المعول

قيس عمر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. قيس عمر

ارتعش المعول. . !الذي حفر به أبي قبرا مضيئا لأخي الكبير، كلما مررت بالقرب منه أحسست انه لن يقوى على حفر قبر آخر فقد أصبح صدئا. هذه العتبات التي داستها أقدامي وألفت اعتصار شتائم أبي، الذي لم يكن يتردد من توجيه أسئلته البليدة التي ذابت في داخلي مرارة، وجعلتني أشيح بوجهي عن أمي، كلما شاهدت أبي. ذهبت إلى العمل الذي أرغمت على الولوج إليه، عالم كبير من الأحجار والتراب التي نقلت عدوى التصحر إلى قلبي، ذرّات الغبار ظل أخي الذي كنت اتكئ عليه، اليوم ورشة العمل مكتظة بوجبة جديدة من الأحجار التي جلبوها من (H3)  حجارة  سوداء مثيرة للدهشة والقلق معا، قال صاحب  العمل:.. أن هذه الأحجار الكبيرة.. جلبناها لكبير الجبل الذي أوصى بان يكون قبره  مبنيا منها. همس لي صديق يشاركني الوقوف على آلة التقطيع. لقد قرأت مرة.. عن أقوام عرفوا بشذوذهم..! _فمسخوا إلى حجارة سوداء..،  وانأ لا اشك في أن هذه الأحجار هي تلك الأقوام..! لذا ليست لي رغبة بتقطيع هذه الأجساد..! سأغادر الورشة وأرجوك أن تكون طيبا مع هؤلاء. قلت في نفسي أنها خرافات لا جدوى منها، أمعنت النظر فيها لكنها لم تكن سوى ثلاثة أحجار كبيرة توحي لي برغبة في الإسراع بتقطيعها، حملت آلة الرفع واحدة منها ووضعتها فوق المسطبة المعدة للتقطيع، بدأ قرص التقطيع بالدوران ما أن بدأ الانقسام حتى انبعث غبار لم أرى مثيلا له، كان القرص يسير ببطء غريب أثار في داخلي نوعا من القلق، وبعد جهد انتهيت من شطرها  إلى نصفين متماثلين، ربطت آلة السحب على أحد الأنصاف وجذبته بعيدا عن النصف الآخر، انتبهت إلى يدي فإذا هي متضمخة بالغبار والدم.. لم يكن هناك شيء في جسدي يؤلمني، إلا جرح قديم خطه معول أبي بقسوة في ذراعي ذات يوم، لم يكن ينزف.. تذكرت ما قاله صديقي.. رفقا بهذه الأجساد.. نظرت إلى أسفل المصطبة الحديدية. كان الدم ينساح عليها.. دم يحمل ذرات سوداء.. تأكدت انه ينحدر من الحجارة ، اقتربت منها أكثر، ومددت رأسي بالقرب من قلبها.. كانت تمتلك كمّا هائلا من الشرايين والأوردة التي أخذت تتلوى كأفاعي، كان الدم ينفد شيئا فشيئا من قلبها، انتبهت للنصف الأخر ، كانت تستقر بداخله الكثير من الأيدي المشعرة المبتورة من المرفق. . !بدأت تتحرك وتتلون بالأزرق .فبدت طازجة جداً.. شعرت بخوف يستبيح جسدي المنهك. . لأن سباباتها تشير إلي وتتوقف عن الحركة واحدة تلو الأخرى. . توقفت الأيدي تماما_فجأة_انسلت من هذا الكم الهائل من الأذرع ثلاثة أيدي وسقطت على المصطبة . وبدأت تزحف نحوي . . تراجعت إلى الوراء قليلا. . بعدها اختفت تاركة خلفها بعضا من البقع السوداء. أشرت إلى العامل الذي يتولى مرحلة ما بعد التقطيع أن يسحب النصفين إلى مصطبته. نما شوق ممزوج بالخوف والترقب في داخلي إلى معرفة ماذا تحوي هذه الحجارة الأخرى.. حملت آلة الرفع الحجارة الثانية ووضعتها فوق محل القطع، توغل القرص في داخلها، وما أن وصل إلى نهايتها حتى سمعت صراخ نساء ينبعث من داخلها أسرعت إلى ربط السلاسل حول الجزء الأيسر، وبسرعة سحبت عتلة السحب وأزحتها إلى الوراء، كي يتسنى لي أن أرى ماذا تحوي هذه الأخرى. . ؟ كانت شفة كبيرة خضراء تنغلق فينقطع الصراخ، ثم ينبعث منها أنين مصحوب بالرأفة. . وضعت يدي فوقها كانت ساخنة وطرية، أحدثت في جسدي نوعا من الدفء. . تلاقت الشفتان في عناق دائم، اقتربت من النصف الآخر بدأت تتكون في داخلها سيقان ملساء ناعمة  دققت النظر فيها، كان هناك حاجز زجاجي يفصل هذه السيقان عن الهواء غامرت بوضع يدي على الزجاج فاختفى كل شيء. . عاد العامل وسحب الحجارة الضخمة بقوة، وقال: أتترفق بهؤلاء. . ؟

قلت: أرجوك.راقبته وهو يقطعها بقسوة، لم يبد عليه انه يرى شيئا. . وضعت الصخرة الأخيرة فوق المصطبة. . ضغطت على زر التشغيل وبدأ القرص يتوغل فيها محدثا صوتا غريبا وما أن وصل إلى نهايتها _فجأة_اجتاحت قناع الغبار رائحة كريهة وغطت المكان برائحة نتنة انبعثت من جوفها. . كانت تتغير في كل لحظة أحسست إنها تحمل بين طياتها رائحة شيء آخر لابد أن استعد الآن لعالم آخر ، يخفي في جعبته رغبة، أقسى من القرص، وأشد من غبار غرفتي. اقتربت محدقا فيها ، لم يكن فيها ما تصورت، لقد كانت معبأة بأجساد صلبة تكون في البدء ثم تتحول إلى سائل وأشكال أخرى عبارة عن كتل هلامية، وبعد أن تسقط على بعضها الأخرى تتحول إلى بقع صلبة، وكانت تفرز شيئا كريها مثل طفل اسود اللون  توقفت كلها عن حركتها الدائرية، لكن الرائحة الكريهة ما زالت تخيم على المكان  بدأ الأطفال السود يختفون تدريجيا وبعد برهة اختفت جميعها، تاركة علامة تعجب، نحتتها بسرعة فائقة داخل هذا النصف، وتحتها كتب(سنقترب منك أكثر) الرائحة بدأت تخنق أنفاسي وتجبرني على أن ارحل من هنا، لكني واصلت إصراري على أن اعرف ماذا تحمل الحجارة الأخيرة  تناهى إلى سمعي نباح كلاب ، بات يتسلل إلى داخلي قاومتها ونظرت مباشرة إلى النصف الأخير، كانت هناك ثلاثة كلاب مستلقية على بطونها وبعد أن استقر بصري عليها، توقفت عن النباح، وعيونها تستقر وتتوقف شيئا فشيئا عن الحركة.

بدت لي أليفة نوعا ما صدر صوت من أعماقها، توغل بعدها اثنان داخل الصخرة واختفيا ربت احدٌ ما على كتفي، التفت فاكتشفت أني عاجز عن النطق !فقال: رفقا بهذه الأجساد . . وأستعد أنت أيضا. واختفى في غبار اسود غلف المكان، وبينما  كنت أفكر في هذه المعادلة، سمعت نباحا قويا. .! فخرج الكلب الوحيد الذي بقي داخل الصخرة ولكن جسده قد تغير إلى صورة شيء اعرفه جيدا  بجسد كلب. .! استقر الكلب على صدري وأسقطني أرضا. فوجدت نفسي عاجزا عن الهرب، فأخذ يلتهم رقبتي كنت اصرخ، ولكن صوتي كان يختنق في داخلي، أحسست بشلل يسري من أقدامي إلى صدري، وثمة هلوسة قرب رأسي، وثمة شيء غادر جسدي، ليتركني ويستقر في فضاء الورشة وينظر إلي. تزاحم العمال حول جثتي، وأزاحوا نصف صخرة، كانت مستقرة فوق صدري. .! صاح احد العمال:_ابتعدوا . . ابتعدوا. بينما جلب احدهم شرشفا طويلا مليئا بالغبار، وغطوا جسدي وقالوا:

سوية: لنحمله إلى أهله وسنقول لهم بأن إحدى الصخور سقطت عليه. حملوني في سيارة قديمة إلى المنزل ، ثم وضعوني في غرفة أمي، وبدأ الناس يتوافدون إلى دارنا دون دعوة. . النساء من حولي كنّ يبكين بلا هوادة هذا الطقس جعل شعورا بالخوف يتسلل إلى داخلي، فيجعلني أتذكر المعول ، كيف نقل عدوى الرغبة إلى أيدي المحيطين بقبر أخي:عندما دفناه وتركنا تابوته ينعم بالقبل الملتصقة به، لتحمل له وعدنا بأننا لن ننساه أربعين يوما فقط وسنبقى نذكر أوراق دراسته المبللة ببقع الشاي، وطفله الصغير، الذي أصبح شبيها به، لقد  كبر. . لقد كبر. . ها هو يشير إلى جثتي ويقول لطفلي:_لقد مات أبوك.

انهض بجسدي الأثير..

الظلام بدأ يستبيح حرمة الضوء، وها هو يقترب  أدركت بأن كل شيء سينتهي قريبا وهذه السويعات الباقية، نهاية لمسيرة الضنك الذي نخر جسدي سوف امضي وأترك الشوارع التي أدمنت السير فيها، وبضعة دموع ستنشف مع بداية الصباح، والثياب السوداء ستعلن الحداد أمامهم فقط، ودّعت أشيائي وغادرت الغرفة التي اعتصرت كبرائي، وحافظت على جراحي من التعري، لقد كانت الملاذ الوحيد الذي استطيع أن أقيم فيه طقوسي الخاصة ، اتجهت إلى باحة الدار، رأيت أبي يدخل وبصحبته بعض الرجال، كان يحمل قماشا ابيض

فأعطاه لامرأة من اللواتي كن واقفات في الباحة، وهمس في أذنها. _أسرعي فالظلام بدأ ينمو، أسرعت هي لتخيط منه كفنا، يضاهي أكفان البلدة كلها، سمعت أبي يقول:_أهلا بك أيها المغسّل. . أدركت أنه هو. . تذكرت الآن كيف  أتى ليغسل أخي الكبير قلت  لأبي حينها. _لقد شاهدته مرارا ينظر إلى النساء بشراهة  فكيف تسمح له أن يغسل أخي أني أكره هذا الرجل الغامض. فصفعني على وجهي قائلا: كيف تشك فيه لقد تولى أبوه غسل جدك، وعندما حملوا جثة أخي ، وادخلوه إلى الحمام رفض المغسل أن يساعده أحد أردت أن أساعده، فرفض وطردني خارجا ،وقفت ساعتها قرب الباب وأخذت أبكي واسترق السمع حاولت أن ادخل، لكن أبي منعني وصرخ في وجهي:_أنه مغسل البلدة. . ولا يجرؤ احد على المساس به أيها المعتوه. ولكن هل كان دخوله إلى ورشة العمل نذيرا للموت.. !؟

تأكدت انه سوف يدخل بعد قليل ليتولى غسلي، ولا مفر من ذلك ،عدت إلى الغرفة التي كان الجسد مسجى فيها، أمي كانت تصرخ أبوه كان السبب في موته المبكر، دخل أبي وأخوتي وقال:_لقد مات الشر فقط  أفسحن المجال لكي يتولى المغسل عمله وننتهي من هذه الضجة. صرخت زوجتي، وشدّت شعرها، واحتضنت طفلي الوحيد وقالت بصوت يدمع:_مات أبوك أيها الوحيد. انسحبت النسوة من حولي فاقتربوا وحملوني إلى الحمام ثم وضعوني على منضدة خشبية، جلبوها من مسجد البلدة تلك المنضدة التي شاهدت عريّ البلدة بأكملها، وانسحب الجميع خارجا دخل المغسل أولا وبصحبته رجلان فقال لهم: _لا احتاج إلى وجودكما معي. أخرجهما وأغلق الباب وشاهد جسدي وصدري المهشم. تأمل جسدي مليا، فبرقت دمعة على خده وقال في سره “ما زال شابا” مسحها بباطن كفه وشرع بصب الماء، غسّلني بالماء ثلاث مرات، وبدأ يدّلك جسدي بيديه فقط التي نالت منهما رغوة الصابون بدأ برأسي ثم انتقل إلى ظهري ،كان في زاوية الحمام معول، ترددت في حمله، لكنه أصر على أن يموت معي  مثل سرّ الحجارة حملت المعول، وهويت به على رأسه، فسال دمه، لقد كان دما يحمل ذرات غبار سوداء فصرخت أمي في الخارج، وأقبلت مسرعة نحو الحمام فتحت الباب بقوة  فشاهدت صخرتين ملتصقتين مضرجتين بالسواد. . ومعولا يحفر في الهواء.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون