فصل من رواية “حينما تشتهيك الحياة”

حينما تشتهيك الحياة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. فضيلة ملهاق

الفصل التاسع

طابور طويل!
ثمّة أجسادٌ تنتظر ختم شُرطة الحدود، لتمرَّ إلى قاعة المُسافرين، وأرواح تتحرّك كما تشاء، حُدودُها إحساسُها. ما أضْيَقَ تحرّكاتِنا، ما أوْسَعَ انشغالاتِنا!
تكتظّ القاعة بالحكايات اكتظاظ الوجوه التي تعرضها في صمت. ألبسُ نظّارتي وأُطلقُ العنان لنظراتي. هناك لغة تتجاوز الكلمات!
ما أحلى هذه الطّفلة التي تتمسّح بأذيال أمها! يا ألله! مثل هذه الضّحكة البريئة تُساوي العالم كله!
تتغيّر ضحكاتنا، مع مرور الوقت! كم أشتاق ذلك الطفل الذي كان يسكنني! أين تُراه يكون الآن!
.. أتلفّتُ حولي بتيهان، أبحث عني؟
كنت في الماضي مُستعِدًّا للكثير من أجل أن أكون مختلفا، متفرّدا بحكايتي، وأجدني اليوم مُشتَّتًا بين الوجوه، جزءًا من كل حكاية!
– وثائقك؟
يسحبني صوت الشرطي من تصوّراتي. أُسلّمه جواز سفري مختوما بذهولي. يمكنني الآن التنقل في مختلف أرجاء العالم، ولكنني لا أحسن التنقّل داخلي! يصعب عليّ العبور من لحظة إلى أخرى من دون وقفة ألم!
لست أدري لماذا ذكّرتني هذه الطفلة بفايزة، ربما لأنها كانت طفلة غريبة، بلا ضحكة! أو ربما لأنّ فيها جزء من حكايتي، من ملامحي التي أتناساها.
ثمّةَ دائما شيء مِنَّا ينزِفُ في جراح الآخرين!
كانت فايزة تُقيم في بنسيون (كوكي)، في الغرفة المقابلة لنافذة غرفتي، وتُمضي أوقاتا خلف الستار، تقف كالصّنم. لم تكن تأبه بتناوُبنا على التطلّع إليها، ولا بمُشاكسات عاصم لها، وكان هو حين يملّ مراقبتها يقول مازحًا: “مسكينة هذه الموناليزا، عمياء! ليس لها نصيبٌ في الوسامة!”
اهتممت لأمرها مرة أو مرّتين ثم انطفأ فضولي، لكنها خطرت ببالي ذات يوم. عُدت إلى الغرفة، على غير عادتي، قبل أن ينسحب النّهار. وقفت أمام النافذة ومددت نظري عبر خيوط المطر، فأحسست أن اللّوحة ناقصة. ركّزت بصري في نافذتها، فتحركت ستائرها وتناهى إلى سمعي صراخ وجلَبة.
قفزت من النّافذة وغامرت بالمشي بحذر بين حواف الحيطان، حتّى لا أقع في الفراغ الفاصل بين سطحي الجناحين الشمالي والجنوبي، الذي كان يمدّ الغرف السُّفلية بنور الشمس. وصلت إلى نافذتها على صوت ارتطام الباب بالجدار، فأدركت أن هناك شخصا غادر الغرفة للتّو.
أطللت على الزقاق الخلفي، فلمحت رجلا يخرج من الجناح الشّمالي، مُهرولا، وشعره المعتم يتطاير في الفراغ. بدا لي من الخلف مُتوسّط القامة ومُمتلئا.
ارتفع بعدها نحيب وبكاء، فقفزت إلى داخل غُرفتها، من دون أن أفكّر. كانت معتمة إلا من ضوء خافت ينبعث من فانوس مُلقى أرضا، وفي حالة من الفوضى .. الفراش مخرّب، والوسادات مترامية على الأرض، وأبواب الخزانة مفتوحة، وقطع الزجاج تتناثر حولها .. ورائحة العطر تملأ المكان.
طردتني بانفعال فلم أعرف كيف أتصرّف. ركضت إلى مدخل الجناح الشّمالي ورحت أراقبه بقلق، راودتني فكرة أن أقتحمه وأطرق بابها، فإذا بها تخرج منه مسرعة، فتبعتها، تقودني تصورات مخيفة عما يمكن أن تتعرض له أو تُقدم عليه، في مثل ذلك الظّلام، وتحت وطأة الانفعال.
رُحت أجوب خلفها الأزقّة والطُّرقات إلى أن توقّفت في حديقة عامة وتهاوت على أحد المقاعد. اقتربت منها بحذر ثم نزعت معطفي الجلدي ووضعته على كتفيها، فلم تُمانع، ظلّت على جمود نظراتها وسيلان دموعها للحظة ثم قالت بعينين ساهمتين وصوت يختنق في البكاء:
– هذه هي المرَّة الثانية التي تجمعنا الأقدار، في ليلة تنفر فيها الطبيعة من البشر!
رفعت رأسي إلى السّماء وقلت لها:
– إنها ليلة استلطفت فيها الطبيعة البشر. أنتِ أخيرا خارج تلك اللّوحة! هل تعلمين ماذا يُسمّيك رفاقي؟
استمرّت تركز بصرها في الأرض فاستدركت أنّ الموقف لا يسمح بالمزاح. حدّقت إليها للحظات ثم سألتها:
– ما الذي أوصلك إلى ذلك الجناح؟
تنفّست بعمق وقالت:
– الموْج.
استغربت ردها. فكّرت أنها تهزأ بي، فأطردت تقول:
– لا تحتاج الحياة أحيانا إلا إلى جرأة الخطوة! وقد يكون عجزُنا في خطوة، لا نُحسن بعدها أي حركة.
لم يكن هذا الكلام غريبا عليّ. فقد خُيّل لي أنه سبق لي أن سمعته في جوّ مماثل.. لكن أين؟ ومتى؟ رفعت رأسها فتأكّدت أنها الفتاة التي كانت تلتصق ب(كانيشا) في ليلة (الحرقة) البائسة، وقلت بغبطة:
– الحمد لله، لأنّك بخير!
قالت بما يشبه الهذيان:
– “إنّكِ بخير”! هذا ما قاله الصيّاد الذي أنقذني من الغرق، ثم أوصلني إلى ما ترى! لعلّه قصد “انسي الخير!”
رفعت نظراتها نحوي فظهرت عينها متورّمة ومُحاطة بهالة داكنة، وعلى رقبتها آثار كدمات! شعرت بأنني خرقة تتمسّح بحُزنها. كان ثمّة على المقعد وردة مورقة، وهي في عزّ بردها، وأمامها رجل ذابل، يلفحه الألم. لم أجد ما أقوله. ذهبت ظنوني إلى حِوارنا القديم وباغتها بالسُّؤال:
– حَبيبُكِ؟
ردّت بنبرتها المُتهكّمة ذاتها:
– الكافر؟ لا، لم ألتقيه بعد، سبقه إليّ الحبيب المؤمن، وبالشّرع.
– ذلك الشخص هو زوجك؟
ردّت ببرود:
– حَسْبَهُ.
– لماذا يستبقيك في ذلك المكان؟
– يعيش حقيقته في الظلام، مثل أي وطواط.
حاولت أن أستدرجها إلى التوضيح أكثر:
– أظنني لمحته وهو يغادر ..
قاطعتني:
-يجب أن تُغادر!
فهمت أنها تحسب حسابه. ابتعدت عنها بخطوات، فتناهى إليّ صوتها كهطول المطر:
– أمازلت تحتفظ بولّاعتي؟
استدرت إليها في ذهول فأردفت تقول:
– لا أُحبّ ما يُشير إلى الاحتراق .. ما أكثر حروق المرأة في هذا الوجود! وما أكثر وسائل إحراقها: كلمة حب، نظرة إعجاب، ظن، غيرة .. سذاجة .. وهي في ذلك بقدر ما تبذل مشاعرها، ووفاءها، وطيبتها.. بقدر ما تلتهب، وتتأذّى .. وكثيرا ما تتبخّر .. وتُصبح رمادًا!
عدتُ أدراجي بخطوات وتأمّلتها باستغراب فأردفت:
– نقشتُ عليها أوّل حرف من اسمي، (ف) فايزة، وعندما تجاسرت علينا الأمواج، وضعتها في جيب سُترتك. لم أكن أحسنُ السّباحة وأردت أن أترك لك ذكرى، أن أخبرك أنني أكبرتُ اهتمامك لأمري، فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي أشعر فيها أن هناك من يخشى عليّ.
تجاوزت حديثها عن أسبابها وقلت لها:
– لم أجد سوى ولّاعة واحدة!
– رُبّما!
– هل أعطاها لكِ فاروق؟
– فاروق من؟
– الشّخص الذي وزّع علينا العُهود.
قامت فسقط معطفي على المقعد، ووصلتني تمتمتها وهي تخطو خطوات بعيدة منّي:
“هناك عُهود نقطعُها عن جهْل .. وهناك عُهود تقطعُنا عن إدْراك! “
………………………………..
* صدرت عن “دار العين ” – القاهرة – في نهاية أكتوبر 2021

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون