تلك الرائحة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

يجلس (سي محمد) وحيدا، يدخن ويمضغ هواجسه.

يفكر في حياته الماضية وفي وضعيته الحالية فيشعر بالحزن والغبن والكثير من الغضب، يشعر أنه لا عزاء له.

عاش (سي محمد) بطالة مزمنة امتدت لسنوات، انكسر، انكسرت الأحلام بداخله وتوالت عليه الهزائم والخيبات، هزائم وخيبات بنفس الحجم، هي أيضا كانت كبيرة، رضي بعدها بوظيفة صغيرة وتافهة، استنزفته وقتلت بصيص الأمل بداخله.

أحيانا، يتملكه إحساس مريح، يشعر ببعض العزاء، فبعد سنوات من التدبير والحرص والتضحيات، تزوج، أصبح أبا، اقتنى سيارة ومنزلا جديدا، ولكنه لم يكن سعيدا.

الوظيفة، والبيت، والأبناء، والسيارة، هي أشياء يراها البعض عنوانا للنجاح الاجتماعي ومبررا كافيا للسعادة، أما هو فيرى أن الحياة قست عليه، لم تنصفه، ولم تمنحه كل ما يستحق، كان يطمح أن يكون طبيبا أو مهندسا أو حتى أستاذا جامعيا.

منذ مدة ظهرت مشكلة جديدة أقلقته كثيرا، وأفسدت عليه فرحته بالبيت الجديد، غضب كثيرا عندما اكتشف أن رائحة كريهة تنبعث من مكان ما من البيت.

طبعا هو يفهم المسألة بشكل جيد، فبعد سنوات، وأحيانا بعد شهور، أو حتى بعد أسابيع تظهر عيوب البيوت الجديدة، عيوب في التصميم والبناء والإنجاز، عيوب التوصيلات وإمدادات الماء والكهرباء، ولكن أقبح العيوب على الإطلاق هي تلك التي ترتبط بالمجاري والبالوعات، عيوب ينجح الطلاء أو لا ينجح في إخفائها إلا إلى حين.

مرت أسابيع، حضر عمال الصيانة، أنجزوا الإصلاحات الضرورية، ولكن تلك الرائحة لم تختف، في البداية بدا وكأن الأمر له علاقة ببعض التفريط أو الإهمال المرتبط بالنظافة، ولكن زوجته أكدت له أن البيت ينظف بشكل منتظم وأن تلك الرائحة هي فعلا شيء ملغز ومحير.

في الحقيقة كانت الزوجة أكبر متضرر من تلك الرائحة، فقد أدخلتها في نوبة من وسواس النظافة، وفاقمت حساسيتها المفرطة لروائح المنظفات والأمونياك النفاذة.

تظهر تلك الرائحة في أوقات معلومة، تنبعث دائما من مكان ما، من نقطة ما لم تنجح العائلة أبدا في تحديدها، تظهر في البداية بشكل خفيف مثل سحابة أو هواء فاسد، أحيانا تتوقف، تتبخر، تختفي وكأن شيئا لم يكن، ثم تعود وتنتشر، تهيمن، تعم البيت وتكتم الأنفاس مثل الوباء…

تلك الرائحة أفسدت حياة الجميع، لم يعد أحد يستمتع بالطعام ولا بالجلسات المسائية أمام التلفزيون، لا أحد يستمتع بالأعياد والمناسبات العائلية، وطبعا أصبح استقبال الضيوف أمرا محرجا وغير مريح تماما.

أشعل (سي محمد) سيجارة أخرى، يجول ببصره في أركان البيت، ينظر إلى مكتبته، بدت له أنيقة، مرتبة بعناية ومتناسقة، يفكر أنها إحدى العلامات المشرقة في حياته، صحيح أنها ليست ضخمة، ولكنها في نظره تضم أشياء جميلة وتفي بالغرض، ثم ينظر إلى التلفزيون وإلى اللوحات والتحف التي تزين المكان، ثم عندما يستحضر موضوع الرائحة، يقرر فجأة أن يجد حلا، فاليوم نهاية الأسبوع، والأسرة تقضي عطلتها في البادية، وهي فرصة لا تعوض.

سحق سيجارته في المنفضة، انتصب، بدا مصمما، فتح النوافذ، دفع الستائر يمينا وشمالا عن آخرها وتركها مشرعة للحظات، انسحبت سحابة الدخان إلى الخارج، ثم راح بعدها يطوف البيت ركنا بركن، المطبخ، والحمام، وقاعة الجلوس، دولاب الملابس وصندوق المؤونة…

لم تكن تلك الرائحة قوية، ولكنها كانت هناك تعلن عن نفسها بشكل خفي، ماكر ومستفز.

استسلم في النهاية، شعر بالتعب، ألقى بجسده على السداري، بدا متهالكا، محبطا ويائسا، فكر أن يهرب من المشكلة وأن يريح نفسه إلى حين، قرر أن يفعل أي شيء، أن يقرأ كتابا أو جريدة، أن يعد فنجان قهوة، أي شيء !!

التقط آلة التحكم، ضغط عليها، أشعل التلفزيون، وراح إلى المطبخ يعد قهوته، يعدها بنفس الطقوس، نفس الحركات البطيئة والهادئة، هي لحظة ممتعة تلك التي يحتسي فيها قهوته ويدخن سيجارته لوحده، جلس أمام التلفزيون، يمتص الدخان بمتعة، يرشف رشفات خفيفة من فنجانه، ثم يطرد الدخان من رئتيه، يرسله بعيدا، يرسله بمتعة، كانت تلك طريقته في الجمع بين مرارة القهوة وعبق السجائر…

يدير آلة التحكم، ينتقل من قناة إلى أخرى في حركات عفوية، بدا وكأنه يبحث عن شيء ما، وكأنه يبحث عن لا شيء، ثم يعود إلى ذاته، ينتبه، لقد عادت تلك الرائحة الكريهة مرة أخرى، استنفر حواسه كلها، تملكه شعور غريب، أحس أن الرائحة هذه المرة تنبع من مكان قريب، وضع الفنجان على المائدة، يقترب ببطء من التلفزيون وآلة التحكم في يده وراح يقلب القنوات الوطنية، الأولى، الثانية، الثالثة…

في مرة كانت تلك الرائحة تنبعث بقوة وتصبح أكثر وضوحا، ثم يغير اتجاه القنوات بسرعة، يذهب يمينا ثم يسارا، قنوات دولية بكل لغات العالم، فرنسية، إنجليزية، ألمانية، إيطالية، إسبانية، ولغات أخرى لا يعرفها، تخف تلك الرائحة دون أن تختفي، تتلاشى، تبدو بعيدة، ثم يقترب أكثر من الجهاز، يعود إلى القنوات الوطنية ويتمم جولته، الرابعة، الخامسة، السادسة، السابعة…

لم يكن الأمر صعبا هذه المرة، كان واضحا أن جهاز التلفزيون هو منبع تلك الرائحة الكريهة…

يعيد التجربة من جديد، يتجه يمينا ويسارا، ثم يعود إلى القنوات الوطنية.

ترتسم على وجهه الخطوط لتعبير غريب، شيء يشبه الابتسامة، نصف ابتسامة ونصف امتعاض.

يخاطب نفسه بصوت مسموع.

  • غريب، كيف لم أنتبه لذلك قبل الآن، لم يعد هناك من شك، هذا الصندوق القذر هو منبع تلك الرائحة الكريهة…

ثم يقترب مرة أخرى، كان أنفه على بعد سنتمترات من شبكة تصفية الصوت، يشعر بالدوار، ثم يشعر بألم فظيع في معدته، تتقلص، تتشنج، يقاوم غثيانه بصعوبة، يهب جريا إلى المرحاض، يفرغ معدته في حشرجة عنيفة ومؤلمة…

بعد أيام.

جلس في مكانه المعهود، تمدد على السداري في وضعية جسدية مريحة، يدخن، يرشف قهوته، ينظر إلى مكتبته، يتأمل صف الكتب والمجلات التي أخذت مكان التلفزيون، لم تكن كثيرة، بالكاد تملأ الفراغ الذي خلفه ذلك الجهاز بصعوبة.

كان دوما متشككا عندما يتعلق الأمر بالكتب، أحيانا كثيرة يتصور نفسه أكثر ذكاء من الكتب، ولكنه عاملها دوما بما تستحقه من تقدير وتبجيل، ولم يصل الأمر أبدا إلى التسفيه أو الاحتقار، يفكر أنه قرأ الكثير من تلك الكتب، ولكن أخرى بقيت مركونة هناك، مهملة وتنتظر.

يشعر أنه مذنب، مقصر اتجاه نفسه واتجاه الكتب، ثم في نوع من العزاء، يخفف عن نفسه، يخاطبها.

  • عموما، سأعود وأقرأها ذات يوم، هناك دوما متسع من الوقت عندما يتعلق الأمر بالكتب، المهم هو ألا تعود تلك الرائحة مرة أخرى!!

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون