هاجر مصطفى جبر
من قال إن المال لا يشتري السعادة!! لو كان يملك مالًا لمنحني طفولة.. لكن كنا نقف هنا كل يوم نبيعها والدفء، وقلوبنا يأكلها الصقيع.. كان ذا السبع سنوات طفلًا أرقبه بعين عجزنا الشائخ، نحمل نفس الأرقام فوق جباهنا لكن الأكتاف تختلف.. يشكو حقيبة مدرسته الثقيلة.. وأنا لا أشكو يد الدائن والمشتري!!
قالت أمي: لو ذهبتَ للمدرسة، من يُعين أباك؟
قال أبي: جميعهم يتعلم ليجد عملًا.. ومشروعًا.. وأنت تملك هذا.. فلم تُضيّع أموالنا غير الموجودة على شيء ترفيهي!!
صمتُّ.. فعندما تتحول الضرورة إلى ترفيه لا تملك حق التشبث… الترفيه في طبقتنا إثم كما النقيض في عين النقيض..
تمر السنوات واقفًا على رصيف، كلما تهدم رممته بما تبقى من لحم كتفي ليصون قدم أبي العجوز..
تمر السنوات أكثر، ويتعاون الفقر والشيخوخة في سحب أبي لقاع مظلم خالٍ من الموت.. وبعدها يأتي الموت ببطء قاسٍ ويد زاهدة.. نحن الطبقة التي تزهدها الحياة والموت، ولكنهم يشتركون مع البشر في رغبة البقاء غير المبرر.
قالت أمي: اهتم بعملك والرصيف وتزوج..
قلت: لن أبيع طفولات أخرى.. ولن ألوّن رصيف الصقيع بدفء الأحلام.
كانت عربة أبي الخشبية تحتفظ بجلد يده المتآكل في دفعها، بيعهما كان بثقل السنوات.. لكن كان الاكتفاء محرّكي.. فربما ببيعها أسترد أجزائي.. أو أعثر على شيء من أيامي الأولى أستتر من البيع.
فوجئت أني خرجت للحياة عاريًا، لا شهادة.. لا خبرة.. لا مهنة.. لا شيء أنا.. لم يبقَ مني بعد البيع حتى جلد يد أبي.
مزيد من الأرصفة، لكن لا أملك شيئًا يُباع.. لو كنت امرأة لبعت أجزاء روحي بساعات الرجال، لكني الرجل وساعاتي فقيرة لا أجد من يشتريها.
قالوا: «مزمار الحي لا يطرب»، وقال شيخ الحي: «أرض الله واسعة». فاشتريت بمال العربة كتيبًا أخضر وجناحًا..
قبّلت أمي ووقفت بقبر أبي، وزرت الرصيف لأحمله أمانة صون ترميمي، فلو حدت يصون قدمي كي لا تزل مرتين..
كان هناك..
طفل السبع سنوات صار طفلًا في الخامسة والعشرين.. نعم، ميّزته، رغم كهولتي.
كان يحكي لحسناء عن أيام مدرسة ودفء بطاطا ساخنة منحت أيامه مذاق السكر، وعجوز طيب وطفل مسكين..
حكى كثيرًا بعين تمسك باب الطفولة بقوة كي لا يُغلق.
وصوت يعلم أن الأيام ترغبه.. يد تمسك فتاته، وأخرى تمسك كتيبًا أخضر.














