفاصيل.