طعم الرصاص.

حسين جبار
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين جبار “ديموزي”

محمد محمد..

يتسلل إلى سمعه هذا الصوت الذي لا يعرف مصدره من كل الجهات، لكأنه يخرج من ذرات التراب المحيطة به كأمواج متراصفة لا نهاية لها. و سمعه اليوم مرهف كما لم يكن يوما كذلك، ليس سمعه فقط بل أن كل حواسه قد رهفت و توقدت في لحظة ما بينما كانت ركبتاه تنغرسان في الأرض و يداه مشدودتان خلف ظهره و عيناه شاحبتين كمن ينظر في مشهد مريع و مهول.

محمد محمد ..

الصوت ذاته يعود مرة أخرى، و يعود معه كل شيء إلى الوراء بحركة سريعة و تبدأ الأحداث عنده من النهاية.

تتحول الأرض المفتوحة حوله إلى شاشة عرض عملاقة، و تتحرك الصور عليها حركات غير منتظمة و مشوشة إلى حد مرهق لذهنه لكنه مع ذلك يستطيع تمييزها و التفاعل معها بكل ما أوتي-أو بعبارة أدق بكل ما بقي عنده- من إحساس.

يختفي المسلحون الذين يحيطون به و برفاقه كأنما بضغطة زر لا يدري من ضغطها. هو لا يدري شيئا الآن، كل ما يفهمه أنه يتذكر الآن، و ها هي ذكرياته تتجسد أمامه حية و طرية يكاد يلمس شخوصها و يسمع أصواتهم و يرى ملامح وجوههم رغم ما يشوبها من ضبابية.

ها هي ذي والدته تجلس جلستها المعتادة محتضنة ماكنة الخياطة و تمارس متعتها في خياطة الملابس و إصلاحها، و هي ترتدي ثوبها الأسود و تغطي شعرها “بشيلتها” السوداء كذلك.

– لماذا تعذبين نفسك بالخياطة يا أمي؟ إن راتبي يكفينا و زيادة و الحمد لله، لا أحب رؤيتك و أنت مكسورة الظهر بهذه الخياطة المرهقة.

تبتسم له و تقبل كفه الذي يضعه برفق على كتفها و تقول له أنها تجد تسلية في هذا العمل و قضاءً للوقت الطويل، و أنها لا تفعل ذلك رغبة بالمال أو شعورا بالعوز.

يطلب منها إن تعده أنها ستترك الخياطة كلما شعرت بالتعب، فتعده بذلك و هي تفيض عليه بابتسامة تدخل الفرح و البهجة إلى قلبه فينحني إليها بوجهه و يلثم ثغرها بقبلة و هو يقول:

– معاندة أم محمد!

يا للذكريات! أنه في اللحظة التي يحتاج فيها إلى كل صلابة العالم و قوته فإذا بهذه الذكريات تحوله كتلة من المشاعر الهشة المرهفة! و لكن هل يختلف الأمر كثيراً؟ لن يتذكر أحد كيف مت، و هل كنت صلبا أم هشا و أنت تستقبل الرصاصة بين أضلعك أو في رأسك. لن يتذكر أحد شيئا من هذا و لن تكون له أية قيمة. لن تكون سوى جزء من رقم كبير يحشرونك فيه، و لن تكون حتى اسما.

يدخل البيت، يجد والده جالسا على كرسيه الخشبي وسط الحديقة، أو في غرفة الأستقبال مستلقيا على فراشه. يقوم والده لأستقباله و هو يستجمع بقايا جهده المهدور و يقبل كتفي ابنه و الفرح يتخلل خطوط وجهه فيأخذ هو كف والده بين يديه و يقبله قائلا:

-لماذا تقوم يا أبي؟ أنا خادمك!

لا يعلم أنه يمثل لهذا الأب الطاعن الحلم المجسد على الأرض، الجزء المقبل على الحياة، وفي كل مرة يذهب فيها هذا الجزء ليقترب من الموت يكون هو أقرب منه إليه.

ينقبض فؤاده بينما هذه الصور تنهال على خاطره كالجمر الحارق. يتلفت يمينًا و شمالًا حيث صف طويل من رفاقه يجثون على ركبهم و أيديهم مكبلة خلف ظهورهم مثله تماما. تلتقي عيناه بعيني صديقه “سجاد” الذي حدثه قبل ليلتين فقط عن خطبته و عن نيته الزواج في اجازته القادمة، الاجازة التي لن تأتي، و التي استبدلت بإجازة أخرى أبدية.

يحاول أن يقرأ في نظرات رفيقه شيئا ما يبدو واضحا فيهما، لكأنه يسمعه يقول:” لقد تركت مخطوبتي تنتظر عودتي، وأهلي يعدون الليالي من أجل أن يفرحوا بي! فهل أعود اليهم جثة بلا رأس؟! ها! أو أعود إليهم جسداُ مشوها! و ربما لن يروا حتى جثتي!” يلاحظ ذلك التساؤل العميق في عيني رفيقه فيشعر بالضعف و العجز ينغرزان في روحه.

يضغط على ركبتيه أكثر، يغرسهما في التراب أعمق و أعمق و كأنه يزرع نفسه في ذلك المكان الخالي من الزرع. انه لا يمتلك الأن سوى جسدًا و دما فليزرع جسده إذن و ليسقه بدمه!

جميعنا نتحرك بخطى ثابتة نحو الموت، لكن الموت يتحرك نحوه اليوم. عندما نقترب من الموت يتحول شريط حياتنا الطويل إلى مجموعة من الصور تختصر كل تلك الأعوام. إن هذه الصور المعدودة هي الحياة التي عشناها حقا، أما كل ما تبقى من الأيام فليس سوى حشو فارغ.

محمد محمد..

أخيرًا عرف لمن هذا الصوت: إنه صوت والدته و هي توقظه ذات فجر. ألم يحدثها قلبها يومئذٍ بشيء؟! ألم ينقبض فؤادها؟! هل غاب عنها وحي الأمهات في ذلك الفجر فلم تعلم أنها توقظه لأخر مرة؟ أم أنها علمت فأرادت أن ترضع الوطن حليبها الممزوج بدمه؟!

لم تكن زوجته في البيت ذلك الصباح، كانت عند أهلها تعود أمها التي نزل بها المرض، هي و طفليهما.

يسترجع ذكرياته معها: آخر مرة قال لها:”أحبك” آخر مرة قبلها و قبلته، أخر مرة استقبلته، و آخر مرة ودعته. هي ابنة عمه التي أحبها و عشقها فتزوجها و كانت ثمرة زواجهما: جنة و علي. جنة التي تقف بجسدها الصغير عند الباب إلى جانب أمها في كل وداع و تراقبه حتى يغيب عن عينيها، وعندما يعود تركض تستقبله و ترتقي جسده متعلقة بعنقه. وعلي الذي بالكاد صار ينطق كلمة:”بابا”

يجتمعون كلهم حوله و يحيطون به: والده على كرسيه الخشبي، أمه و هي تجلس عند ماكنة الخياطة، زوجته و هي تبتسم له ابتسامتها العذبة التي طالما سحرته، وطفلاه و هما يتعلقان به. كان محاطا بهذه الدائرة.

إن الأصعب من الموت هي تلك اللحظات التي تسبقه، بل إنها الموت نفسه، الأصعب هو موت الرغبات المعلقة على مشنقة الانتظار، إنه ذلك الهاجس المر بالخيبة، إنها تلك الصور التي تأخذ تجري أمام عينيك مسرعة فتركض خلفها حتى ينقطع نفسك و لا تظفر منها بشيء.

الأكثر ألما من خروج الروح هو خروج الذكريات منك قبل ذلك.

لكنه لم يشعر بالخيبة، لأن الخيبة هي عندما تخسر نفسك، هو لم يخسر نفسه، بل إنه زرعها و بعد قليل سيسقيها.

يعلو الصياح من حوله. بين الحين و الآخر يأتون بمجموعة من الشباب يضموهم إلى حفل الإعدام الجماعي. ترتفع الأصوات بالتوسلات، و جواب التوسلات هي النعوت الجاهزة التي أكلوها و شربوها حتى غدت تسري في دمهم و هم يجترونها دون كلل أو ملل و دون أن يفقهوا معناها.

هل تخلت السماء عن الأرض؟ لماذا يكثر الدم حيث يكثر ذكر الله؟!

إنه يخلق محكمة، هو سيدها، لأنه لم يعد هناك ما يخشى خسارته، يلملم حواسه بسرعة، ركبتاه تغوصان أكثر في الأرض، و أسنانه يضغط بعضها على بعض بقوة، و الدم في عروقه يغلي و يجعله يتصبب عرقا.

يطلبون منهم القيام و التقدم إلى الأمام! ما هذه السخافة! هيا أحيونا بالرصاص فقد مللنا الموت بين أيديكم، هيا! إن الأرض جائعة و التراب يشكو العطش!

يجتث ركبتيه من التراب و هو يحدثهما: لا تخافا ستعودان إليه، يخطو إلى الأمام ليقطع الطريق بين الحياة و الموت.

يتحول إلى جسد يعبر خلاله إلى الجهة الأخرى، ثم يعود كتلة من روح، و ليس هناك من فرق، يتوحد الموت مع الحياة فينكشف كل شيء، يصبح هو مركز الموت و الحياة، هو المحور، فبينما ملامحه تضج بالعدم كان داخله مفعم بالوجود.

محمد محمد ..

يكفي يا أماه! لقد استيقظت و ها أنا ذا اتقدم إلى الحرب، ألا ترين؟! كفاك من هذه السكاكين التي تغرزينها في سمعي، إن صوتك يشد وثاقي و يكبلني بسلاسله للحياة، و الموت هنا على بعد شبرين يفتح حفرته لاستقبال جثتي.

ارفعي صوتك أكثر عندهم، مزقي آذان ضمائرهم، أما أنا فخطي بالحناء على كفك اسمي، و ارفعيه إلى السماء و أشيري إلى قبري.

رتلي اسمي على مسامع طفلي كلما غفى الليل و لم يغفو.

دسي صورتي بين صفحات القرآن لتلامس أحرفه فتسكن روحي.

هلهلي إذا جئتك حاملا علمي على نعشي لتشقي عصا طاعتهم بهلاهلك، و لا تنسي أن ترشي الماء خلفي.

تعالي يا والدتي و احملي جنة عني، إنها ترهقني، تتعلق بنعقي و إنا أعجز عن ضمها إلى صدري، و علي ماذا يفعل هنا؟ إنه يجلس على التراب و يمسك بي و يشل حركتي!

خذيهما إلى حيث لا تصل إليهما ذاكرتي، انتشليهما من دمي، اقتلعي صورهما من عيني، هيا يا أمي!

أبي،

لا تقم عندما يأتيك نعشي،

حتى لا يظهر للعيان انحناء ظهرك.

زوجتي الحبيبة، تكحلي و انتِ تستقبلينني فالكحل في عينيك قصة، و احذري أن يمتزج الكحل بالدمع فذلك الخيط الأسود على خدك أمضى في روحي من رصاصهم.

محمد محمد ..

هذه المرة يأتيه الصوت من كل مكان: من فوقه و من تحته، عن يمينه و عن شماله. الأرض تطلبه و السماء تناديه. و الحفرة قريبة على بعد خطوتين.

يصل بعض رفاقه إلى الحفرة قبله، بعضهم يجثو طائعا كأنه يستعجل الموت، و البعض يظل واقفا حتى تأتيه رفسة ترميه على وجهه.

يصل المرتفع على طول الحفرة فيثني ركبتيه و يجثو، ويثبت عينيه إلى الأمام. يلتفت يسارًا فلا أحد هناك، تنبه أنه في طرف الصف: هل سأكون آخر من يموت؟ أرجوكم ابدؤوا من هنا، أريد أن أموت مرة واحدة فقط!

يتفرق المسلحون كل واحد على مجموعة من الجنود، لا ينبغي أن يحرم أحد من شرف المشاركة بالقتل.

يدوي صوت عيارات نارية لثواني ثم يتوقف. ماذا حدث؟ و قبل أن يعرف الجواب يعود الصوت مدويا مرة أخرى. لماذا لا يطلقون جميعهم مرة واحدة؟! سؤال جديد بلا جواب، و الصوت يقترب منه أكثر.

صوت ثم رفسة فترتمي جثة في الحفرة.

تسقط الجثث واحدة تلو الأخرى. ما إن يرى ملامح إحداها حتى يرى ملامح أخرى فتختلط عليه الوجوه و الأشخاص، هؤلاء الذين قضى معهم ليال في الضحك و السهر، وأياما في رفقة السلاح حتى صاروا عائلته الثانية، و ها هم يتساقطون جثثا أمام ناظريه.

يجفل، تنقبض روحه و هو يرى جثة رفيقه سجاد ترمى على بعد خطوات منه، و كأنه شعر بالموت يقترب منه أكثر و أكثر.

لم لا يضعون رصاصهم في صدورنا؟ لم لا ينظرون في أعيننا و هم يبعثون بنا إلى الجحيم كما يظنون؟ لكنهم لا يجرؤون على النظر في عين ضحيتهم لأنهم جبناء و هي ستصرخ بهم و تعريهم و تفضح جبنهم و خواءهم.

أمي! هناك شيء حاد يخترق جسدي! إنه حارق و مؤلم أشعر به يقطع أحشائي. أنا قريب من الأرض يا أمي، إنها دافئة كحضنك و زكية كرائحتك. الموت ليس مرا يا أمي عندما نأتيه طائعين.

لقد فهم أخيرًا لماذا هي ترتدي السواد دائمًا، بمناسبة أو بغير مناسبة:”إنها في حداد دائم على الوطن”

بدأ الضوء ينسحب من عينيه، والصور تتكسر و تزداد شحوبا، والظلال تتكثف من حوله.

أريد أن أحتضن التراب و لكنَّ يدي مكبلتان، هذا مؤلم أكثر من الموت نفسه!

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون