دمية

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد مسعد

دقات بندول الساعة الخشبية الكبيرة التي تحتل وسط الصالة، تصله في الدور العلوي حيث يجلس وحيدًا، تخبره أنه تأخّرَ كثيرًا عن موعد نومه المعتاد. يواجه دُمَاهُ الخشبية الصغيرة منذ ساعات يبحث في وجوهها التي أمضى الليالي الطويلة في صناعتها - عن حلٍّ يخرجه ممّا هو فيه.

الملل الذي رأه مرتسمًا على وجوه الحضور وفي تصرفاتهم صغيرًا قبل الكبير يقلقه، يثبت أن شكوكه التي راودته سابقًا حين قلّ عدد الجمهور تدريجيًّا كانت في محلها. ذهنه خالٍ من أي أفكار جديدة أو حلول.

***

لمساتٌ حانية لأناملٍ رقيقة على كتفه اليمنى جعلته يدرك أنه أمضى ليلته الماضية جالسًا على كرسي، ساندًا رأسه على المنضدة التي تتوسط الغرفة التي يستخدمها كمصنعٍ ومخزن لدُمَاه الخشبية. ابتسم لصاحبة الأنامل الرقيقة وهو يتمتم ببعض الجمل؛ ليفسر نومَه الغريب هنا. كانت تلك هي حفيدته، يتيمة الأبوين وتعيش معه هنا منذ أن كانت في الخامسة. الآن .. هي تسبق عامها الثاني عشر بأيام قليلة.

طفلة على مشارف الأنوثة، شعرها القصير الذهبي ينسدل برقة ونعومة على رقبتها البيضاء وكتفيها، تهرب منه بعض الخصلات لتستقر بجوار عينيها العسليتين. ملامح وجهها الدافئة تجبرك على الشعور نحوها بالأُلفة منذ النظرة الأولي.

رَبَتَتْ على كتفه بأناملها الرقيقة … الإبتسامة التي لا تفارق عينيها انتقلت إلى وجهها وهي تخبره أنها أعدّت له طعام الإفطار بيديها هذا الصباح، وانتقلت لترتسم باستحياءٍ على وجهه.

حينما جذبته من يديه نحو غرفة الطعام في الدور السفلي قبل حتى أن يبدأ في سلسلة الاعتذارات التي كان على وشك أن يقولها، رغم أنه اعترف لها بعد أول لقيمات تناولها أنّ الطعام بالفعل جيد، وأنه كان يحتاج إلى تلك الوجبة ليبدأ يومًا طويلًا، إلا أن شروده دَفَعَها إلى أن تدفعه للذهاب إلى حجرته ومحاولة الحصول على بعض الراحة التي يحتاجها جسده وذهنه المرهقانِ.

وبعد أن اطمأنت أنه بدأ حديثه مع الملائكة ذهبت إلى حجرتها لتشبع رغبة تتملكها منذ الأمس بالرسم دون أن يكون لديها شيءٌ محدد ترسمه..

***

أحضرت فرشاتها والألوان ولوحة بيضاء متوسطة الحجم، وبنصف ذهنها تركت يديها ترسم ما تشاء، وبنصف الذهن الباقي أخذت تطارد تلك الأفكار التي تحتلها منذ الليلة السابقة ما بين جدِّها وعَرْضِهِ الراقص الذي يوشك على الانهيار، وذاك الحلم الراقص الذي يراودها يوميًّا منذ أكثر من أسبوع.

مرّ الوقت دون أن تتمكن من إلتقاط أيٍّ من تلك الأفكار. يداها لم تتوقف عن العمل طوال تلك المدة … الصورة اكتملت، أخذت تتأملها بدهشة. لقد رسمت ذاك الفارس الذي يراقصها كل ليلة .. بوجهه الأبيضِ المُشْرَبِ بالحمرة التي تتجلى ظاهرة في وجنتيه، وملامحه الدقيقة المتناسقة.

لا تدري إن كانت قد غفلت وهي جالسة ممسكة بفرشاتها أم أنها شردت بعيدًا، ولكنها لم تتمالك نفسها حين أَفَاقَتْ ممّا كانت فيه، انطلقت تجري نحو غرفة جدها النائم وهي تنادى عليه بصوت مرتفع.

الجد على سريره بين اليقظة والوَسَن … أحضرت له كوبًا من القهوة المغلية الساخنة. الجد يرتشف القهوة ببطءٍ بينما هي تتحرك في الحجرة يمينًا ويسارًا تتحدث بسرعة، تتراقص ببهجة. مع آخر رشفات جدها للقهوة اعتدلَ في جِلسته، وطلب منها أن تعيد حديثها السابق مرة أخرى ولكن ببطء. ارتسمت على وجهها إبتسامة جزلة رقيقة قبل أن تجلس على طرف السرير ممسكةً بلوحتها، وتبدأ في الحديث من جديد بهدوء …

***

لم يشعر أيٌّ منهما بمرور الوقت .. انهمكا في صُنع الدمية الجديدة التي رسمتها الصغيرة. مع دقات بندول الساعة الخشبية الكبيرة في الصالة معلنةً انتهاء اليوم الثالث كان الجد قد انتهى من وضع لمساته الأخيرة على الدمية الجديدة.

برفقٍ شديد أيقظَ الصغيرة التي انهارت على الكرسي منذ ساعات نائمة من شدة الإرهاق. اللمعة النادرة التي رأتها في عينيْ جدها رسمت إبتسامةً صغيرة على شفتيها. أخذت تتأمل الدمية المصنوعة تمامًا كما رأتها في حلم يقظتها، أمسكتها من ذراعيها وأخذت تدور وتدور بها في الحجرة فرحًا.

نظرت إلى جدها نظرةَ رضا وابتسمت … وقبل أن تستجيب إلى طلب جدها بالحصول على قسط كبير من الراحة، ألقت نظرةً على الدمية … توقفت قليلًا، وزَمّت شفتيها وهي تفكر قليلًا .. طبعت قبلةً على وجنتي الدمية مانحةً إياها بعضًا من الحمرة. نظرت إليها برضا،  وتركتها بالقرب من بقية الدُّمى، تأملتها مرة أخرى قبل أن تُحكِم إغلاق باب الغرفة المظلمة ….

***

صوتُ حركاتٍ خافتة يقطع صمت ظلام الغرفة، لحظاتُ صمتٍ جديدة، إضاءةٌ تكفي لكشف محتويات الغرفة تنبثق من مكان غير ظاهر، منضدةٌ خشبية في المنتصف يرقد فوقها بقايا خشب وأقمشة ملونة بجانبها شاكوش كبير وبعض المسامير المتناثرة دون ترتيب فوق أوراق رسم. في ركن الغرفة تتراصُّ دُمًى خشبية، وجهها شاحب، ملابسها كالحة الألوان، فقدت مع العمر بريقها. تقف بتحدٍّ في مقابل دمية وحيدة، ملابسها الزاهية الألوان تلمع في الضوء الخافت, وجنتها البيضاء ما زالت تصطبغ بحمرة شفاه الفتاة الصغيرة التي طبعت عليها منذ ساعات قليلة قبلةَ الميلاد الأولى ..

مع أولى ساعات الصباح كان صوت خطوات أقدامها على السلم الخشبي العتيق يقطع سكون الصمت، رغبتها في رؤية الدمية الجديدة جعلتها تهمل ملاحظة إختلاف ترتيب الدمى القديمة. أمسكت بيديها وليدها الجديد – دميتها –، وأخذت تدور بها في المكان محاولةً تقليد حلم ليلة أمس. خطواتها المتعثرة في الخيوط أوقعتها على الأرضية الخشبية فأصدرت صوتًا أيقظَ جدَّها الذي ينام في غرفته تحت الورشة مباشرة. بعد الإفطار جَلَسَا معًا يكملانِ تنفيذ باقي أجزاء الحلم.

الفكرة كلها في تصميم استعراض تشارك فيه الصغيرةُ تلك الدميةَ الجديدة في الرقص، فقط ثلاثة أسابيع على الخميس الأخير من الشهر موعد العرض.

استقر تفكير الجد على أن يبدأ بتعليم الصغيرة الخطوات الأساسية  أولًا وحدها، وحين تتقنها يبدأ مرحلة الرقص المزدوج بينها وبين الدمية التي سيقوم هو بتحريكها. خطوة لليمين … خطوتان لليسار …. نصف دورة، خطوات متناغمة مع إيقاع الموسيقا الصادر من جهاز البيانو الخشبي الكبير …. خطوة لليمين … خطوتان لليسار … نصف دورة. الليال مرت حتى نهاية اليوم العشرين والعمل مازال دائرًا في الغرفة العلوية دون كللٍ أو ملل.

 قبل الفجر بقليل توقف الصوت الصادر من البيانو وانقطعت أصوات الأقدام من على الأرضية الخشبية، وأطبق على المكان بعضُ الصمت مختلطًا بصوت أنفاس الجد الملقى تعبًا على كرسيه بجوار البيانو, وصوتِ أنفاس الفتاة المنزوية في ركن الغرفة محتضنة دميتها الصغيرة. بعض الحفيف الصادر من حركة أقدام الدمى القديمة متحركة في الركن الخلفي المهمل للغرفة، همسات غير مفسرة تحمل الكثير من معاني الغضب.

***

مع أول أشعة الشمس المشرقة في يوم العرض بدأت الحياة تدب في الغرفة سريعًا. الجد منهمك في وضع اللمسات الأخيرة على عرضه المرتقب, يراقب بعناية عملية نقل البيانو القديم إلى العربة الكبيرة التي اتفق مع صاحبها على نقلهم إلى البلدة الصغيرة. وهي تُلبِس دميتها الثوب الذي أمضت في صنعه الليلتين الماضيتين، وحينما انتهت أخذتها معها إلى غرفتها وبدأت ترتدي ثوبها الذي أنفقَ جدها أكثر من نصف مدخرات العرض السابق عليه.

قبل العصر كان كل شيء قد انتهى كما خططَ له الجد، لم يكن هناك أكثر من نقل الدُّمى القديمة إلى مؤخرة العربة لاستخدامها كديكورات في العرض. ترك الجد تلك العملية للعمال، واتجه مع صغيرته ودميتها نحو البلدة لوضع آخر لمسات اللحن مع رفيقه عازف الموسيقا.

في المساء كان كل شيء في موضعه تمامًا، الدمى مثبتة في السقف وموضوعة دون حركة في أماكنها كما رسمتها لها الصغيرة، الجد في الطابق العلوي مع خيوط الدمية الجديدة، خلف الستار تقف الفتاة بجوار دميتها .. ثلاث دقائق قبل رفع الستار … دقيقتان … دقيقة واحدة … قبلة حانية من شفتيها تعيد الدماء إلى وجنة الدمية من جديد مع همسات بالحظ السعيد. وانسابت الموسيقا .. تتابع حركاتهما معًا، والجد يحرك الخيوط التي تربط الدمية مع خطوات قدميها بانسيابية شديدة. لوهلةٍ فَقَدَتِ التمييز وظنت أنها تراقص شابًّا من لحم ودم. لم يكن هذا إحساسها وحدها، انتقل الإحساس إلى جميع مَن في القاعة من حضور. ذاك الإحساس الذي سيجعلك تنسى وأنت تشاهد أنها مجرد دمية تراقصها فتاة صغيرة، ستظن أنك ترى استعراضًا راقصًا حيًّا لصغيرين، بل ستتخطى ذلك وتسمع في أذنيك صوت أنفاسها المتعبة، وترى بعينيك لمعة قطرات العرق المنسابة على جبينها الأبيض، وتنتقل إليك حرارة دمائها الساخنة التي تتدفق إلى وجنتيها المصبوغتين بالأحمر من إنفعال الحركات.

ساعة مرت على الجميع كأنها ثوانٍ قليلة … مع توقف نغمات الموسيقا توقفت الحركات الراقصة, وتوقفت أنفاس الجميع، وأخذت الجميع لحظاتُ نشوة صامتة قطعها صوتُ تصفيق حاد استمر لبعض الوقت.

 نشوة النجاح أخذت الجد والصغيرة، ولم يلحظ أيٌّ منهما اللون الأحمر الذي احتلّ مكان بياض لون عيون الدمى القديمة!

***

في المنزل كان على الجدِّ النوم جيدًا لتعويض إرهاق ليالي العمل المتوالية في عرضه الذي جعله مطلوبًا أكثر .. تمنّى لصغيرته ليلة نوم هانئة، واتجه إلى غرفته.

في الحجرة العلوية أمضت الصغيرة بعض الوقت مع دميتها الجديدة. كانت ترغب في أن تصحبها معها إلى غرفة نومها، ولكن جدها رفض الاقتراح. أخذت تتأملها وهي تفكر في الإحساس الذي انتابها وقت الرقص .. طوال العشرين يومًا في التدريب لم تشعر بمثله. ظلت تتأملها حتى إحتلّ التعب جميع خلاياها، وارتسم الوَسَنُ على جفونها فهبطت إلى غرفتها لتنام.

الصمت المطبق يحتل جميع غرف المنزل إلا الغرفة العلوية، حركات الدمى القديمة تتوالى نحو الركن الذي ترقد فيه الدمية الجديدة، أصوات غير مفهومة تلاها صمتٌ تام!

الصغيرة في غرفتها تهب مفزوعة من نومها .. خطوات سريعة على السلم الخشبي القديم، ارتطامٌ بالباب نصف المغلق، لحظة صمت، صوت صرخات متتالية ونشيج باكٍ أيقظَ الجدَّ من نومه ودفعه إلى الصعود إلى الغرفة العلوية.

 المشهد كالتالي … الدمية الجديدة ترقد ممزقةَ الأوصال، ولا شيء آخر مختلف عمّا تركته الصغيرة منذ قليل. الجد لا يجد ما يفعله ليخرج من الذهول الذي انتابه، ودموع الصغيرة المنهمرة لا تتوقف.

ساعة مرت عليهما …. تهاوى الجد على الكرسي الكبير في طرف الغرفة. الصغيرة أخذت بقايا دميتها وهبطت درجات السلم الخشبي بصعوبة نحو غرفتها، أخذته بين ذراعيها ورقدت على السرير الصغير.

دموعها تنساب على أجزاء الدمية بين ذراعيها رغم أن عينيها مغلقة في ما يشبه النعاس. لقد أدركت الآن أن ما شعرت به وهي تراقصه في الليلة السابقة كان مشاعر حب صافية دون أي تبرير.

انتظاره لمعرفتها حقيقة بشريته الوليدة على قطرات دموعها – لن تجعل قلبها الرقيق يدرك أنه منذ أن منحته شفتاها سرَّ الميلاد .. يحبها.

قبل شروق الشمس بقليل … طبع على وجنتيها قبلة حانية. لم ينسَ أن دموع حزنها الصافية هي التي وهبته الحياة، مسح دموعه المتساقطة وألقى عليها نظرته الأخيرة قبل الرحيل!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نص من المجموعة القصصية “رقصة ميلاد” الصادرة أخيراً عن دار اكتب.

*قاص مصري، صدر له: صدر له: فلسفة أموات، رقصة ميلاد.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون