القتيلة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مصطفى البلكي

ماتت وهي تمارس الحب!

لم يكن هذا هو الخبر الذي هز المدينة ذات أصيل عاصف، ولم يكن الفعل محرمًا، فالجميع يمارَسَ الحب، والجميع يرون أنه ضروري حتى يوجد ما يطلق عليه السلام النفسي، لذلك لم يقف الكثير ممن شدهم الخبر أمامه، لكن عَمْرُ القتيلة هو ما جعل هامش الدهشة يتسع، فهي الجارة التي كانوا يرونها كل يوم، وهي تدير أمورها، معتمدة على نشاطها، تذهب إلى السوق في الصباح وهي تحمل حقيبة مصنوعة من القماش، تطويها تحت إبطها، وتمضي منصوبة القامة، لا تلتفت في أي اتجاه، نظرها دائمًا تجعله مع الطريق، وتفضل أن تسير جاعلة بينها وبين نهاية الرصيف مسافة تكفي لمرور شخصين، لم يلاحظ أحد عليها أنها وقفت ذات يوم لتتبادل حديثًا عابرًا مع رجل أو امرأة، حتى حينما يصطدم بها أحد بطريقة عفوية، كانت لا تعيره أي اهتمام، وتكتفي بأن تبتسم ابتسامة خفيفة، وتمضي إلى وجهتها.

قيل الكثير عن هذا الالتزام، ونسجت حولها الكثير من القصص، كلها بقيت في صدور من سمعها.

كان لها بعض الأهل الذين يترددون عليها في أوقات متباعدة، يأتي كل واحد وفي يده الزيارة، كيس أو حقيبة تشبه الحقيبة التي كانت تحملها، يدخل شقتها، ومن هناك كان يتناهي إلى الجيران صوت موسيقى، وغناء فيروز، وبعض الضحكات القصيرة، لم يجرؤ أى من الجيران على الاستفسار عن هوية من يطرق بابها.

ظلّ الأمر هكذا حتى تردد عليها ذلك الشباب، كان وسيمًا، يمتلك جسدًا فتيًا، وابتسامة ودودة لم تكن تفارق وجهه، وكان لدي البعض الكثير من الفضول الفائض، لذلك راحوا يتابعون الشاب، وحينما لم يجدوا أية شبهة حوله، قالوا ساخرين من أنفسهم:

ماذا يريد شاب من امرأة سبعينية؟!

وجد السؤال، ولم يهتم أحدهم بمتابعة الشاب بعد ذلك، لكن نسوة الحي أدركن التغيير الذي طرأ على العجوز، كما كن يطلقن عليها، كانت أكثرهن نشاطًا، وكانت تجادل كل بائع، وتحصل منه على خصم، لا تناله إحداهن، وفوق ذلك كله، تعجبوا من الحياة التي بدأت تدب في أوصالها، وشاهدوها وهي ترتدي الملابس زاهية الألوان، التي يتلاعب بها الهواء، فيطيرها، فتغيب جلابيتها بين فخذيها، فيشاهدون تماسكهما، ومدى الجمال الذي ما زال يسكن استقامتهما، ويوم أن شوهدت وهي تتجاوز عتبة الصيدلية، راقبتها إحدى النساء وهي تتحدث مع الصيدلي عن أفضل الكريمات التي ترطب البشرة، والزيوت التي تجعل الشعر ناعمًا، وعن العطر غالي الثمن، وبعد أن أمدها بكل المعلومات، أحضر لها عينات، فراحت تقارن بين الأصناف، وهي غير عابئة بنظرات كل من يدخل المكان.

تلك الملاحظة جعلت سيرتها تعود، والدهشة وهامشها يتسع، والسؤال يطل برأسه: هل العجوز في حاجة لكل هذا؟ مكث السؤال قليلا، وسرعان ما اختفى تحت وطأة حقيقة كانت مازالت باقية: أليس من الأفضل أن تُترك العجوز لتعيش حياتها كما تريد.

وظل الشاب يتردد عليها، لم يغير من مواعيد زيارته لها، لكنه أضاف بعض الطقوس، لم تولد دفعة واحدة، في البداية بدأ يستريح قليلا في المقهى الوحيد في الشارع، والقريب من البناية التي تسكن فيها العجوز، القهوة في كوب، كان طلبه الوحيد، فترة وجوده هي نفسها الوقت الذي يكفي لاحتساء قهوته، وبعدها يغادر المكان، من دون أن يتبادل أي حديث عابر مع الرواد.

ظل محافظا على تلك العادة، وأضاف لها بعد شهر، قراءة الجريدة اليومية، فأضاف لوقت مكوثه ضعف الوقت الذي يقضيه في احتساء القهوة، أثناء ذلك كان يغيب كثيرًا في شقة العجوز، وظهر عدة مرات في شرفتها وهو يجمع لها الغسيل، كان يبدأ بجمع الملابس المتوارية في المشجب الأخير قبل أن ترتفع يده، كان يكورها، فتغيب قطع الملابس في القبضة العفية، ومرات شوهد بالفانلة وهو يعبر من خلف الستارة في غرفة المعيشة، ومرة وحيدة دخل الصيدلية، وحينما خرج لم يكن معه أية أدوية، كاد أن يحرك كوامن الشك فيه، لولا تبرع أحدهم بتبرير فعلته بقوله:

كبار السن مشاكلهم كثيرة.

قبل الحادث بيومين، وبينما يقوم عامل من عمال مكتب شركة الاتصالات بإصلاح خط من خطوط الهاتف، وبينما هو يصعد السلم بالقرب من شرفة العجوز، تناهي إلى سمعه صوت أنين يشبه أنين أنثى يواقعها رجل بعنف، ولا يترك لها مجالا لالتقاط أنفاسها، شده ما سمع، وتراخى حماسه، وتمنى لو مد يده ودفع بالضلفة القريبة منه، ليرى ما يدور، لكن تلاشي الصوت شجعه ليكمل السقوط ببطء ممل، وحينما لم يصله الصوت ثانية، خمن:

ربما الصوت من فيلم تشاهده العجوز.

كل تلك الحكايات ظهرت، وسيارة الإسعاف تقف أمام البناية، نزل منها طاقمها، فهرع بعضهم إلى داخل شقة العجوز، ليغيبوا هناك بعض الوقت، وحينما خرج الطاقم، تجمع أهل الشارع حولهم، وحينما علموا بخبر وفاة العجوز، اتسعت الدهشة بهامشها، ولما حضر ضابط القسم وبرفقته مفتش الصحة، أُغلق الباب بجنديين مدججين بالسلاح المشهر في اتجاه التجمهر.

غاب الضابط ومعه الطبيب لنصف ساعة، عاين الطبيب جثمان العجوز، وجد بين ساقيها فُوطة مبللة بسائل، تفحصها، ورمق الشاب بغضب، وعاد وراح يقلب الجثمان على الجنب الأيسر، فوجد أثار كف مطبوعة مطبوعة على ردفها، وتابع عمله حتى انتهى، وبعد أن نزع القفاز الطبي، انتحى بالضابط، ودار بينهما حديث هامس، بعده، تكلم الضابط، وهو يهز رأسه:

تمام، صرح بالدفن.

رد عليه الطبيب:

ستكون المرة الأولى التي نكتب فيها هذا السبب، ماتت بسبب ممارسة الحب.

وقبل أن يغادر الطبيب، نظر للشباب، وأمره:

أحضر معك بطاقة زوجتك، وقسيمة زواجك منها

وغاب الشاب من الشارع في نفس يوم موت العجوز، وعاد أهل الشارع يتندرون بما حدث، وكل واحد منهم يتمنى لو قتل هامش الدهشة بداخله.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون