عالمٌ مُبَقَّعٌ بالعَتَمَةِ

ألبوم صور
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البشير الأزمي

حياتي عالمٌ مُبَقَّعٌ بالعَتَمَةِ..

حين صافحني نسيمُ هذا الصباح مَنَّيْتُ نفسي أن تكون غلالةُ الحزنِ التي تسكنني قد انقشعت. حدَّقْتُ في وجهي المُطلِّ عليَّ من المرآة وإذا بي شجرةٌ عرَّاها الخريفُ من أوراقها. كآبةٌ عميقةٌ كجذور أشجارٍ ضاربةٍ في عمق الأرض تسكنني، ووجهٌ بدا لي غريباً. من يوم نهتني أمي عن الوقوف أمام المرآة معللة أن المرآة تسكنها الشياطين، توقفتُ عن النظر إليها إلى أن كدتُ أنسى تفاصيل وجهي.

اليوم، وأنا أقف أمام المرآة لم أنتبه إلى وجود أبي. عكست المرآة صورته، التفتُّ، أبي واقف خلفي كفزَّاعة. ارتسمت علامات الدهشة على وجهي، صامتاً رفع يده وأومأ بسبابته أنِ اقترب. كنت محشوراً في الزاوية التي تخفي ضعفي وانهزامي. اقتربتُ منه وأنا أُحِسُّ بطعم الدموع في شفتَيَّ. لا أدري لماذا كلما أومأ لي بسبابته غمزتني الذكريات إلى حياتي التي أضحت كبركة ماء راكدة، أحلم أن ينعم عليَّ الزمنُ وألقي بها حجراً يحرك مياهها من جديد. نظر إلي، في عينيه كلامٌ عجز عن النطق به. فرك عينيه بظاهر يده وبصوتٍ كهزيم الرعد قال:

” حياتي معكم باتت كباب تخلَّعت أخشابه”،

 انزلقت الكلمات من بين شفتيه وصمتَ. كانت لحظة مشحونة بالعواطف.

استحضرت لحظاتٍ من طفولتي البعيدة كان كلما دخل أبي علينا أطفأ فرحتنا. وكنت كلما سمعتُ صوته، وهو ينهرني، يصلني كهزيم الرعد أُحِسُّ بتبوّلٍ لا إرادي يُغرقني، وأمي تحاول أن تداري انفعالها بالصمت أو بالحكي همساً، همسها يَفضحُها ونذرف، كلانا، الدموع لكن أكثر ما كان يؤلمني هو عدم اكتراثِ أبي بنا؛ بدمعنا وضعفنا وهو يراقبنا بانحناءة عينه اليمنى ويأخذ عقب السيجارة بين إبهامه ووسطاه وينقفه بعيداً ويخرج وهو ينتفض غضباً. ظللنا أنا وأمِّي واقفين، صَمتٌ كظيم يشوبُ المكان.. وقفت أمي، نفضت عن نفسها ثقل ما خلفه سلوك أبي من جراحات. همسَت بصوتٍ راعش فيه لوعة قالت:” عالمي، أنا أيضاً مُبَقَّعٌ بالعتمة”. راودتني رغبة مُلِحَّةٌ للبكاء، ضبطتُ نفسي للحظة ثم انفرط عقد البكاء.

انكفأتُ إلى داخل الغرفة أخذت ألبوم الصور..

على شفتي أبي ابتسامة ساخرة. أمي إلى جانبه تبتسم، خلف ابتسامتها تُخفي امتعاضها.

…………………………..

*من المجموعة القصصية ” ألبوم صور”، أَكُورَا للنشر والتوزيع طنجة/ المغرب، ط.1 2023

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال