حذاء فيلليني لوحيد الطويلة .. اغتيال الجلاد ولو في الحلم!

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

بديعة زيدان

دخل السجن "مطاع" وخرج منه "مطيع" .. هو الطبيب النفسي الذي دخل الزنزانة ولم يعرف يوماً ماهية تهمته .. تم تعذيبه بكل الوسائل، لدرجة أنه كان يتمنى المحاكمة والسجن الذي كان له في تلك الفترة بمثابة الإفراج، قياساً بما يعيشه من عذابات جسدية ونفسية.

ينبش وحيد الطويلة في تجارب السجون العربية، أو هكذا أرى، من خلال روايته الجديدة “حذاء فيلليني”، الصادرة عن دار المتوسط للنشر في إيطالياً، متخذاً من سورية مكاناً لأحداث الرواية، ولكنها، وربما على عكس ما توقعه الكثيرون، كانت سورية ما قبل الثورة، فهي في ذلك الوقت كانت من “أشهر السجون العربية” فيما يتعلق بالتعذيب.

بداية، لفتني الإهداء في مطلع الرواية “إلى الذين صرخوا ولم يسمعهم أحد.. إلى الذين لم يستطيعوا أن يصرخوا”، قبل أن تبدأ الرواية بفصل بعنوان “مشهد ما كان فيلليني ليحبه”، لِيَليه فصل آخر بعنوان “مشهد كان فيلليني ليحبه”، ثم تتوالى بقية الفصول ترقيماً من 3 حتى 13، قبل أن ينهيها بفصل “المشهد الأخير“.

يسرد الطويلة حكاية مطاع المعالج النفسي الذي يجد نفسه في السجن لسبب يجهله، هو الذي كان يعيش مع والده في أحد الأحياء الشعبية، ويدخل قصة حب مع جارته التي تهتم به وبوالده، حتى تنتهي هذه القصة بزواجها من ضابط، أما هو فيغيب في السجن ماراً بشتى أشكال التعذيب الأليم جسدياً ونفسياً، والتي لا يستطيع التخلص من تأثيراتها حتى بعد خروجه من الزنازين، فتبقى ترافقه حتى في أحلامه، كما في يقظته، فيعيش حالة من الصراع ما بين الانتقام والمسامحة أو الصفح، خاصة بعد أن يتفاجأ الطبيب السجين السابق بامرأة تدخل عيادته برفقة رجل محني الرقبة، وعندما يتأمله جيداً يجده الضابط الذي مارس بحقه الأذى عن سابق إصرار وترصد.

تبدأ الزوجة بسرد حكايتها مع الجلاد الذي لم يرحمها هي أيضاً، حيث كان يمارس بحقها التعذيب كأنها واحدة من القابعين في السجن الذي يترأسه، لدرجة الاغتصاب على مدار 25 عاماً، هي سنوات زواجها منه، عدا اكتشافها العديد من قصص الخيانات الزوجية التي كانت جزءاً من مسيرة حياته خلال ارتباطه بها، وهكذا يجد مطاع جلاده بين بيديه، ليدخل في دوامة من الصراعات النفسية ما بين الفرصة الاستثنائية للانتقام، وما بين كونه طبيباً معالجاً عليه أن يلتزم بأخلاق المهنة.

اللافت في رواية الطويلة أن السارد متغير، فمرة يكون السارد هو مطاع، ومرة يكون الضابط، ومرة يأتي الصوت من دواخل أو على شفاه زوجة الضابط المظلومة.

ولا ينسى الطويلة نثر المتعة لدى القارئ عبر حوارات ونقاشات بين ثلاثتهم، في كسر لنمطية السارد الواحد، ففي الفصل الواحد نسمع أصوات أكثر من سارد يحكي كل منهم حكايته من وجهة نظره، فترانا كقراء نتعاطف مع هذا تارة، وأخرى مع ذاك، في لغة جزلة مشوقة بعيدة عن التعقيد، وهو ما يميز لغته عادة.

ومن الحوارات اللافتة تلك التي جاءت في الفصل رقم 8 على لسان الضابط الجلاد مخاطباً زوجته ومطاع الطبيب النفسي خاصته قائلاً: “أنتما وغيركما لا تعرفون ما فعلته من أجلكم، لكنني لا أعير أمثالكم أدنى اهتمام، أنا فعلت ما فعلت من أجل الملايين الأخرى، من أجل أن تسعد كل عين وتنام هانئة، عيني هي عين من بات يحرس في سبيل الله .. ضحيت بسعادتي في سبيل الوطن وأبنائه، حاولت أن أحميكم من أنفسكم ومن الآخرين، أحطناكم كآبائكم، لم يستطع واحد أن يعيّن خفيرا في مجمع، أو مؤذنا في جامع دون موافقتنا، لنطمئن على ولائه حتى في طبقة صوته“.

ويضيف مخاطبا مطاع: أنا مثل أبيك لا تظن أنني أستعطفك أو أدعوك للرفق بي .. “بعيد عن شواربك مع أنك دون شوارب، نتفتها لك لتصير أوسم ولم تجرؤ بعدها أن تعيد تربيتها مرة أخرى” (…) و”لا تشاهد التلفزيون، وإلا لكنت عرفت أن العقيد القذافي الذي تبتل في تعبير الزنادقة قال للولد الذي قبض عليه: يا بني أنا مثل أبيك”، في إشارة هنا إلى أن أحداث الرواية تدور ربما في الفترة التي تلت القبض على القذافي، وقتله مباشرة.

ويشعرنا الطويلة بأن الطبيب مطاع ربما يغفر للضابط ما فعله به، لعله يتخلص من الآثار النفسية للتجربة المريرة التي عايشها، أو ربما كي يستطيع العيش دون كوابيس ترافقه طوال الوقت.

ويأتي الفصل الأخير أشبه بلوحة سينمائية ما، عنونها الطويلة بلقطات ومشاهد مرقمة، وكأن الرواية مشهد في فيلم صنعه ولم يصنعه فيلليني، فكما قال أحدهم في الرواية: “الجراح التي لم تندمل هي سبب علاقتي بفيلليني، ذلك المخرج الإيطالي الذي كان يعيش تفاصيل أفلامه وحكايتها ومشاهدها في أحلامه ثم ينقلها سينمائيا“.

وهذا ما أكده الطويلة لـ”الأيام الثقافية”، بقوله: فيلليني كان ينام، ويحلم.. ينط من فراشه ليرسم أحلامه.. معظم مشاهد أفلامه من قلب أحلامه .. لا نستطيع أن نواجه الواقع العربي المؤلم المخيف بالواقع فقط .. فيلليني قال للبطل: “عليك بالأمل في حياة أفضل.. الأمل رشوة يقبلها الجميع“.

وأضاف: أحب فيلليني الذي أخرج أحلامه، وأحب نظرة فيلليني للمرأة .. يحب النساء جميعاً، وأنا كذلك، من كل الأطوال والأحجام .. أغار من فيلليني السمين الذي أحبته نساء كثيرات.. لكني أغار أكثر من سعة روحه وقوة أحلامه.

وشدد الطويلة: عشنا أسوأ فترات العالم العربي ..لا قيمة لأحد فينا إلا باتساع حنجرته وقوتها وهي تهدر لـ”الإله الفرد” (الحاكم الديكتاتور) .. في سورية كانوا يغنون “يالله حلك حلك يقعد حافظ محلك” .. آلهة البشر بقسوة لا تعرفها الآلهة الأخرى .. أقول لك: هناك أناس لم يصدقوا أن حافظ مات إلا بعد فترة طويلة.

وختم: تعذبنا جميعاً في الوطن العربي من الطغاة، لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالخوف والعمل الصالح، لكن نسخة سورية كانت الأكثر بشاعة، وصدّام وغيرهما.. تعرفين ماذا حدث في المغرب عندما فتحوا جلسات الاستماع لمن تم تعذيبهم، لا تستطيع الشياطين أن تفعل ذلك .. وما حدث في سجون عبد الناصر، وما فعله صلاح نصر .. لا شيء يبرر التعذيب مهما كان .. لم يخلق الله رقابنا رهنا للخليفة .. التاريخ العربي والإسلامي قبيح، عذبوا البشر لأجل السلطة، لذلك رغم أن فيلليني كان ينصح البطل بألا ينظر خلفه وأن يمضي إلى الأمام، إلا أنه عندما أخرج المشهد الأخير قتل الجلاد.. قتله ولو في الحلم، فالسينما هي الحلم، وهي معادلة الواقع بشكل ما.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم