ـ والباسبور؟
قال مادًا يده نحو الموظف.
ـ هل تحب أن نحتفظ به عندنا؟
قال الموظف دون أن يُحَوِل نظره عن شاشة الكمبيوتر.
ـ لا من فضلك، أنا لا أشعر بالاطمئنان إلا وجوازي بجيبي.
أخرج كلماته بكل ما استطاع من حزم.
ـ سيبقى عندنا، هذه هي التعليمات.
رد الموظف بحسم لم يترك له سوى الاستسلام. أومأ موافقًا ولمّ ذراعه الممدودة. مضى نحو صف المصاعد. لم يكد يقف بين المنتظرين حتى انتبه إلى صوت هرولة كعب أنثوي على رخام البهو.
ـ عفوًا، سيدي لقد وقع خطأ.
التفت إلى الصوت. وعاد خلفها. دارت وانتصبت وراء منصة الاستقبال، ووقف في مواجهتها، يُقلِّب وجهه بينها وبين زميلها الذي أنهى له الإجراءات، عيناها البنيتان الواسعتان تختلفان عن عيني زميلها الضيقتين السوداوين، تظلل جفنيها الواسعين بأزرق يتناسب تمامًا مع لون الزي الرسمي الذي يرتديانه، لا يعرف إن كان الموظف جذابًا بالنسبة للنزيلات، لكن الموظفة كانت ستبدو جذابة بالنسبة له، لو لم تكن ترسم الابتسامة الرسمية والنظرة المداهنة نفسها التي لم يحبها من زميلها، دقق في ابتسامتها مجددًا، استرجع ابتسامة زميلها، لا يوجد أي اختلاف، لو كانت الابتسامة مجرد مهارة تجارية لاختلفت الابتسامتان في تفصيلة ولو صغيرة، لكنهما متطابقتان تمامًا وتخلوان من الأريحية المدعاة التي تصبح كالطبيعية من كثرة الاعتياد. مسحة سخرية خفيفة لا تخطئها العين على الوجهين.
لم تبرح الابتسامة المستفزة وجه الموظفة، التي لم يعد يرى من عينيها سوى الجفنين الغارقين في الأزرق، بينما ترقن البيانات.
ـ أي خطأ؟ لا أفهم.
سأل، محاولاً خلخلة هدوئها.
ـ معذرة سيدي، اتصلوا أمس وطلبوا ترفيع حجزك إلى غرفة أفضل، لكننا نسينا.
واصلت الضرب على مفاتيح الكمبيوتر دون أن تتخلى عن ابتسامتها، مدت يدها؛ فناولها بطاقة الباب، وسلّمته الجديدة.
ـ إقامة ممتعة سيدي.
لم يرد، وانسحب نحو المصاعد مجددًا. أومأ له الحمّال بأنه سيتبعه بالحقيبة إلى الغرفة الجديدة. سار خطوات والتفت بشكل مباغت إلى الحمّال ليرى تعبيرات وجهه، لكن الرجل استدار لتحية نزيل جديد يتقدم من طاولة الاستقبال.
استأنف سيره، وانساب بين الداخلين إلى المصعد، ضغط رقم 21، عدّل من وقفته، انتبه إلى نظرة متفحصة مندهشة في عمق الجدار الصقيل، تطلع بابتسامة متحفظة فوسعت المرأة من ابتسامتها. مع توقف المصعد بين طابق وآخر؛ أخذ الزخام يخف. وصار في مواجهة المرأة وحدهما. أومأت له بتحفظ، وفي عمق عينيها رأى نداءً عاتبًا. سرت قشعريرة رغبة في جسده، انقلبت فورًا إلى انتفاضة ريبة. أشاح بنظره نحو عدّاد الأدوار باللوحة المضيئة على جبهة المصعد مترقبًا الوصول. بين لحظة وأخرى يفاجئ المرأة بالنظر مباشرة في عينيها فتتصادم النظرتان، يدقق في الابتسامة فيلمح ظل سخرية مستفزة.
أخفض بصره، وتحجر في وقفته كصنم. لكن صوتًا في داخله كان يعَنَّفه على جبنه.
ـ هذه مجرد نزيلة مثلك.
قال محمسًا نفسه. باغتها بنظرة مقتحمة، لكن عينيه ارتدتا مخذولتين بغير قتال، لأن عيني المرأة كانتا مغلقتين. لم يعرف إن كانت تريحهما أم تفكر في شيء عميق يستوجب الإحساس بغيابه. عاد يحدق في جفنيها المسبلين الغارقين في الأزرق، لاحظ أنها لا تضع رموشًا صناعية كفتاة الاستقبال، وتبدو رموشها أضعف من المعتاد، بل غير مرئية، لكن حاجبيها كانا محددين بطريقة أنعم وأكثر إثارة. تقدم نحو الباب وهرول خارجًا لحظة توقُف المصعد في طابقه. خرجت المرأة في إثره تجر حقيبتها الصغيرة. اجتهد في إخفاء دهشته من توقفها في الطابق نفسه. أخرج المغلف ليقرأ رقم غرفته الجديد الذي لم تتمكن ذاكرته من حفظه فوق الرقم الأول. استطلع الاتجاهات ومضى صوب الغرفة، منصتًا إلى وقع خطوها الذي أخذ يبتعد.
قرأ الرقم على كتف الباب، وقف يتأمل الممر الخالي.
تقدم، ومرر البطاقة على القفل فسمع تكة الفتح، أدار الأُكرة وخطا إلى الداخل. أحكم إغلاق الباب ووضع البطاقة في ميمنها فاشتعل ضوء مدخل الغرفة، وسمع هدير الهواء من فتحة التكييف. تصاعدت ضربات قلبه بينما يتقدم متمهلاً يستطلع الغرفة الفسيحة شبه المعتمة. وزع نظرات متعجلة على الزوايا، خلع الجاكيت وأراحه على طرف السرير. سقطت ومضات نور على وجهه كصفعات متتالية، تطلع إلى السقف الأملس يتأمل وميض جهاز إنذار الحريق جيدًا. أضاء نور الغرفة فغطى وميض الإنذار. أعاد تأمل السقف، انحدرت نظرته تمسح الجدران، دقق في الستائر، دار حول شاشة التليفزيون، رفع التليفون من فوق المنضدة وأداره بين يديه، أخذ في فحص الأباجورات واحدة فواحدة، يحركها، يضغط أزرارها ويتأملها عن قرب تحت أنوارها.
فتح خزانة الملابس بالممر فاشتعل ضوؤها، تأملها جيدًا. أعاد إغلاقها ودخل الحماّم، تأمل سقفه وجدرانه، رفع غطاء التويلت وفتح سوستة البنطلون، أمسك عضوه بيمينه وجعل من كف اليسرى سقفًا يستره مثلما اعتاد أن يفعل في مبولة عامة. انتهى مدققًا في لون البول، ضغط زر الصرف، وانسحب إلى حوض الغسيل. فض غلاف الصابونة وغسل يديه، جففهما جيدًا بالمنشفة الناصعة، خرج وجلس بجوار الجاكيت على طرف السرير.
عاود التحديق فيما حوله، وشرع يستقطر الألفة من أصوات الممر؛ يحاول تحديد جنس الخطوة على الموكيت باذخ الخملات، ينصت إلى فرك العجلات والاصطكاك المعدني؛ فيميز حركة عربة النظافة من حركة ترولي الطعام الذي يستخدمونه لتوصيل الوجبات إلى الغرف، يجمع رذاذ الكلمات المختلطة مع أصدائها، يحاول تركيب جملة فلا يهتدي لمعنىً، كأنها لغة البدء، قبل أن تتشقق إلى ملايين اللغات واللهجات.
حل صمت في الممر؛ ففقد السلوى التي منحتها له لعبة التخمين. تصاعد توتره، وأحس برغبة في التبول مجددًا. قام إلى الحمام. فك حزام البنطلون ولم يتركه للسقوط الحر، أمسك بطرفيه وجلس قبل أن يكمل تعري منطقة الحوض، تطلع إلى السقف، ثم إلى فخذيه، جمعهما بحيث لا يبدو شيء من عريه، نفخ بطنه وأرخى مثانته، لم ينزل شيء، واصل جلوسه منظمًا تنفسه بعمق، انسابت منه قطرات من الماء. تطلع إلى السقف مجددًا وجمع طرفي البنطلون وشرع في رفعه قبل أن يغادر مقعد المرحاض، عندما استوت وقفته كان قد أحكم ارتداء بنطلونه. لم تتلوث يداه، لكنه قطع الخطوة إلى المغسلة، اغتسل وعاد إلى جلسته على السرير. تطلع إلى الساعة حانقًا، لم يمض أكثر من خمس دقائق على وصوله الغرفة.
ـ لماذا أشعر بها كدهر؟!
فكر مندهشًا من الفرق بين إحساسه الثقيل بالوقت وبين المسافة الصغيرة التي قطعها عقرب الدقائق. استل محفظته من الجيب الخلفي للبنطلون، أخرج ورقة بخمس دولارات، وضعها في جيب القميص لتكون في متناول يده عندما يصل الحمّال. كان قد وضع ثلاثة دولارات مفردة بالجيب الأيمن لبنطلونه قبل أن يغادر بلده، كما اعتاد أن يفعل. يدفع بالدولار في كل أسفاره. وقد استقر على الاعتقاد بأن الدولارات الثلاثة بقشيش مناسب. ربما سيبدو سخيًا أكثر من اللازم في دول مقترًا قليلاً في أخرى، لكنه مقبول في كل الأحوال. اعتاد أن يضع الدولارات الثلاثة في جيب وحدها، حتى يخرجها اعتباطًا ويدسها سريعًا في يد الحمّال، فلا يمنحه فرصة لزيادة سقف توقعاته؛ فلو رأى يديه وهما تفتشان بين الأوراق الكبيرة في المحفظة لن تكون الدولارات الثلاثة مقنعة حتى في أفقر الدول.
هذه المرة ترك الثلاثة الفكة في مكانها وجهّز ورقة الدولارات الخمسة في الجيب الآخر، ورقة نظيفة مشدودة لم تستخدم من قبل. لا يعرف لِمَ فعل ذلك، ربما يحاول شراء صداقة الحمّال بالدولارين الإضافيين، وربما كان تفكيره برفع البقشيش مجرد محاولة لتفريغ توتره بالانشغال في إحصاء النقد الذي يحمله والبحث عن خمس دولارات بين الأوراق.
سمع الصوت المكتوم لدهس عجلات على موكيت الطرقة، مضى إلى الباب، تطلع من الثقب وفتح للحمّال قبل أن يطرق. سد بذراعه طريقه وتناول منه الحقيبة، وطوى ورقة الدولارات في يده، وأعاد إحكام الباب. تنفس بعمق ورفع الحقيبة إلى المنضدة المخصصة لها في مواجهة الخزانة. خلّص قدميه من الحذاء وخطا حافيًا نحو السرير. خلع البنطلون ومسَّدَه بجوار الجاكيت، خلع القميص وتشمم الكُمين من تحت الإبط وأراحه بجوارهما. عاد إلى مدخل الغرفة ملمومًا يداري عريه. فتح الحقيبة أخرج كيس الأدوات الشخصية، استل شورتًا وفانلة ناصعة أنيقة، ارتداهما وبدأ في التحرك بتحفظ أقل، شرع في إفراغ ملابسه من الحقيبة. خطا نحو السرير، حمل البدلة وعلقها فوق الشمّاعات بالدولاب. أغلق الأنوار واندس تحت الغطاء.
لم تفلح لعبة التناوم في سحبه إلى نوم حقيقي. فتح عينيه في عتمة الغرفة، لم يكن سوى الصمت ووميض جهاز الإنذار في السقف. أحس في صدره بآنية من الزجاج تتكسر. مد يده إلى زر النور، هدأ قليلاً. قام إلى الستارة جذب الحبل فأزاحها ونظر من خلف واجهة الزجاج، اكتشف أن غرفته ترى المدخل، شرع يتأمل الحركة. عمال الاستقبال ينحنون بالتحية للخارجين والداخلين، يهرعون إلى السيارات التي تتوقف، يفتحون الأبواب لركابها، يلتقطون حقائب النزلاء الجدد من صناديق السيارات ويتبعونهم إلى الداخل، دغدغت الشمس بشرته وأحس بالقلق يتبخر من بين مسام جلده، ونام.
2
أقام مرارًا في غرف بطوابق مرتفعة، لها واجهات زجاجية مشابهة تطل على بحار وأنهار وحدائق، اعتاد جمع الستائر والاستمتاع بعريه تحت الضوء المقتحم للواجهات الزجاجية، مطمئنًا إلى الفضاء الواسع أمامه. يتصرف بهدوء واثقًا من استحالة مراقبته إلا عبر منظار رؤية؛ وذلك احتمال نادر، يَعبرُ ذهنه فلا يقلقه، بل على العكس يستعذب إمكانية أن يشاطره شخص بعيد مجهول حفل تعارفه على جسده، مثلما يستعذب المسافر البوح بأسراره لرفيق رحلة قطار لن يراه ثانية.
يستلقي على السرير مستمتعًا بالأثر المدغدغ لتهاوش برودة التكييف مع دفء الشمس على بشرته، يتعرف على أعضائه المخفية في أيامه العادية تحت ثقل الملابس وكثرة المهام؛ يكتشف شامة جديدة هنا، تغيرًا في لون أخرى هناك، يمسح على بطنه ويقارنه بآخر مرة تأمله فيها فيعرف أن عليه الحذر وتقليل حجم وجباته أو زيادة حركته، يمد يده متحسسًا شعر ما بين إليتيه وفوق العِجان، يحمل عضوه على راحة يده ينظر في عينه؛ فيرى في استكانته تحت الشمس المتسللة من الزجاج رضا الطفل الهني، يُقِّلبه فيرى غلالة مترهلة تحت ذقنه تضفي عليه استسلام الشيخوخة، يفركه بأصابعه فيأخذ بالامتلاء، ويستجمع ذاته بتموجات ثعبان، يحتويه في راحة يده، ويمد إصبعًا يتلمس به كيس خصيتيه المتدلي، الآخذ في التماسك حتى يستدير كحويصلة ديك ممتلئة بالحَب.
لم يتخل عن عادة إزاحة الستائر في لحظة استيقاظه الأولى، لكنه لم ير في واجهة هذه الغرفة شاشة عرض بل بابًا للهروب، ومصدرًا للعون، يستجدي عينًا بعيدة تتلصص عليه، لا من أجل متعة البوح لغريب، بل طلبًا لشاهد.
ـ كثير من الجرائم يحل غموضها متلصص نبيل.
فكر، بينما يرتد عن الواجهة الزجاجية في هذا الصباح المشرق. وقف في منتصف الغرفة يتأملها.
ـ ليس الأمر بهذه الخطورة.
قال لتثبيت قلبه على حالة الهدوء التي هبّت على روحه كنسمة لطيفة. تطلع إلى الساعة. اكتشف أن وقت الغداء قد بدأ.لا يشعر بالجوع، لكن فكرة النزول إلى المطعم جاءته كإلهام. تطلع إلى هندامه في المرآة. لا بأس، سأذهب هكذا. انتعل حذاءًا رياضيًا، سحب بطاقة الباب وخرج.
مضى يتطلع إلى أبواب الغرف في الممر الخالي، وصل إلى بهو المصاعد، ضغط زر النزول وأخذ يراقب واجهات الأبواب ليرى أي المصاعد أقرب إلى تلبية طلبه، هرول إلى الباب الذي انفتح، وابتلعه المصعد هابطًا إلى الطابق الأول.
عندما خطا خطوته الأولى في المطعم رأى المرأة التي التقى بها في المصعد يوم وصوله. تجلس إلى طاولة تستقبل الباب، أشرقت عيناها عندما رأته، كأنها كانت بانتظاره. تأملها بارتياح هذه المرة. حتى لو كانت هناك مراقبة في هذا الفضاء العام، فلن يعني تبادل النظرات شيئًا. الجميع يفعلون هذا. اختار طاولة صغيرة ترك عليها هاتفه وبطاقة الغرفة. مضى إلى طاولة العرض، وبدأ يتخير طعامه. بين الحين والحين يختلس نظرة إليها فتلتقي عيونهما. عاد إلى طاولته جلس بزاوية تتيح له رؤيتها. نظر إلى مفرق نهديها، أمالت رأسها تتأمل صدرها، ثم مدت نظرها نحوه.
ـ تلصصت على نهديّ، أليس كذلك؟
سألته ابتسامتها المتواطئة. وظهرت غمازة جميلة بخدها، شرع يتأملها بانتباه. تبدو خمسينية، لكنها رشيقة ومتماسكة تمامًا، عيناها ضيقتان حقًا، لكنهما أجمل مما رآهما في المصعد، الشعر أفحم، والبشرة حليبية؛ يمكن أن تكون من أي مكان معتدل الحرارة. حملته اقتحامات عينيها إلى تنكيس نظرته في طبقه.
ـ الخوف أول علامات الشيخوخة.
وبَّخ نفسه بصوت يكاد يكون مسموعًا. لكن ذلك لم يمنحه القوة بل المزيد من الاضطراب. تصاعد حنقه على نفسه فصار غضبًا تطلع به إلى المرأة؛ فأشاحت بنظرتها إلى اتجاه آخر.
في شبابه، لم يكن يعرف الحذر. لا يفرغ حقيبته في غرفة حتى تتأجج رغبته، ينطلق إلى مناطق الصيد. يبدأ بالمنطقة الأنعم، غرف التدليك وحمامات الساونا، بركة السباحة، ثم المطعم. اعتقد دائمًا أن طقوس النظافة توسع مسام الرغبة، وأن نساء تلك المنطقة المدللات مثل أسماك المياه العميقة؛ مزودات بخلايا ضوئية تكشفهن. من حركة العينين في محجريهما يستطيع التمييز بين المرأة التي تمضي إلى رجل ينتظرها وتلك التي تسعى إلى التعارف. في مرات نادرة كان يعود من ذلك المكان الدافئ وحيدًا، فيجرب الصيد في المناطق متوسطة العمق مثل بركة السباحة وغرفة الجيم، فإن لم يستطع يَقنَعُ بالصيد في المياه الآسنة. ولم يكن يخرج خائبًا من البار أبدًا.
سفراته مُرتبة بشكل دقيق في ذاكرته، حسب سرعة ومكان الصيد. في عديد من السفريات تلقى تدليكًا مجانيًا في ليلته الأولى، في بعضها وجد وليفة في اليوم الثاني، ثم تدهور الوضع، وانتظم سنوات على الصيد في الليلة الأخيرة، ودائمًا من فتيات البار. وعندما بدأ يدفع أموالاً، أيقن أنها النهاية.
كان يتقبل الانحدار برضى وتسامح، وعندما أشرف على الستين بدأ في التركيز على مهامه العملية في السفر، قانعًا من المتع بمتعة التعري منفردًا وإعادة التعارف مع جسده الذي كان ينشغل عنه بتأمل أجساد رفيقات الغرف المستعجلات.
بدأ يستطعم متعة الاستغناء وما تجلبه على روحه من سلام، ولم يعرف منذ سنوات الفضول الذي يتصرف به مع هذه المرأة، رغم حدسه بأنها تجره إلى خطر يشم رائحته منذ هبوطه من الطائرة.
ـ لماذا هنا بالذات؟
قال مؤنبًا نفسه. قامت المرأة وخطت باتجاه طاولة عرض الطعام، وأخذت توزع نظراتها بين تلمس الطريق وبين التلصص عليه. حفّت به أثناء سيرها فهب عطرها وأصابه بالاضطراب، غرس عينيه في طبقه، تجاوزته، فأرخى نظرته تتأمل خطوها حتى توقفت أمام الطاولة. انحنت والتقطت طبقًا. دقق في مؤخرتها وساقيها، فتحول فضوله إلى رغبة بدأت تتحرك.
ـ صحوة الموت يا تُرى!
فكر بسخرية، بينما اعتدلت المرأة واستدارت نحوه جافلة كأنه قرصها. التقت عيناها بعينيه؛ فابتسمت وأسبلت جفنيها واستدارت بتأن. خطت تتأمل المعروضات، رفعت صوتها بالنداء على نادلة، بينما تناوشه نظرتها. تهرول النادلة نحوها، فتسألها بصوت مسموع تمامًا عن اسم حلوى، تنظر إلى النادلة بعين، وبالأخرى تراقبه. تعود بالطبق الصغير في يدها؛ فيغض بصره متظاهرًا بعدم الاهتمام، بينما يستعيد طريقتها في نطق الإنجليزية لكي يُخمِّن موطنها؛ فلا يهتدي.
لم ترفع الشوكة إلى فمها مرة واحدة، واضح أنها كانت تريد أن تتمشى أمامه فحسب، لم تتخل عن البحلقة فيه، بينما تتقدم عيناه نحوها خطوة وتتقهقر خطوة. أنهى طبقه، ولم يشعر برغبة في تناول شيء آخر، دحرج نحوها ابتسامة؛ فمالت نحوه مبتسمة.
ـ ابتسامة أخرى ستأتي إلى طاولتي.
اهتز قلبه ببهجة الظفر للحظة، ولم تلبث فرحة الصياد أن انقلبت خوفًا، سمع ضربات قلبه تتصاعد. نهض وانصرف متداعيًا. أخذ شهيقًا عميقًا أمام المصعد، تلفت حوله ليتأكد أنها لا تتبعه.
خطا خطوته الأولى داخل الغرفة، وأحكم الباب سعيدًا بنجاته من ارتكاب حماقة. كانت العتمة قد حلت. لم يشعل الضوء، والتصق بالباب حابسًا أنفاسه يتطلع من الثقب، ظل الممر هادئًا لم ير فيه شبح إنسان. وضع البطاقة في الميمن فأضيئت الغرفة، شرع يتأمل الأشياء مجددًا.
ـ كيف لم ألاحظ هذا من قبل؟!
قال مندهشًا أمام الأشياء فوق الطاولة؛ ماكينة القهوة، غلاية الشاي، والصندوق الخشبي المليء بخراطيش بن وأكياس مشروبات متنوعة وأكياس سكر. قلّب في محتويات الصندوق، واستدار نحو الدولاب، فتح ضلفتيه مستطلعًا، كانت البدلات معلقة بالترتيب الذي يتذكره جيدًا، والقمصان مطوية على رفها كما تركها بالضبط. تقدم إلى الهاتف. ضغط رقم الاستقبال.
ـ هل من رسائل؟
سأل كالعادة، آملاً في جديد وقع أثناء غيابه عن الغرفة، لكنه تلقى الرد ذاته.
ـ لا شيء لدينا، يمكنك أن تتفقد جهاز الرد يا سيدي.
ضغط زر تشغيل الرد، خاطبه الجهاز بصوته الآلي المتقطع. لديكم..عدد..أحد عشر..رسائل. للاستماع اضغط رقم ثلاثة.
ـ لا جديد؟!
مع ذلك شرع في الاستماع إلى الرسالة الأولى.
ـ هاي مامي. وصلت إلى نيويورك، سأحاول النوم قليلاً، طمنيني عنك.
الثانية:
ـ مامي؟ طمنيني بمجرد سماع هذه الرسالة. أحبك.
أخذ يرهف منتبهًا إلى تصاعد التوتر من رسالة إلى أخرى.
الثالثة:
ـ مامي، متى تعودين إلى غرفتك؟ بدأت أقلق بشأنك جدًا، بليز مامي.
حاول تقدير عمر الأم التي سكنت الغرفة من صوت الابنة الثلاثينية القلقة، كي يستنتج نوع الخطر الذي يمكن أن تتعرض له النزيلة.
ـ مامي! الساعة عندك الآن الخامسة فجرًا، معقول؟ هل غادرت الغرفة في هذه الساعة؟
أرهف مجددًا للنبر. تأكد من هدوء صوت المرأة الشابة، مع غياب المرح الذي ينط من نبرات الرسالة الأولى. هل صادفت ردًا من أمها قبل هذه الرسالة فاطمأنت عليها؟
أصابه الوجل في ثواني الصمت التي تسبق الرسالة الخامسة، وانطلق الصوت الذكوري الواثق، الذي ينجح في إرهابه كل مرة، بينما يصدر تعليمات المقتضبة لساكن الغرفة.
ـ سيرسلون لك سيارة في التاسعة. الرجل الكبير ينتظرك. لا توافق على أي تغيير، اطلب مهلة للرد.
السادسة:
ـ هيييه؟ مقابلتك انتهت من ساعتين، لماذا لم تهاتفني؟
السابعة:
ـ بابا! وحشتني. أرجو أن تسأل عن بطارية لتليفون نوكيا، إذا لم يكن متعبًا لحضرتك، هي لفريد صديقي، هناك رقم مسلسل لكل طراز، سأرسل لك الرقم على محمولك. لا تشتري إلا إذا وجدت الرقم بالضبط.
الثامنة:
ـ بابا، وصلتك رسالتي؟ لا تتعب نفسك كثيرًا، فريد يقول إن الموديل صار نادرًا، لا تنسى الشيكولاتة المُرة.
التاسعة:
ـ هاي. لا تلعب بذيلك يا حبيبي، أراك. هي هيء، ابنك لا يكف عن رفسي، عندما أضعه سأتركه في رعايتك تسعة أشهر وأنااااام، أحبك.
العاشرة:
ـ مساء الخير. أمورنا طيبة. الحمامة باضت خارج العش.
الحادية عشرة:
ـ السفينة جنحت. والمنارة آيلة للسقوط.
انتهت الرسائل، وكالعادة أحس بالإحباط. هل هو مجرد إهمال؟لا رسائل، لا اعتذار عن عدم الاستقبال في المطار، لا زيارة تعارف، لا تحديد موعد. سرح في رسائل الآخرين، وبدأ يعيد التفكير في مضامينها.
ـ ما هذه الألغاز؟!
تساءل، فبدأ يسمع تكسير الآنية الزجاجية في صدره. أخذ يضغط زر الاستماع مرة بعد أخرى، ينصت بتأن خال من صدمة المباغتة، يراقب الإشارات الخفية وراء الأصوات، يفرز صوت الثلاثينية المسرسع من الصوت الرجولي السلطوي الغليظ من صوت الغلام من الصوت الأجش لامرأة شرهة التدخين. شرع يبني من الرسائل حياة لكل مُخاطِب وحياة لكل مُخاطَب، يحاول أن يحدس كيف انتهت إقاماتهم في هذه الغرفة؛ يُسلي نفسه باختراع أقدار تلائم كل منهم.
الأم اختفت تحت الحصيرة الخرسانية لبرج سكني، ولم يتسن لها الاستماع إلى ابنتها التي سرعان ما توازنت وابتلعتها هموم الحياة في نيويورك. الأب لم يحمل الشيكولاتة إلى ابنه لأنه اختفى في سرداب مظلم. الزوج عاد إلى بلده، قدم براهين براءته، لكنه لم يتحمل أنانية زوجته، ووجد امرأة أخرى أقنعته بأنه يستحق التدليل، ومضى معها هربًا من مهمة تغيير حفاضات الوليد. تحير تمامًا في الحمامة التي باضت خارج العش والسفينة التي جنحت، لابد أن الساكن الأخير كان في وضع مطاردة لم تكتمل وعاد محبطًا، أو ربما ظهرت له السفينة، وفي لحظة فَرَحهِ باقترابها تلقى منها زخة رصاص رصَّعت صدره.
ـ أي هذه المصائر سيكون لي؟
تساءل دون خوف؛ وكأن الأمر يتعلق بشخص آخر ممن سكنوا الغرفة. لهفة انتظار رسالة تحولت في هذه اللحظة إلى مجرد فضول، كأنه لا يريد أن يعرف محتواها إلا ليتمم سيرة الغرفة.
ـ إن لم تصلني رسالة، فلن أترك أثرًا يشوش ساكن هذه الغرفة من بعدي.
قال، وقام يعبث في أوراقه، وجد اسم ورقم تليفون موظف العلاقات العامة الذي كان قد وعد بانتظاره في المطار ولم يفعل. أدار الرقم من تليفون الغرفة، رد صوت طفل، لم يفهم منه شيئًا. وضع السماعة وجلس على حرف السرير. أخذ يتأمل صورته في المرآة، ليرى إن كان ثمة قلق يبدو على ملامحه. أحس بالغازات تملأ بطنه وتضغط من أجل الخروج. بدأ بتسريبها شيئًا فشيئًا، حتى لا تصنع جلبة.
ـ لن يروا إصبعي في أنفي، أو يروني أعبث بأعضائي، ولن يسمعوني أتجشأ أو أضرط.
قال مصممًا، وأخذ يتلفت مجددًا، يتأمل السقف ويستطلع زوايا الغرفة. مد يده مطفئًا الأنوار. تسللت أضواء الخارج خافتة، بينما بدأ يتفزز تحت ومضات جهاز الإنذار بالسقف.
3
أحس برنين التليفون خافتًا بعيدًا كحلم، تجاهله وواصل نومه، لكن جهاز تسجيل الرسائل انفتح، فنبهه.
ـ مرحبًا بك ضيفنا العزيز، كيف كان نومك؟
صوت قاطع، جعل السؤال أقرب للاستجواب منه إلى المجاملة.
مد يده إلى السماعة، سقطت منه على الأرض، استعادها في لهفة، وبدأ في الرد على المتصل، لكن الرجل استمر في إبلاغ رسالته للمسجل كأنه لا يسمعه. انتهت الرسالة وبدأ الصفير على الجهة الأخرى من الخط. وضع السماعة دون أن ينقطع صفيرها الموحش. مد يده وأحكم وضعها فانقطع الصوت. أعاد إغماض عينيه محاولاً استعادة الرسالة. لم يقل الصوت أي شيء عن اللقاء، كل ما هنالك أن الفندق لديه تعليمات لتلبية كل طلباته.
فتح عينيه، نظر في ساعته. كانت قد تجاوزت العاشرة. لا يعرف كيف واصل نومًا مصمتًا كجدار، رغم أن الضوء يغمر الغرفة. انتبه إلى أن الشمس تسقط مباشرة على وجهه. كيف لم توقظه، هو الذي يستيقظ في بيته إذا تسربت من شق الباب إشارة على إشعال نور الممر.
ـ كم أتعبتُها!
قال متذكرًا مطلقته التي انفصل عنها منذ عشرين عامًا، عبر روحه حنين عذب سرعان ما زال مثل رائحة ياسمين حملتها هبّة ريح ساخنة وطوحتها بعيدًا. أغمض عينيه وملأ رئتيه بالهواء محاولاً فرز الرائحة اللطيفة من الهواء المثقل بالرطوبة، خنقته رائحة ثقيلة كرائحة عطر دهن العود المختلط بالعرق في نهار قائظ. زفر فلم يخرج من صدره سوى إحساس بالذنب أثقل تنفسه، عاود ملء صدره بالهواء منتبهًا إلى شهيقه وزفيره مرارًا. كم عذّب هذه المرأة بنومه الخفيف. كانت تضطر إلى المشي على أطراف أصابعها وارتداء ملابسها في الممر دون إشعال الضوء، وكثيرًا ما كانت تكتشف في نور الشارع أن مكياجها مضحك، أو أنها ارتدت البلوزة مقلوبة، أو انتعلت فردتين من حذائين مختلفين.
لم يفهم أحد سبب طلاقهما، لأنهما لم يجرؤا على إخبار أحد بهذا السبب المضحك. احترم الآخرون صمتهما سنوات طويلة، وبعد أن استشعر القريبون منهما أن جرحهما لم يعد يؤلم بدأوا في توجيه الأسئلة. ردودها عليهم كانت تجد طريقها لمسامعه. لم تحاول الإساءة إليه واكتفت بكلمة واحدة: “النصيب”.
ويبدو أنهم ـ من باب اللياقةـ توقفوا عن سؤالها بعد أن تزوجت؛ فلم تعد تأتيه أية أخبار من ناحيتها، أما هو فبدأ يُحمِّل نفسه مسئولية فشلهما، ربما بدافع الكرم أو ربما بأنانية ترسم له صورة المتفوق، كان يُلمِّح إلى علاقاته المتعددة ويوحي بأن ذلك هو السبب الذي لم يعلناه. وبعد أن كرر ذلك التبرير كثيرًا بدأ يتساءل بينه وبين نفسه: لماذا لا تكون هي الأخرى قد خانتني؟! لماذا أستبعد هذا الاحتمال بكل غطرسة؟! لماذا لا تكون الخيانات المتبادلة هي السبب الحقيقي الذي لم يبح به أي منا حتى لنفسه؟!
زحف باتجاه رأس السرير، حشا الوسائد خلف ظهره، وأخذ يختبر قدرة عينيه على النظر مباشرة نحو الشمس. هبت نسمة الياسمين مجددًا حتى تلفتَ حوله ليرى إن كانت هناك ياسمينة حقيقية في الغرفة. غادر السرير، تأمل نفسه في المرآة، أحس بارتياح للحيوية التي عادت إلى وجهه، مضى إلى طقوسه حافيًا مستمتعًا بمخمل الموكيت تحت قدميه. وسّع خطوته في مدخل الحمام ليقف فوق المنشفة حتى لا يلمس برودة الأرضية الرخام.
ـ لتكن بهجة.
قال لنفسه في المرآة التي بدا فيها أكثر شبابًا وحيوية مما بدا في مرآة الغرفة. كان قد قرأ مرارًا في كتب التنمية الذاتية التي يعشقها أن الحزن قرار والفرح قرار. وبدأ يلعب هذه اللعبة مع نفسه باستمتاع. يقع في المشكلة؛ فيتذكر المقولة، ويتخذ قراره بالبهجة فيبتهج.
ـ لتكن بهجة.
كررها ضاغطًا على الحروف مركزًا عينيه في عيني صورته في المرآة. وبدأ يضع الخطط ليوم مبهج. لن يستعجل الأحداث، حسبه أن يدرك أنه يقيم في غرفة فخمة، وبوسعه أن يستمتع بالكسل فيها أو بالتسكع في جنبات الفندق، كما يستطيع أن يطلب سيارة للتسوق والتعرف على المدينة.
غسل أسنانه، وأجرى يده على ذقنه فلم يجد حاجة إلى الحلاقة، اتجه إلى قاعدة المرحاض؛ فعاد حذره دفعة واحدة. جلس ملمومًا مسيطرًا على جسده، وقام إلى المغسلة، غسل يديه، واستدار متطلعًا إلى البانيو. لا شيء يستطيع أن يسحبه إلى البهجة الآن مثل الغوص في الماء الساخن تحت طبقة من الرغوة العطرة، بلا مواعيد تضع حدًا لاسترخائه. غادر الحمّام. أضاء زر “ممنوع الإزعاج” بجوار الباب وعاد مطمئنًا إلى أن أحدًا من خدمة التنظيف لن يقتحم عليه الغرفة.
أغلق فتحة صرف البانيو بالسدّادة وفتح الماء حتى غمر القاع، مسح البانيو بيده ورفع السدادة لتسريب ماء الغسيل، ثم أعادها إلى مكانها، وعاود فتح الصنبور ضابطًا الحرارة على الحد الأقصى الذي تطيقه يده. أخذ يراقب ارتفاع الماء، يستطلع زوايا الحمام رغمًا عنه، فيسارع إلى غض بصره حتى لا يهدد اتفاق البهجة الهش مع نفسه.
ـ ماذا يستفيدون من عري رجل منفرد؟
قال، بينما شرع في خلع ملابسه، وقف معتدل القامة يتأمل جسده، شفط مشروع الكرش الذي بدا واضحًا في المرآة، مد قامته، محاولاً الظهور بعري حسن. رفع قدمه الأولى ووضعها في البانيو، ثم دخل بالثانية واستلقى يتأمل تموجات جسمه تحت الماء الصافي. بدأ في إفراغ القنينة، مع توجيه صفعات لسطح الماء تحفيزًا للرغوة، حتى اختفى جسده تمامًا تحت الكثبان الهشة البيضاء المتموجة.
أراح رأسه على حافة البانيو واسترخى، يتأمل هطول الماء وارتفاع مستواه فوق جسمه المنساب بارتياح. قبل أن يصل الماء إلى الحافة، أغلق مفتاح البارد وترك خريرًا بسيطًا للماء الساخن حتى يحافظ على حرارة البانيو.
أخذت المخاوف تتسلل إليه؛ فيقبض عضلات رأسه كي يحافظ على اتفاق البهجة الذي عقده بينه وبين نفسه. هل يمكن فعلاً التحكم بتلك الكتلة الهلامية الهشة داخل الجمجمة مثلما نتحكم في المثانة؟ يعاود القبض فيشعر بالطنين في أذنيه والحركة في عضلات القفا. استهوته التجربة، ونجحت لعبة مراقبة حركاته العضلية وأثرها في صرفه عن التفكير، كان وشيش الماء يعزل الحمام عن الأصوات بالخارج. سحبه دفء الماء إلى النوم، حتى أيقظه ضغط مثانته.
خرج من الحمام جائعًا، فكر في طلب إفطاره، لكن وقت الغداء صار قريبًا. قرر أن يشرب قهوة حتى يكتمل جفاف شعره ثم ينزل لتناول الغداء في المطعم.
4
مد قدمًا إلى داخل الغرفة وأشعل الضوء قبل أن يكمل دخوله مثلما اعتاد أن يفعل عند عودته من البار في جوف الليل. وقعت نظرته على مظروف تحت الباب. أحس بطعنة خوف، وسرعان ما تماسك وأخذ خوفه يتحول إلى فضول.
أزاح المظروف بقدمه وتبعه إلى الداخل وأغلق الباب. وقف ساكنًا منتشيًا بخفة الشراب مسلطًا نظره على المظروف، كأنه يوبخ المرسل، تخطاه إلى الحمام. بال واقفًا بكل استهتار دون أن يغسل يديه أو يمسحهما، وعاد يرمق المظروف مستمتعًا بلعبة التوقعات.
ـ ربما كانت رسالة تأنيب بسبب سهوي عن موعد اللقاء؟!
تساءل وابتسم سخرية من نفسه، هم لم يحددوا موعدًا أصلاً. فكر في احتمال أن تكون رسالة من العمل أو ربما من أمه. ثم ارتد إلى سقف توقعات منخفض.
ـ قد تكون إخطارًا بالموعد.
تزايدت الاحتمالات وبدأ الفضول يتصاعد، حتى صار قلقًا. انحنى والتقط المغلف، فتحه. وجدها رسالة من خدمة الغرف. “عزيزنا الضيف، لقد تركت علامة (ممنوع الإزعاج) مضاءة ولهذا لم نتمكن من تنظيف الغرفة، برجاء التأكد من إطفاء العلامة عند خروجك حتى نتمكن من تقديم الخدمة اللائقة بكم”.
ـ كلاب.
قال ضاغطًا على الحروف بكل ما أحسه من خذلان، طواها في مغلفها ومضى نحو السرير. وضع المغلف على الكوميدينو بجواره وحاول الاسترخاء، دوّمت الرسالة في رأسه مثل سِرب خفافيش. عاود قراءتها، محاولاً اكتشاف ما قد تنطوي عليه من إشارات لم تقلها الكلمات صراحة. انتبه إلى كلمة “تَرْكت” لماذا لم يكتبوا ما يقصدون بصراحة “إنك لم تغادر الغرفة حتى المساء”؟ هل يريدون إيهامه بأنهم لا يترصدون حركته؟ يدّعون أن استلقاءه الآن على سريره ليس تحت عيونهم؟ إذا كانت نظافة الغرفة غاية همهم؛ فلماذا لا يكتبون مواعيد التنظيف الممكنة ويطلبون منه تحديد الوقت الذي يناسبه؟! ما الداعي لهذه الإضافة السمجة؟ “برجاء التأكد” هل هو رجاء حقًأ؟ وإذا لم يلتزم، هل يحترمون رغبته في الإقامة بغرفة غير مرتبة أم يُصعِّدون لهجتهم ويبرزوا التعليمات صريحة، مثلما فعل موظف الاستقبال؟
أخذت الأسئلة تتسرب بانتظام إلى رأسه مثل حبيبات تنساب داخل ساعة رملية، وتتكدس في نصفها الأسفل فيقلبها على الجهة الأخرى ليبدأ تتابع الأسئلة مجددًا. أثقله تقليب الاحتمالات. وأخذ الخوف يتمدد ويفيض من رأسه إلى أطرافه ويبدد أثر الكحول في جسده.
تذكر أنه لم يضغط زر الاستماع إلى رسائل التليفون، كما يفعل كلما عاد إلى الغرفة. ضغط الزر فانطلق الصوت المعدني: “لا رسائل جديدة، إذا رغبت في الاستماع إلى القديمة اضغط واحد”. ضغط وأخذ يستمع إلى الرسائل الإحدى عشرة التي يحفظ كل حرف فيها، كل تنهيدة، كل نبرة تردد في الصوت كل اختلاجة قلق. أوقف التسجيل في منتصف الرسالة السابعة.
ـ ألم يكن بوسعي تفادي هذه الرحلة؟
فكر؛ كونه الأعزب الوحيد بين زملائه لا يعني ضياع فرصته في تقديم أعذار لإعفائه من هذه المهمة. مرض الأم حجة أقوى من التعلل بمرض الزوجة، فحوص طبية لنفسه سبب مقنع آخر في هذه السن، على الرغم من أن ملفه الطبي لا يشير إلى وجود أمراض مزمنة. كان بوسعه حتى التعلل بأن هذا ليس دوره في السفر، لكنه قَبِل. لم يقبل فحسب؛ كان سعيدًا، وانخرط في ترتيب الإجراءات، كما لو كان ذاهبًا إلى نزهة.
الموتى يذهبون ولا يعودون ليحكوا كيف كانوا يشعرون في أوقاتهم الأخيرة، هذه مهمة من يبقى بعدهم ليضفي عليهم لحظة موتهم هالة لم تكن لهم طوال حيواتهم البليدة. يعيد الأحياء دون كلل الكلمات الأخيرة التي قالها الموشك على الموت: “تذكري ما تريدين، فلن أخرج مرة أخرى” العبارة العادية جدًا التي رددها طوال حياته الزوجية زوج ضجر من زوجته التي لا تتذكر نواقص البيت إلا بعد عودته من البقالة، تصبح في المرة الأخيرة نبوءة بالموت قالها المرحوم قبل أن يركب السيارة ويقع له الحادث المشئوم، مكالمتان هاتفيتان أجراهما لصديقين لضرورة عملية تتكاثران عبر الحكايات وتتحولان إلى جولة هاتفية ودع فيها كل معارفه؛ لأنه كان شفافًا وأدرك النهاية!
ـ من، سيقول عني ماذا، إذا مت في هذه الغرفة؟
استبعد أن يتحدث عنه زملاء العمل أو يبدر من أحدهم أكثر من مصمصة شفاه تعاطفًا أو استغرابًا. هذا لا يعني أن الوقت الذي أمضاه هنا طويل إلى الحد الذي يتكفل بنسيانه، لكنه طوال خدمته لم يقترب من أحدهم، ولم يدع أحدًا يعرف حقيقة مشاعره قط، عاش بينهم عمرًا بلا صديق. هذه ليست مجرد توهمات في لحظة خوف بغرفة موحشة. هي حقيقة وضعه الذي اختاره بقرار اتخذه بلا رجعة عندما كان شابًا غضًا، وكان الموت بكامل هيبته.
بعد أشهر قليلة من التحاقه بالعمل، كان يستعد مع الزملاء لتناول الغداء الذي طلبوه من مطعم قريب، وفجأة انكفأ أحد الموظفين القدامى ميتًا، جمعوا مكتبين ومددوه فوقهما، وعمَ الحزن الجميع. الشباب سالت دموعهم، بعضهم نهنهوا بأصوات مسموعة، الكهول تندت عيونهم، الأقرب إلى الشيخوخة تقطبت وجوههم. وبعد دقائق بدأوا في اختلاس النظرات إلى الكيس البلاستيكي الضخم على طاولة الاجتماعات، ثم رفع أحدهم ذراعه وأخذ يؤشر لهم كي يتجهوا إلى الطاولة.
ـ “الكباب سيبرد”.
قال الرجل، وبادر إلى الجلوس. أخرج الوجبات من الكيس، فض غلاف واحدة، وبدأ في الأكل بنهم كأنه لم يأكل من قبل. تبعه الآخرون متسللين إلى المائدة واحدًا فواحدًا. المذهل أن الرجل الذي استبق الجميع كان الأقرب إلى الميت. عِشْرة عمر، كما يقولون. مات هو الآخر بعد ذلك بسنوات، لكنه يتذكره الآن؛ بدمعه الذي بلل عينيه وأسال عماصهما وطرده إلى الوجنتين في الدقيقة الأولى لموت زميله. يتذكر انفراج ملامحه وتحلب لعابه بينما يفض ورق الألمونيوم المغلف لوجبته، يتذكر حركة فكيه إذ يطحنان سريعًا، بينما يتلفت مثل كلب قلق على وليمة اكتشفها وحده.
منذ تلك الواقعة، حرص على إغلاق قلبه دون صداقات العمل. يلتحق بالمكتب موظفٌ جديد، يتيقن من نقائه، وعندما يرى إمكانية قيام صداقة بينهما، يصيبه الخوف ويبدأ بالهروب، مرددًا لنفسه الجملة التي لن ينساها أبدًا: “الكباب سيبرد”.
5
قبل أن ينتبه إلى جلبة الباب، وجد امرأة فوق رأسه.
ـ عفوًا سيدي، هل أنت بخير؟ اضطررنا لاستخدام المفتاح الأساسي لأن علامة عدم الإزعاج لم تُرفع منذ أيام.
تدافعت كلمات الاعتذار من فمها، ودون أن تنتظر ردًا تقهقرت وجذبت الباب خلفها. أخذ يجهد ذهنه ليستوعب المكان، وجعلته صفقة الباب ينتبه إلى وجوده، تعرف على تفاصيل الغرفة التي يحفظها عن ظهر قلب، لكنه لم يتمكن من تذكر أي شيء من الموجودات خارجها؛ كأنها صندوق معلق على هذا الارتفاع الشاهق.
غادر السرير، وأخذته قدماه آليًا إلى الواجهة، تأمل المشهد بالخارج، لمس الزجاج الملتهب، فتذكر ما كان أصدقاؤه يقولونه عن صيف هذه البلاد ولم يكن يصدقه. استغرب الحر الذي يكاد يسمع وشيشه على سطح الزجاج من الخارج، رغم عدم سطوع الشمس. كان الأفق مضببًا بما يشبه الغبار الذري. استدعى المشهد إلى ذاكرته صورة تفاعلات قلب الشمس؛ فتصور غرفته كبسولة وسط التقلبات الجبارة لغازات النجم.
سحب نفسه إلى الحمّام، تخلص من ملابسه دفعة واحدة، وقف يتأمل جسمه في المرآة، لم يعد يستطيع السيطرة على عضلات بطنه المترهلة، شد قامته ليرى إن كان بمقدوره التخلص من الانحناء الذي وسم قامته بفعل العادة.
منذ وصوله كان يتحرك محنيًا، يمشي بالقرب من الجدران في ممرات الفندق وقاعات الطعام وحتى في البار المظلم، ولم ينجح الانحناء في إخفائه بالكامل؛ فتوقف عن استخدام العطر، وكلما مضى الوقت كانت مخاوفه تتزايد فأصبح لا يغادر غرفته إلا بعد أن يتأكد أن رائحته محايدة تمامًا، لا أثر لرائحة شامبو أو صابون، ولا رائحة العرق بالطبع.
ـ استعادة الرائحة سهلة!
قال بأسى، بينما يستشعر ألم محاولة فرْدْ ظهره. التقط فرشاة الأسنان، شطفها بالماء قبل أن يجلل شعيراتها بالمعجون، بدأ في تنظيف أسنانه متابعًا حركة الفرشاة في جوانب فمه. بعد أن انتهى، جلس على قاعدة المرحاض مستمتعًا بالانسياب اللذيذ لفضلاته، قام يتأمل ما فعل قبل أن يضغط زر الصرف وينطلق إلى البانيو. فتح الماء موازنًا درجة الحرارة ووقف تحت الدوش. مع أسواط الماء التي انهالت عليه أخذ باستعادة وعيه وحذره.
ـ ما الذي حدث؟
أحس بهبوط في قلبه كأن مصعدًا معطوبًا يهوي به. بدأ يتأمل سقف الحمّام من خلف الماء ورغاوي الشامبو. أسرع في إنهاء استحمامه. جفف نفسه والتف جيدًا بالمنشفة الكبيرة باذخة الخملات. مضى إلى الخزانة، ارتدى الروب الناصع، وأحس حرارة الرغبة تجري في عروقه، تذكر المرأة التي فتح عينيه على وجودها. حاول أن يستجمع ملامحها التي لم يتبينها لحظة المباغتة فلم يستطع. أخذ ينظر من ثقب الباب.
ـ هل يمكن أن تعود؟
عبر السؤال رأسه فتزايدت تطلعات جسده. أخذ يفكر بالمرأة، باقتحامها الغريب للغرفة وانسحابها المرتبك.
ـ كلب!
قال معجبًا بعضوه الذي أخذ يتصلب غير آبه لحيرته. وابتسم عندما انتبه إلى أن صفة الكلب التي أضفاها عليه ليست بغير أساس؛ فالكلاب تنبح عندما تشم رائحة الخوف. وفتاة التنظيف كانت خائفة أو على الأقل مرتبكة وتشعر أنها الأدنى، لذلك نبح عليها، بينما لم يعهد فيه هذه الصلابة في مواجهة النساء المقتحمات في المصاعد والممرات والمطعم، لم يشعر بها تحت يد المدلكة، ولا في مواجهة نساء البار الثملات.
رمح بخياله حتى اللهاث يحاول تجميع ملامح العاملة. من طول قامتها ونحافتها بدأ يرسم في خياله ملامح أجمل امرأة في الكون، تمنى أن تعاود الدخول بأية حجة كانت. وفجأة ضربته عاصفة الخوف.
ـ ستكون هذه غلطتك التي ينتظرونها يا ذكي!
قال كابحًا استرسال رغباته. وتمنى ألا تعود فيجد نفسه في تجربة كتلك. وبدأ الهمود اللذيذ يتسرب إلى جسده. مضى نحو السرير، جرب الاستلقاء في الروب. يحب هذا التكاسل عقب طقوس النظافة الصباحية، يشعر بأنه ملك على عرش مملكة وقته الشاسعة، يغفو قليلاً ويقوم مسرورًا.
انحسر الروب إلى الجانبين تاركًا فرجة كشفت ساقيه حتى التقائهما. دون أن يلمس عضوه خمّن من النشوة التي يحسها أنه لم يزل عفيّا، ساكنًا، ممتلئًا ورخوًا كثعبان، لا غائصًا في كهفه ولا متصلبًا.
ـ سيرون ما يسرهم!
قال مبتسمًا، مشجعًا نفسه، كي يُبقي على عُريّه. استطلع السقف ثم تحول بنظرته إلى الأفق الذي ازداد تضببًا فلم ير أبعد من أمتار قليلة وراء الزجاج. أخذته سنة من النوم، أخرجته منها لسعة برد الهواء المكيف. جمع طرفي الروب واعتدل. دار في الغرفة وانتهى إلى الواجهة الزجاجية. صارت الرؤية أفضل، حتى أنه رأى السماء زرقاء واضحة، ورأى سرب طيور رمادية محدود العدد يدّوم، أخذ يبتعد حتى بدا كذبابات كبيرة ثم اختفى فعادت للسماء زرقتها النقية.
ـ لن أتجمد رعبًا هنا.
ابتهج للفكرة التي انفتحت في عقله كطاقة نور. مضى واثقًا نحو مدخل الغرفة. فتح الحقيبة فوق مقعدها، وفتح باب الخزانة، جنّب طاقمًا ليرتديه، وأخذ ينزع بقية الملابس من فوق الشمّاعات ويدفع بها إلى الحقيبة حتى فاضت، كبسها جيدًا وأغلقها. نزع الروب وكوره ودفع به إلى الدولاب. ارتدى ملابسه، وانتعل حذاءه كيفما اتفق، ومضى إلى التليفون. تردد في مد يده إلى السمّاعة.
ـ إذا كانت السعادة قرارًا، فالشجاعة قرار أيضًا.
قال مشجعًا نفسه، والتقط السماعة مديرًا رقم الاستقبال.
ـ من فضلك، أريد أن أغادر الآن.
ـ حاضر سيدي، خمس دقائق سيكون الحمّال على الباب.
لم يقو على نطق كلمة شكر للموظف، سقطت السماعة من يده. أحكم وضعها في مكانها، وجلس هامدًا على طرف السرير.
ـ هل يمكن أن أغادر بهذه السهولة؟
بدأ يستمع إلى صوت تكسير آنية الزجاج في قلبه، قام يدور في الغرفة، ينظر هنا وهناك ليتأكد أنه لم ينس أيًا من أشيائه، جهّز ورقة بعشرة دولارات وضعها في جيب قميصه، أحس برغبة في التبول، رن جرس الباب، فانطلق نحوه. وارب الباب دون أن يُفلت سلسلة الأمان. دقق في الظل الواقف بعتمة الممر، كان الحمّال. رفع السلسلة، ووضع الدولارات العشرة في يد الرجل وبالأخرى سلمه الحقيبة، وأغلق الباب متنفسًا بعمق.
دخل إلى الحمّام، جلس ذاهلاً على قاعدة المرحاض. وعندما انتهى، دار في الغرفة دورة أخيرة. استرق نظرة نحو السقف، وخطا خارجًا، سار قريبًا من الجدار، يرمق أبواب الغرف المغلقة على جانبي الممر. بضغطة إصبع انفتح باب المصعد.
البهو هادئ. تقدم محنيًا وهشًا نحو طاولة الاستقبال، أومأ له الموظف بابتسامة باهتة، وانشغل بالضرب على مفاتيح الكمبيوتر. طبع له الفاتورة، وضعها في مظروف مع جواز السفر.
ـ ألا توجد أية التزامات؟
قالها بصوت كاد هو نفسه ألا يسمعه.
ـ لا شيء. إقامتك مسددة بالكامل. رحلة سعيدة سيدي.
قال الموظف، ورسم على وجهه ابتسامة، ولوّح له بيده تلويحة وداع مقتضبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وقاص مصري
من مجموعة “السماء على نحوٍ وشيك” الصادرة مؤخرًا عن دار بتانة ـ مصر