”صلاة خاصة“: الخير الذي ينتصر في الخيال ويُهزم في الواقع

صلاة خاصة صبحي موسى
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سمير مُندي

كل من سيقرأ رواية ”صلاة خاصة“ لصبحي موسى، سوف يلاحظ مستويين من السرد يجريان، على التوازي: مستوى يجري في حاضر متوتر بأحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير، بتداعياتها المختلفة، ويتناول قصة راهب مسيحي يُدعى ”أنطونيوس“ تؤرقه تساؤلات حول الحقيقة الإلهية، وسط اتهامات وُجهت إليه بالهرطقة. ومستوى ثانٍ تاريخي يعود بنا قرونًا إلى الوراء من خلال سرد الأحداث المأساوية التي صاحبت الصراع على حسم طبيعة السيد المسيح بين كنائس الشرق والغرب. في القلب من هذا الصراع تبرز قصة ”أوريجانوس“ العلّامة الذي حرمته الكنيسة وطردته نظرًا لآرائه المحمولة، تاريخيًا، على محمل التفريط والهرطقة، وعلى محمل الاستنارة والتسامح في سياق الرواية ككل. بين هذا وذاك يجري سرد تاريخ دير ”الملاح“ والظروف التي جرى خلالها تأسيسه على يد آباء مستنيرين، اتخذوا من أفكار ”أوريجانوس“ المحروم هاديًا لهم. لن يفوت القارئ، وعلى مدار الرواية، ما يريد الكاتب أن يؤكد عليه من قيم الاستنارة والتسامح التي يجب، من وجهة نظره، ألا تغيب عن أفق أي تفسير ديني. مثلما يؤكد على القبح الذي يتسم به التعصب، بما ينطوي عليه من عنفٍ وإقصاء للآخر وتضييق عليه. تحت وطأة هذا الدافع الأخلاقي ينتصر  الخير، بما هو  استنارة وتسامح، من خلال قصة مُتخيلة حول راهب يحب مُحققة، فيتغلبان معًا على قوى الشر ويهزمانها. على حين يبقى هذا الانتصار معلقًا وغير محسوم تاريخيًا. سواء من خلال النهاية المأساوية التي انتهت بها حياة المُعلم ”أوريجانوس“ بموته طريدًا محرومًا من عفو الكنيسة، أو من خلال قصة ”يؤانس“ مؤسس جمعية “الأمة القبطية“ والمؤمن بالعنف سبيلاً للتغيير، الذي فر إلى الصحراء دون أن يُعثر له على أثر، تاركًا المجال مفتوحًا أمام احتمالات عودته، أو بالأحرى عودة العنف.    

ثالوث البحث عن الحقيقة:

انطلاقًا من هذا الواجب الأخلاقي، الذي لابد وأن ينتصر فيه الخير على الشر، آمن السارد، إيمانًا مطلقًا، بأسطورة ”أنطونيوس“ وحبيبته ”دميانة“. وقدمهما في صورة قديسين تحرسهما العناية الإلهية، وتتدخل في الوقت المناسب لإنقاذهما مما قد يُحاك لهما من شرور. وعلى عكس ما يجري في المُتخيل المسيحي من تغلب البطل على وحشٍ هو، غالبًا، رمز للشيطان أو الشرير. مثلما صَرَعَ الملاك “ميخائيل”، شفيع السارد وسَمِيّه، التنينَ في رواية “رامة والتنين” لإدوارد الخراط، فإن ”اللبؤة المفترسة وأشبالها الأربعة“، و“الكلب السماوي” يحرسون سلامة “أنطونيوس”، و”دميانة“ من أي خطر يتهددهما. تحول يعيد، ربما، قراءة الخطيئة الأصلية مبرئًا “الحية” من غواية “حواء” وملقيًا بالمسئولية على عاتق الإنسان بالدرجة الأولى. يقول السارد: ”كان انتباهه إلى خطى كلب السماء وتقدمه للرهبان قد أكد له أنه يسير في الاتجاه الصحيح، فاستدار وضرب قدمه بقوة في الباب الخشبي فكسر قفله، ودلف منه إلى دهليز مظلم بارد، لم يعرف إلى أين سيأخذه، لكنه وجد نفسه يبتعد فيه، وسمع أصوات الرهبان وهم يحاولون تشجيع بعضهم للدخول خلفه… لكنهم جميعًا سقطوا على الأرض، وفروا إلى خارج المذبح حين رأوا اللبؤة وقد مدت عنقها من الباب الصغير، ثم زأرت في وجوهم وخرجت عليهم بصحبة أربعة أشبال يافعين“ (ص/165-166)¨.

على أن قصة “أنطونيوس”  ارتبطت بالبحث عن حقيقة ذاتية في علاقتها بحقيقة إلهية مطلقة. وبالتالي فهي تقدم تمثيلاً خطيًا للصراع وللحيرة اللذين يكتنفان عملية البحث، وتُسقطها على صراعات شبيهة في السرديات الكبرى المُؤسسة. يقول السارد عن “أنطونيوس” في بحثه عن هذه الحقيقة: “إنه بَحثَ عن الله ما يقرب من عشرين عامًا في دير الملاح، وإنه يريد أن يلتقي به الآن كواحد من البشر العاديين الذين لا تميزهم الملائكة بصلبان كبيرة، ولا لحى طويلة ولا ثياب سوداء” (ص/379).  يتحول هذا البحث إلى “رحلة”، في القلب منها يقبع “التيه”، بكل ما تنطوي عليه الرحلة من مخاطر وأهوال، وبكل ما ينطوي عليه “التيه” من احتمالات الضلال والضياع. وذلك نزولاً على مبدأ أزلي قَبْلي يؤدي، بمقتضاه، طالب الحقيقة ثمنًا لتحقيق مطلبه وبلوغ غايته. فلا يبلغ مأربه قبل أن يفقده، أو يتوه عنه زمنًا، أو حتى يموت دونه. ولا غرابة، من ثمَّ، أن يُشبه السارد رحلة “أنطونيوس” في البحث عن الحقيقة، برحلة “العائلة المقدسة”. يقول السارد: “فيما يشبه “رحلة العائلة المقدسة”، ارتحل أنطونيوس من مصر القديمة إلى المعادي، حيث زار  كنيسة السيدة العذراء بها، وسأل أسقفها إن كان يعرف طريقًا لدير الملاح أو الأب إيمانويل”(ص/160).  ومثلما اضهدت السيد المسيح قوة غاشمة، وضيّقت عليه الخناق حتى رفعته على الصليب، فإن “أنطونيوس” اضهدته جماعات دينية متشددة حتى ربطته في أحد “أعمدة النور”، ثم طردته خارج القرية. يقول السارد: ”في النهاية أصدر الأمير أحكامه أمام الجميع بربط أنطونيوس في أحد أعمدة النور، وجلده أمام الجميع عشرين جلدة، على الأقل، ثم طرده خارج القرية“ (ص/88)

قصة المحققة “دميانة”، الأقنوم الثاني في ثالوث الحكاية، فصل آخر من فصول رحلة البحث عن الحقيقة. فالمُحقق، كما نعلم، باحثُ عن الحقيقة، بحكم مهنته، مهمومُ بسبل تقصيها وإحقاقها. وعمله، من هذا المنظور، هو بمثابة “رحلة” طويلة وشاقة من أجل تطبيق “القانون” إرساءً للعدل وإقامة للحجة على المحقوقين. لا فارق هنا في الغايات، ولا الأهداف السامية بين “القانون” البشري الذي يستهدف إقرار الحق على طريقته، و“الناموس” الإلهي الذي يتغيا، إقرار العدل وفقًا لعلم سابق في الذات الإلهية. ومن ثمَّ فإن بحث المُحققة “دميانة” عن الحقيقة يحط في الأرض بقدمٍ، ويحلق في السماء بجناحٍ. حتى إن المُحققة تغدو مثل حبيبها “أنطونيوس” محروسة بقوة إلهية ترعى بحثها عن الحقيقة، وتسبغ عليه حمايتها. فها هي ”اللبؤة وأشبالها الأربعة“ يظهرون فجأة ليحولوا، بأعجوبة، دون دفنها حية. يقول السارد: ”ما رواه الرهبان ليوساب أنهم ألقوا بها في الحفرة، وكانوا على وشك أن يردموا عليها الرمل، لولا أنهم رأوا لبؤة بصحبة أشبال أربع ظهرت كأنها نزلت من السماء أو خرجت من الأرض… ثم ما لبثت أن رفعت عنقها نحو السماء مطلقة صوتها الغاضب“ (ص/ 175).

علاوة على ذلك فإن”دميانة“ التي تقف في صف الحق من ناحية، وتدافع عن الاعتدال والتسامح من ناحية أخرى تصبح ضحية للتعصب فتتعرض، لا للصلب أو الجلد، وإنما للحرق. لا فارق، في ذلك، بين أن يصدر التعصب عن بني ملتها، أو أن يصدر عن بني ملة أخرى. طالما أن التعصب لم يكن أبدًا دينًا، بقدر ما هو سلوك خاص بصاحبه. يقول السارد: ”كان رضا قد فكر في خدعة بسيطة حين تركه العمدة ومن معه يعود بدميانة إلى بيته، فخبأها وسط كومة من الحطب على سطح بيت مجاور لبيته، ونزل ليبلغ السلفيين أن العمدة أخذها ورحل، وكان من الممكن لخطته أن تسير في مجراها الطيب لولا أن سارينات الشرطة التي نبهت السلفيين للتغير الذي حدث، مما جعلهم يلقون بمشاعلهم إلى أسطح البيوت، وما إن وصلت الحكومة لبيت رضا حتى وجدوا أسماء تلطم وجهها، مطالبة الجنود بإنقاذ المسكينة من النيران“ (ص/ 220-221). 

سوف يلاحظ القارئ، من منظور آخر، الطبيعة الأسطورية التي تنطوي عليها شخصية “ملاك” الكاتب، ثالث الثالوث. فليس صدفة أن يكون ”ملاك“ لقيطًا مجهول الأبوين،  مثلما أن “آدم” عليه السلام بلا أبوين، ومثلما أن “أوديب” بطل مسرحية ”أوديب ملكًا“ لسوفوكليس كان لقيطًا. يقول السارد عن ”ملاك“: “فقد وجده الخادم ميخائيل أمام البوابة الكبيرة قبيل شروق الشمس في لفافة من قماش، تلفت مرتين نحو الخلاء الواقع على جانبي السور الخارجي بحثًا عمن تركه في هذا المكان، لكن عينيه لم تلمحا أحدًا في ضباب الصباح المتكاثف”(ص/18) . ومع أن “ملاك” لم تُحط بحياته نبوءة من أي نوع، مثلما أحاطت النبوءة بحياة “آدم” عليه السلام و ﺑ“أوديب” الملك، إلا أن اضطلاعه بكتابة تاريخ الدير، وبتسجيل الحقيقة ليست مهمة أقل قداسة بأي حال. يقول السارد: “تعلم ملاك من إدوارد المهنة التي وجده عليها… عاش معه الحقيقة التي لم يعشها مع غيره، وهي أن مخزن الكتب والدفاتر القديمة هو قدس الأقداس، وأنه الكاهن الأكبر الذي لا يحق إلا له وحده دخول هذا المكان ومعرفة أسراره، كان يتعامل مع المخطوطات كما لو أنه يتناول من جسد المسيح” (ص/38).  ليس من الغريب، بعد ذلك، أن يفكر “ملاك” في دير “الملاح” باعتباره بداية الخلق ونشأة الحياة. يقول السارد: “لذا فأنا أكتب هذه الكلمات كي تكون دليلاً على الخطى التي بدأت تتخذ مسارها على أرض الدير، فمنذ انتقلت للإقامة في مخزن المخطوطات…وأنا أفكر في هذا المكان، كما لو أنني أفكر في بداية الخلق ونشأة الحياة” (ص/96).   

التعدد والاستنارة في مقابل التعصب والتطرف:

تتقاطع، بذلك، دوائر التعصب والتطرف في حكاية ”أنطونيوس“، مثلما تتقاطع فيها دوائر التسامح والاستنارة.  سواء ما تَفتتح به الرواية أولى فصولها من تحقيقٍ يجريه الدير معه على إثر اتهامه بطباعة كتاب كتبه راهب طردته الكنيسة وحرمته. فينعطف، بذلك، ما يواجهه ”أنطونيوس“ في الحاضر من تهديدات بالطرد والحرمان، على ما واجهه، في الماضي ”أوريجانوس“ من طرد وحرمان. مثلما تنعطف قوى التعصب والتطرف، التي تتهم ”أنطونيوس“ وتهدده، الآن، على قوى التعصب والتطرف التي سبق وأن هددت وحرمت ”أوريجانوس“. وتنعطف، أخيرًا، في الدائرة التاريخية للسرد، على أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير، وما ارتبط بها من صعود نجم “الإخوان المسلمين” وتهديدهم للتعددية وللسلم الاجتماعي. وما أيقظته هذه التحولات من مخاوف الأقباط وهواجسهم تجاه ماضٍ بعيد قريب عانوا فيه الأمرين من الظلم والاضطهاد. بما يجعل من الدفاع عن قيم التسامح والاستنارة باعتبارها ترياقًا ناجعًا في مداواة كل تعصب وتطرف هو حجر الزواية في هذه الرواية. يقول السارد: ”فكر أنطونيوس أنه منذ اجتاحت الثورة مفاصل البلاد والحياة لم تعد طبيعية، وما سمعه من المؤمنين الذين كانوا يحجون إلى الدير جعله يفكر ألف مرة في عدم الخروج من قلايته، فقد ازدادت إهانة المسيحيين والاعتداء عليهم مع فقدان الأمن، وراح الرعب يجتاح الكنائس مع صعود نجم الإسلاميين  ووصولهم إلى البرلمان، وأخذ الجميع يتساءل عن المصير الذي سيواجهونه، وما إن فاز  الإخوان بالحكم حتى شعر  الأقباط بالنكبة، واتخذ بعضهم قراره بالهجرة“ (ص/ 259).   

على أن القوى التي هددت أنطونيوس واتهمته لم تكن إلا امتدادًا لهوامش التعصب المتبقية من مشروع جمعية “الأمة القبطية” التي تأسست مطالع الخمسينيات من القرن العشرين على يد مجموعة من الأقباط، والموازية لجماعة “الإخوان المسلمين” في تعصبها، وإيمانها بالقوة وسيلة للتغيير. في نفس الوقت الذي كانت فيه “جميعة أوريجانوس” قطبًا مقاومًا يطرح بدائل فكرية أكثر مرونة وتفتحًا. ومن ثمَّ تواصل الرواية انقسامها على نفسها من خلال هذين المستويين التاريخيين اللذين يتجاذبان علاقة توتر. يقول السارد: “كان صلاح متري يتحدث وهو يقرأ من كتاب لأوريجانوس، كان يشرح لي لماذا يتمسك بموقفه بينما، يؤانس متمسك بموقفه، لكن الفارق بينه وبين يؤانس أنه رافض للقتل، لا لشيء سوى أنه يعلم تمام اليقين إن كان على صواب أم خطأ، وحتى لو كان على صواب، فإنه لا يعلم إلى أى مدى سيستمر  هذا الصواب، فالحياة تتغير والبشر ليسوا قطع شطرنج ولا قطارات تسير  على قضبان ثابتة” (ص/ 478).      

بين منظور السرد ومنظور الكتابة:

الانحياز الأخلاقي الذي لاذ به السارد أرسل رسالة للقارئ بالنهاية التي اختارها لقصته منذ البدء وفرضها فرضًا، لا بحكم كونه ساردًا عليمًا. إنما بحكم كونه، أولاً وأخيرًا كاتب وحي. إذ أن كاتب الوحي لا يخضع لقوانين عالمنا، قوانين الصدفة والاحتمال، بقدر ما يخضع لقوانين فوق طبيعية. في موازاة ذلك يُعاد تعريف ”الكتابة“ باعتبارها “شعيرة” دينية، يتناول فيها الكاتب المخطوطات “كما لو أنه يتناول من جسد المسيح” (ص/38).  ويحرر المقموعين من خطاياهم بسرد تجاربهم ومعاناتهم.  يقول السارد: ”إن صور الذين رأيتهم معلقين على جدار الصخور يصرخون فيّ أن أحررهم من خطاياهم وسرد ما جرى معهم“ (ص/248-249). وتكتمل هذه الشعيرة باعتبار الكتابة ”صلاة خاصة“، يتساوي فيها فعل تدوين الحقيقة بفعل أداء الصلاة. حيث كل كتابة هي بمثابة ”صلاة خاصة“ يؤديها كل كاتب على طريقته، ومن منظوره الخاص دون أن يقلل ذلك من منظورات الآخرين أو ينتقص منها. يقول السارد على لسان ”ملاك“ الكاتب:.”كلفني أستاذي بنيامين…بأن أكمل من بعده كتابة تاريخ ديرنا وما يجري من حوادث جسام في حاضر أمتنا القبطية، قائلاً إنه لو كان للكُتاب والشراح من أمثالنا صلاة خاصة بهم، فإنها تدوينهم للحقيقة كما يرونها“ (ص/ 547). 

ولم يكن الكاتب في منأى عن خيارات سارده. فقد صدَّق تأليف الرواية على خيارات السرد، وكشف عن تآزره معها. فسوف يلاحظ القارئ أن الرواية اتخذت، بأقسامها الثلاث، شكل أيقونة. حيث تغدو الحكايات الثلاث: ”أنطونيوس الجسد الذي يبذل“، ”دميانة ريح الجنون“، ”ملاك إشارة الروح“، بمثابة ثلاثة أقانيم في منظومة الرواية ككل. ولنلاحظ الرمزية الدينية التي ينطوي عليها عنوان الحكاية الأولى ”أنطونيوس الجسد الذي يبذل“ في إشارة إلى جسد يبذل نفسه على نحو ما بذل السيد المسيح جسده افتداء للخطيئة البشرية. على حين تحل ”دميانة“ الحبيبة محل ”الأم“ في الثالوث المقدس. يقول السارد عن هذه الأمومة: ”تخيل أنطونيوس أن دميانة تقوم بدور الأم الراعية لهما“ (ص/352). ويكتمل الثالوث بملاك الكاتب ”إشارة الروح“ الذي اضطلع بقدسية تدوين الحقيقة وحفظها من الضياع.

اقتضى تعدد مستويات التفسير وتصارعها، من منظور آخر، تعددًا نوعيًا داخل الرواية ككل. بحيث انقسم السرد على نفسه، إلى أنواع ثلاثة: ”القص“ و”التاريخ“ و”الاعترافات“. فالقص حاضر من خلال قصة الثالوث “أنطونيوس، دميانة، ملاك”، والتاريخ حاضر من خلال تسجيل وقائع الصراع الكنسي على طبيعة السيد المسيح، بمستوييه الحاضر والماضي، وأخيرًا اعترافات “أوريجانوس” بما هي نوع يندرج تحت الكتابة الخيالية ذات المرجعية الذاتية. في موازاة هذا التعدد النوعي تعدددت أصوات الساردين وتباينت، ما أحدث فارقًا واختلافًا في مستويات الرؤية: فمن راوٍ يسرد، في الخيال، حقيقة محتمل وقوعها، إلى مؤرخ يؤرخ لأحداث وقعت فعليًا، فسارد سيرذاتي يروي بضمير المتكلم وعلى لسان “أوريجانوس” ما مر به هذا العلاّمة القبطي من تجارب وخبرات مؤلمة. خلال ذلك كله يجري، على التوازي، تمثيل الكيفيات والسبل المختلفة التي من خلالها تُنتج الحقيقة. سواء أكانت حقيقة مطلقة، أو حقيقة ذاتية، أو حقيقة تاريخية. ومن ثمَّ تتحول الرواية في معناها الكلي إلى صراعٍ للتفسيرات. بما يؤكد، مرة أخرى، على التعددية والاختلاف في مقابل التعصب لحقيقة واحدة بغض النظر عن مصدر هذه الحقيقة.

أصبحت الرواية، شكلاً ومضمونًا، تصويرًا جماليًا لتفسيرات ”أوريجانوس“ التي تحتفي بالتعدد والتنوع وقبول الآخر، ورفض الانصياع لحقيقة واحدة مهيمنة. أليست الحقيقة الفنية بعض تجليات جمال الذات الإلهية في تعدد صورها وأنواعها؟ يقول السارد على لسان أوريجانوس: ”فأخذت أوضح له أن الأب والابن والروح القدس أقنوم واحد، لا يمكن الفصل بين أي منهم، جميعهم من أصل واحد، وقوة واحدة، وطبيعة واحدة، جميعهم الله، وليس أي منهم يمكنه وحده أن يكون الله، لأن الله ليس وجهًا واحدًا للحياة“ (ص/ 446-447). مثلما تعكس الرواية تبني الكاتب لأفكار ”أوريجانوس“، وتفسيراته المستنيرة بخصوص الإيمان والخطيئة والخير والشر عمومًا. وبالتالي يقف الكاتب في صف المدافعين عن الاستنارة والتسامح، لاسيما ”إيمانويل الطيب“ الرجل الذي ”وهب حياته للدفاع عن حياة الأقباط” (ص/453)، والأب ”باخوميوس“، ثم ”صلاح متري“، وأخيرًا ”أنطونيوس“ الذي يقاوم، بطريقته، أقانيم التعصب.

…………………………………….

¨ جميع الاستشهادات مأخوذة عن طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب. أنظر: صبحي موسى، صلاة خاصة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2019م

 

مقالات من نفس القسم