الترجمة والتنوير

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 66
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شهاب الخشاب

تشوب مجاز “التنوير” المستخدم في الحديث عن النهضة الفكرية العربية عدة مساوئ، وأهمها هو التصور الخطي عن مصدر الـ”نور”، الذي يشع دائمًا كالضوء المباشر بين مصدر الإضاءة ومناطق الظلام، حيث تستنير العقول كالظلال المتعطشة للضوء. غالبًا ما يأتي النور المنشود في الحديث التنويري العربي من مصادر محددة، أي أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وخصوصًا التراث المعرفي المهيمن في تلك البلاد. بالتالي فعلاقة الترجمة بالتنوير هي علاقة الوسيلة بالغرض، حيث تتحوّل ترجمة الفكر والأدب الأوروبي والأمريكي المركزي إلى أداة مباشرة لاقتباس الضوء الغربي ونقله إلى المتحدثين والمتحدثات باللغة العربية عبر وساطة المؤسسات القومية الرسمية.

على سبيل المثال، تتبلور تلك الرؤية الوظيفية للترجمة في كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” للدكتور طه حسين. بعد مقدمة نظرية أكدت على الارتباط الحضاري بين مصر والغرب، اقترح حسين بعض الإصلاحات الإدارية الواجبة في المؤسسات التعليمية والثقافية المصرية في الثلاثينيات. شملت الإصلاحات المقترحة إنشاء مؤسسة قد تدعم حركة الترجمة وتنشر أحدث العلوم الأوروبية في مصر. لم يتحقق المشروع أثناء فترة عمل طه حسين بإدارة الثقافة في وزارة المعارف (وصولًا إلى درجة الوزير)، ولكن تقدمت نفس الإدارة بعد ثورة يوليو بمشروع ثقافي لدعم الترجمة بمثل هذا المنطق التنويري، وهو بالطبع مشروع “الألف كتاب” الذي بدأ عام 1955. مع اختلاف الظرف التاريخي، تجدد مشروع الألف كتاب بصورة أخرى في وزارة فاروق حسني. وهكذا تقدم الدكتور جابر عصفور بمشروع قومي للترجمة تحت رعاية المجلس الأعلى للثقافة في الألفية الجديدة، والذي تحول لاحقًا إلى مركز قومي للترجمة تحت إشرافه عام 2006.

إذا ألقينا نظرة سريعة على الكتب التي صدرت عن هذه المشاريع القومية للترجمة، سنرى كيف يغلب عليها طابع المناهج والمواضيع المهيمنة في العالم الأكاديمي والأدبي في أوروبا وأمريكا، سواءً كان في الكتب التي تبنت المناهج الوضعية والعقلانية والبنيوية الوظيفية في الخمسينيات والستينيات، أو في الكتب التي ناقشت الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة في التسعينيات والألفية الجديدة. غالبًا ما تختار المؤسسات الرسمية ترجمة تلك النصوص التي تخدم الرؤية التنويرية الطاغية داخل تلك المؤسسات، والتي عبَّر عنها كتاب الدكتور جابر عصفور الأخير، الذي يتناول فكرة المشروع والمركز القومي للترجمة بوصفه “قاطرة التقدم” (2019). الترجمة كالقاطرة هي الأداة المباشرة التي تلحق العالم العربي النامي بالدول الغربية المتقدمة، وتدفع باقي القطار عبر ظلام النفق نحو النور في نهايته.

في إطار مشروع التنوير الذي صاغه مثقفو المؤسسات الرسمية مثل طه حسين وجابر عصفور، عزفت حركة الترجمة العربية عن ترجمة تيارات ونقاشات فكرية هامة قد تقدم نقدًا جذريًا ومنهجيًا للتصور المهيمن عن التنوير الأوروبي والأمريكي. ليست لهذا الوضع أسباب مالية وعملية بحتة. فبرغم الدعم الضعيف للترجمة في المؤسسات الرسمية، وميل الناشرين الخاصين إلى ترجمة الأعمال الأكثر رواجًا في الخارج، هناك قدر لا بأس به من الترجمات التي تصدر عن أعمال أوروبية وأمريكية، بالإضافة إلى بعض الأعمال الصادرة عن آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخاصةً تلك الأعمال التي تحوز على جوائز عالمية. ولكن تتجاهل الترجمة التنويرية – بشكل يبدو منهجيًا – تلك الخطابات التي تنتقد المنطق التنويري المهيمن، وتنكر وجود الحركات التاريخية التي ترعى مثل هذا النقد.

إن المثال النموذجي عن تلك الخطابات والحركات هي الانتفاضة العالمية الراهنة، التي بدأت بحركة التظاهر ضد الشرطة الأمريكية تحت شعار “حياة السُمر مهمة” (Black Lives Matter)، ثم استقطبت الجماهير في أوروبا ومستوطناتها السابقة والحالية عبر العالم. كيف لنا أن نفهم تلك الانتفاضات ضد الإرث الكولونيالي الذي يتمثل في العنصرية وعدم المساواة والاستغلال والعنف، وتحديدًا ضد المواطنين السُمر؟ أين الأدوات الفكرية التي تسمح لنا بفهم الظرف الحالي، الذي يخرج بوضوح عن الخطاب المهيمن بخصوص استنارة أوروبا وأمريكا؟ وكيف نفكر في العلاقة التاريخية بين العالم العربي وتلك التواريخ من العنصرية وعدم المساواة والعنف والاستغلال؟ يظهر هنا العجز الجذري في التوجهات التنويرية الغالبة على حركة الترجمة عبر العالم العربي، حيث ينقص الكثير من المراجع الأساسية لمحاولة فهم الظرف الراهن، بينما تتكاثر المراجع التي تعكس الخطاب الأوروبي والأمريكي الطاغي.

فتوجد مثلًا عشرات من الكتب المترجمة عن الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، ولكن ليست هناك ترجمة واحدة للكلاسيكيات التي كُتبت عن ثورة هاييتي الحاسمة في تاريخ حركات التحرر العالمية، ومن أهمها “اليعاقبة السُمر” (The Black Jacobins) للمؤرخ سيريل لايونيل روبرت جيمس (CLR James). كذلك هناك ترجمات عديدة للتراث الماركسي الأوروبي، ولكن ليست هناك ترجمات كافية للنقد الأفرو أمريكي والكاريبي للماركسية، وضمنها كلاسيكيات مثل “عصر إعادة البناء الأسمر” (Black Reconstruction) لويليام إدوارد برجهاردت دوبويس (WEB Dubois) و”أنثروبولوجيا الماركسية” (An Anthropology of Marxism) لسدريك روبنسون (Cedric Robinson).

بنفس المنطق، لنا أن نتساءل لماذا تتداول الكتابات العنصرية للمفكر الفرنسي جوستاف لو بون (Gustave Le Bon)، صاحب “سيكولوجية الجماهير” (1895) و”القوانين النفسية لتطور الشعوب” (1894)، ولكن ليس هناك أثر ولا اهتمام برسالة العالم الهاييتي الفذ أنتينور فيرمان (Anténor Firmin) المعنونة “عن مساواة الأعراق البشرية” (1885)؟ ولماذا يُترجم التراث النسوي الأوروبي والأمريكي بانتظام، وأصبحت كتابات سيمون دي بوفوار وجوديث باتلر متداولة في النقاشات الفكرية العربية، ولكن لا أثر للمراجع الأساسية في الفكر النسوي الأفرو أمريكي مثل “النساء والعرق والطبقة” (Women, Race, and Class) لأنجيلا ديڤيس (Angela Davis) و”أَلَسْتُ امرأة؟” (Ain’t I A Woman?) لبيل هوكس (bell hooks)؟

لا يقتصر الأمر على غياب بعض الكلاسيكيات من مشاريع الترجمة التنويرية، فهناك تجاهل منهجي لتراث فكري كامل صنعه مفكرون ومفكرات سُمر في الساحة المترابطة بين أوروبا وأمريكا والكاريبي وأفريقيا، وهو الـ”تراث الراديكالي الأسمر” (Black Radical Tradition) حسب تعبير سدريك روبنسون الوجيز. لم يكتف هذا التراث برصد تجربة مغايرة عن الحداثة الغربية منذ قلبها النابض، أي تجربة العبودية والعنصرية والكفاح في سبيل الحصول على العدالة والمساواة العرقية، ولكنه يقدم أيضًا أدوات تحليلية ونظرية هامة قد تلقي إضاءة جديدة على حدود الفكر التنويري الأوروبي والأمريكي، والذي غالبًا ما يعكس رؤية “بيضاء” للعالم، تتحصن خلف المركزية الأوروبية دون الالتفات إلى الفكر والتجربة التاريخية الذين رصدها مفكرو التراث الراديكالي الأسمر.

لقد نُقل تراث النهضة الأوروبية إلى العربية بلا اهتمام بالـ”وجه المظلم للتنوير” حسب تعبير والتر مينيولو (Walter Mignolo). في إثر المشاريع الثقافية التنويرية، منعنا التركيز البالغ على النور الأوروبي والأمريكي من النظر إلى الثقب المظلم داخل مصدر النور نفسه. ليست الحداثة والعقلانية إلا الوجه المضيء لتاريخ العبودية والاستعمار والاستغلال الرأسمالي والعنف القضائي والبوليسي تجاه الأعراق والطبقات “الأدنى”. ولا يكفي هنا لفت النظر إلى النقد القومي للاستعمار والاستغلال الذي قدمه بعض المفكرين القوميين والناصريين مثلًا، والذين حصروا إشكالية التنوير في عدم وجود النور الكافي بسبب الاستعمار والاستغلال، ولم يهتموا بالسؤال السياسي الأعمق، وهو سؤال التشكُّل التاريخي للتنوير الأوروبي والأمريكي في تلاحمه مع رؤية استعمارية واستغلالية للكوكب. بالتالي فتتغاضى الرؤى التنويرية عن استمرار أنماط كولونيالية للسياسة والتفكير في زمن الدولة القومية “الحرة”.

ليس الغرض من طرحي أن نستبعد ترجمة الكتب الأوروبية والأمريكية، أو أن ننفر من مواكبة التيارات العصرية في تلك بلاد. لقد ارتبطت النهضة الفكرية والأدبية العربية منذ نشأتها في القرن الـ19 ارتباطًا وثيقًا بالترجمة عن اللغات الأوروبية، وتركت تلك الترجمات إرثًا ثمينًا من التفاعلات والتطورات الفكرية. ولكن إذا أردنا إلقاء نظرة نقدية إلى إرث النهضة الأوروبية والعربية، وإذا أردنا أن نتخطى الغمامات القومية التي تحصر الحوار التنويري في نطاقات ضيقة، فيجب أن ننتبه إلى وجود تيارات فكرية عالمية قد بدأت هذا النقد للتنوير، وتحديدًا تلك التيارات التي لم تتلق حظًا من الاهتمام المؤسسي الرسمي إلى الآن. لا تكفي ترجمة الأفكار والأدب في أوروبا وأمريكا بناءً على رؤية محدودة لضرورة تنوير الأذهان المظلمة، بل يجب إنعاش القدرات النقدية للقارئ العربي عبر ترجمات للتراث العالمي وطويل المدى الذي انتقد التنوير بمعناه الضيق، الذي يتغاضى عن تشكُّله الكولونيالي العنصري.

يجب أن تتحول الترجمة إلى أكثر من اقتباس الضوء الغربي لصالح المتحدثين والمتحدثات باللغة العربية، وتصبح ممارسة تدفع نحو إعادة نظر جماعية وجدلية في المسلمات الفكرية المنتشرة عن التنوير.

مقالات من نفس القسم