عام الوحش … قراءة في رواية رحلة بالداسار

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 14
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 فرانسيسكو مارتينز بوزاس

ترجمة أميرة بدوي

 

 رحلة بالداسار (Balthasar’s Odyssey)

El viaje de Baldassare

أمين معلوف

ترجمها إلى الإسبانية سانتياغو مارتين بيرموديز

عن دار نشر إليانزا الإسبانية، مدريد، 458 صفحة.

 

 أتذكر ما حدث قبل صدور النسخة الإسبانية من رواية رحلة بالداسار للروائي اللبناني أمين معلوف. في المساء السابق لهذا اليوم، قامت دار إليانزا الإسبانية  بطرح اثنتين من أكثر أعمال الكاتب اللبناني رمزية وهما روايتي سمرقند (الطبعة الخامسة)، و موانئ المشرق (الطبعة الرابعة) ، حيث إنها الدار التي أصدرت جميع ترجمات كتبه إلى اللغة الإسبانية.

 أمين معلوف لبناني الأصل، ولد في بيروت عام 1949، لكن أغلب مؤلفاته صدرت باللغة الفرنسية. احتل المقعد التاسع والعشرين من مقاعد الأكاديمية الفرنسية  الأربعين منذ عام 2011، تتألف قدرة أمين معلوف السردية من حقيقتين هامتين: الأولى هي إبراز ثقافتي الشرق والغرب، والثانية هي تضفير التاريخ مع الخيال. وظهرت هاتان الحقيقتان في أدب أمين معلوف منذ إصدار روايته الأولى “ليون الأفريقي”، وتعد من أكثر الروايات انتشارا في العالم، واهتماما من قبل القراء المهتمين بالتعاضد بين الشرق  والغرب.

رحلة بالداسار رواية عجيبة، متقنة إلى حد كبير، خاصة أن كلمة ” “periplo(رحلة) الواردة في عنوان العمل بلغته الأصلية هي لفظة محمّلة بدلالات السفر أو الطريق. جمال هذه الرواية ينبع من رمزيتها الكبيرة التي تصل إلى الأسطرة، حيث يغلب عليها طابع المغامرة بشكل مدهش، يستطيع القارئ أن يسير على الأرض مع شخصيات الرواية، يشعر بها، يبحر معها، بنفس شغف الراوي، يعيش معها في عام 1666م، عام الوحش، العام المأساوي المقدر فيه نهاية العالم (وفقا لنبوءة نهاية العالم فإن عدد 666 يدل على عام الوحش)، ويكتشف القارئ وجود كتاب المازندراني الذي يكشف الاسم المائة لله تعالى. لكن نظرا لكون هذه الرواية رواية مغامرة من نوع خاص جدا، إلا أن جوهرها ومضمونها لا يقتصران فقط على التغلب على المشكلات والعقبات التي تواجه بطل الرواية “بالداسار” في رحلته للبحث عن كتاب المازندراني، والتي برع أمين معلوف في وصفها وحَلِّها، وهو ما يسميه المنظّرون “بلاغة الخطاب”، بل هناك ما هو أكثر دهاء وعمقا والذي يتجلى في هذه الرواية بشكل واضح وصريح، مثل قدرة أمين معلوف في وصف مشاعر البطل وصراعه الداخلي دائم التوتر، ورصد روح هذا الزمن في لحظاته الحرجة، المضطربة، التي أدت إليها المعتقدات السحرية التي تبشر بنهاية العالم، ورجعية أضاءت هذا العالم المظلم في النصف الثاني من القرن السابع عشر، كل هذه العناصر ميزت العمل وجعلته فريدا. وإن صحّ القول، فإن كتابات معلوف، خاصة تلك التي يسردها بضمير المتكلم، هي الأكثر صدقا وشفافية، بالإضافة إلى أن رحلة بالداسار تذكرنا بقصص كونراد(1) الشهيرة. وإذا بحثنا عن مفهوم المغامرة، المغامرة الحقيقية، لن نعثر عليه في التحديات الخارجية التي يواجهها البطل، كما قد يعتقد البعض، ولن نجدها في مسار الرحلة التي تأخذه وتجوب به العالم، ولا في كيفية التغلب على مشكلاتها، لن نجدها في العنف والمخاطر الساكنين فيها، ولا في الخرافات أو الحب والخديعة، لكن إذا دققنا جيدا سوف نعثر عليها داخل البطل نفسه، في شكوكه الداخلية وفي شعوره الدائم بالغربة، وهو ما سيجبرك على استكمال الرحلة معه، بحثا عن القليل من الأمان والسعادة

المؤكد أن الحدث الرئيسي في هذه الرواية وهو رحلة بالداسار إمبريكو بين المشرق والمغرب بحثًا عن الخلاص، وانقاذ العالم، من خلال معرفة الاسم المائة لله تعالى، مع وجود بعض الحبكات الثانوية، مثل قصة الحب العاطفية التي تسلسلها قيود العبودية بين بارنيللي وليفا، حادثة شبتاي تسفي (2) ومحاكمته المثيرة والحيوية في الباب العالي للإمبراطورية العثمانية، بالإضافة إلى تفاصيل تهريب الصمغ في البحر المتوسط، لكن كل هذه الحبكات الفرعية لا تشتت القارئ. بنية هذه الرواية عبارة عن يوميات في المقام الأول، وهي توضح قدرة الكاتب على حياكة وتضفير الأحداث الفرعية في الحدث الرئيسي، مما يبرز الصراعات الداخلية للأبطال، حيرتهم، رؤية آلامهم  في مرآة هذا العالم، توترهم الدائم بين الصدفة والخرافة، بين القدر والعقل. وبطل الرواية بالداسار، يمقت الخرافات الساذجة، لكنه في نفس الوقت مثل دمية، في مهب الريح.

بطل الرواية مضطرب، مرتاب، لا يعرف الحقيقة، إلى أي فريق ينساق، إلى الدفاع عن العقل، أو البحث عن كائن الكايميرا الـأسطوري(3)، يعرف أن علم الأعداد قادر على توقع العديد من الأحداث، دون تجربة أي منها، ومع ذلك يجد العديد من العلامات أثناء رحلته، توشي بالخراب. سيدرك بالداسار أن البشر سيتركون الجمل بما حمل، ويستسلمون للإرادة الإلهية، التي تحدد مصيرهم، ومستقبل هذا العالم. سيسلمون أن هذه الرحلة ليست سوى وهم، وأن الاسم المائة لله تعالى ليس في متناول أحد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقال منشور في مدونة الناقد الإسباني والتي تحمل اسم “Brújulas y Espirales” في 28 سبتمبر 2015م.  بعنوان:

Brújulas y Espirales: Amin Maalouf “El viaje de Baldassare

(1): جوزيف كونراد هو أديب إنجليزي بولندي الأصل، عمل في البحرية التجارية الفرنسية والإنجليزية، وكتب مجموعة من الروايات والقصص القصيرة خلدت اسمه، مثل اللورد جيم، وقلب الظلام، ويتناول في قصصه الصراعات الدرامية بين الأشخاص وقوى الطبيعة الوحشية، وكان مهتما بإظهار الأوضاع السياسة النفسية بين حيوات الأشخاص الداخلية والمدى الأوسع للتاريخ البشري.
(2): شبتاي تسفي: من أشهر المدعين في التاريخ، حيث ادعي أنه المسيح المنتظر عام 1648م، دخل القدس على فرس، وأطلق على نفسه عدة ألقاب مثل “ابن الإله البكر، أبوكم يسرائيل”، تم القبض عليه ومحاكمته في عهد السلطان محمد الرابع، ثم قام بإعلان إسلامه نفاقا، وغير اسمه إلى محمد أفندي، ومات في ألبانيا بوباء الكوليرا عام 1676م.
(3) كائن الكايميرا: وحش أسطوري من الأساطير اليونانية القديمة، يمتلك ثلاثة رؤوس: رأس أسد، رأس أفعى ورأس عنزة،  وله ذيل الأفعى وأرجل الماعزـ ويستطيع أن ينفث النيران.

مقالات من نفس القسم