ضوءُ شمعةٍ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البشير الأزمي

على ضوء شمعة ترتجفُ وتُحَوِّلُ الأشياءَ إلى صورٍ ترقص على الجدار، قعدتُ أتابع حركاتِها وأستعيدُ مرحلةً وأحداثاً من عمري كنتُ أعتبرها سراً أحتفظ به لنفسي ولا يمكن  لي البوحُ به لأحد..

اليومَ قررتُ أن أتكلم..

أخذتُ عهداً على نفسي أن أقطع حبل الصمت الذي يلتف حول عنقي.. كنت أعتقد أن صمتي قادرٌ أن يعيد الطمأنينة إلى نفسي. زحف الصمتُ نحوي كَبَّلَ لِساني وخانتني الكلماتُ.. الكلامُ سلوةُ الإنسان، اليوم قررتُ أن أتكلم.. سأتكلم حتى لو كان كلامي موجهاً إلى نفسي.. المهم أن أخرج من بئر الصمت قبل أن ترتفع مياهُها وتغرقني.. سأتكلم لأملأ فراغات نخرتها ديدانُ صمتي وأطرد الثقل الجاثم على صدري وأرداني أشعر أن الحياة تتسع لكل العذابات..

قلت لأتدرب على نبذ الخوف والخجل.. لأقف أمام المرآة، وأحدق في وجهي الذي يطل عليَّ منها، وأكلمه. أحس أن ذاتي انسلخت مني وتشكلت منها ذاتٌ ثانية؛ ذاتٌ تشبهني، في الحقيقة لا تشبهني إلى حد التطابق. الشامة أسفل خدي لا تعكسها المرآة والفتلة في عيني اليسرى أيضاً.. أحسستُ أن كلَّ شيءٍ مات داخلي أو داخل تلك الذات التي تطل عليَّ من المرآة.. بدتْ لي تلك الذات غير ذاتي، عيناها مثقلتان بالنعاس وبدأتْ تستسلم للنوم.. صرختُ فيها أن استفيقي من حلمك حتى أستطيع أن أنسلخ منك.. الوقت ليس وقتَ نوم..

الذاتُ المطلة عليَّ من المرآة بدتْ ملامحها ساهمةً مجروحةً.. شرعتْ في الكلام.. الكلام ينسابُ أمامي كنهر تجمعت فيه مياه الأمطار وجرفت كل ما يعترض سبيلها. آلمني كلامُها، وخزَ مشاعري..  لم أبكِ لأني استهلكتُ كل ما كان لديَّ من دمع في حياتي التعيسة..

” أنا توأمك”..

قالت الذاتُ.

ما علمتُ، يوماً، ولا حدثني أحدٌ عن توأمٍ لي.. حركتُ رأسي علَّني ألفظ عنِّي الطيف المطلَّ علي من المرآة.. أغمضتُ عيْنَيَّ.. فتحتهما.. غابت صورة الطيف، حَلَّت محلها صورتي.. عاد السؤال:” لماذا كانت حياتي تعيسة” من جديد يطرق أذنيَّ.. لستُ أدري.. جفَّت مقلتا عيني.. فقدتُ ملكة البكاء..

اليوم أستحضر كلام جدتي. كنتُ لحظتئذٍ صغيراً، قاعداً في المنور غير بعيد عن المكان الذي تقعد فيه أمي وجدتي، صدى صوتيهما مازال يرن في أذنيَّ ويُوَقِّعُ في قلبي لحن الألم. أحاول، الآن، أن أستحضر صورة جدتي فتبدو لي الصورة ضبابية، تقترب وتبتعد في حركات ارتدادية ولا تستقر على وضع أستطيع أن أتبين ملامحها بشكل واضح..   

نظراتُها وكلامُها وقودٌ يشعل ناراً في جسدي. سمعتها وهي تتحدث إلى أمي، تقول:

” يوم وُلِدا لم تُسمع الزغاريد، لم يكن في البيت نساء ليزغردن احتفاءً بقدومهما سوى أنتِ وأنا.. أنتِ مُجهدةٌ نتيجة الوضع وأنا أقعدني المرضُ.. وأبوهما انقطعت أخباره من مدة ولا نعرف شيئاً عن سبب غيابه.. طال أمد غيابه طال.. آمل أن تكون تلك المرأة تعتني بالمولود”.

 انتبهتُ إلى ضمير ” هما” في قولها قدومهما. أحسستُ بأمعائي تتقلَّصُ. بكيتُ، اليوم، في داخلي.. لم تنز من عيني دموع لكنني أحسستُ بها تروي معاناتي.. أشعر بنقطة تكبر وتستقر في شغاف القلب، كلما استحضرتُ غياب التوأم ازدادت مساحة الألم كبراً. واستحضرتُ كلاماً كنت سمعته من قبلُ عن نساء يبعن أولادهن لضيق  ذات اليد.. آملُ أن لا تكون أمي فعلت ذلك..

على ضوء الشمعة التي ترتجفُ وتُحَوِّلُ الأشياءَ إلى صورٍ ترقص على الجدار؛ آخذ ألبوم الصور.. أتصفحه… أقف عند صورة؛ توأمان قاعدان  يبتسمان.. وأمي واقفة خلفهما..

أبكي وأنا مُتَّشحٌ بحلم مستحيل..

أبكي وصمتٌ يَشي بحزن دفين يطوقني..

أبكي وأدفن حلماً..

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال