شريف الشافعي: رسام الجداريات الشعرية

شريف الشافعي: رسام الجداريات الشعرية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

 د.مصطفى الضبع

 

شريف الشافعي (شريف فؤاد مصطفى الشافعي)، شاعر وصحفي مصري من مواليد مدينة منوف (دلتا مصر 1972) ، تخرّج في قسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، عام 1994، صحفي في مؤسسة الأهرام بالقاهرة منذ عام 1996- رئيس القسم الثقافي ومسئول الديسك المركزي وعضو مجلس التحرير في “بوابة الأهرام الإلكترونية”.

مراسل وكالة أنباء رويترز العالمية، وصحيفتي العرب اللندنية والرياض السعودية، على مدار أكثر من عشر سنوات.

أصدر سبعة دواوين شعرية:

  1. ‘بينهما يَصْدَأُ الوقتُ’- سلسلة ‘كتاب إيقاعات الإبداعي- القاهرة 1994.
  2. ‘وَحْدَهُ يستمعُ إلى كونشرتو الكيمياء’ – سلسلة ‘إبداعات – الهيئة العامة لقصور الثقافة -القاهرة 1996.
  3. ‘الألوانُ ترتعدُ بشراهَةٍ’, 1999, القاهرة، ‘مركز الحضارة العربية’ (النص الكامل/ 1035 صفحة). وفي طبعة ثانية في العام ذاته عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة, سلسلة ‘الجوائز’ (مقاطع من النص/ 188 صفحة).
  4. “البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية” (الأعمال الكاملة لإنسان آلي1)، 2008، القاهرة، طبعة خاصة. وفي طبعة ثانية، 2009، دمشق، دار تالة. وفي طبعة ثالثة، 2010، القاهرة، مؤسسة سندباد للنشر والتوزيع. وفي طبعة إلكترونية عن مجلة “الكلمة” اللندنية.
  5. “غازات ضاحكة” (الأعمال الكاملة لإنسان آلي2) -دار الغاوون- بيروت2012.
  6. كأنه قمري يحاصرني- دار الغاوون – بيروت 2013.
  7. هواء جدير بالقراءة، باللغتين: العربية والفرنسية، يونيو 2014، دار لارماتان، باريس، ترجمة منى لطيف.

“UN VENT DIGNE D’ÊTRE LU”
L’Harmattan, Paris, juin, 2014. SHARIF AL-SHAFIEY. Traduit de l’arabe (Égypte) par: MONA LATIF-GHATTAS

  • كما صدر له : نجيب محفوظ: المكان الشعبيّ في رواياته بين الواقع والإبداع- الدار المصرية اللبنانية – القاهرة 2006.

مقارنة بجيله أو من سبقوه قليلا لعالم كتابة الشعر فالشاعر غزير الإنتاج الشعري ، يقدم نصا هادئا ، مفخخا ، تأخذك بساطته إلى مساحات من العمق ، وهناك يكون عليك محاولة الإمساك بخيوط الصور والتراكيب والعلامات لتخرج في النهاية برؤية شعرية لها قدرها من العمق والتميز ، ذلك العمق المعتمد على مرجعية تقف على أساسين معرفيين : مكاشفة المنجز الشعري السابق أولا ، والوقوف على ثقافة العصر التي تكشف عن نفسها فيما يطرحه الشاعر من رؤاه وما تعبر عنه مجموعة الأساليب الشعرية المعتمدة ثانيا ، تلك الأساليب ذات الطبيعة المعرفية الخاصة التي يمكن للمتلقي مكاشفتها حين ينصت للنص في مستوياته المتعددة .

تقوم شعرية شريف الشافعي على تفتيت القصيدة في شكلها العام إلى ما يشبه الجدارية القائمة في مجموعها على قطع صغيرة متعددة الألوان ، لك أن تسميها مقطوعات شعرية ، ولك أن تسميها ومضات ، ولك أن تسميها جملة بلاغية تتشكل من سياق خاص بمشهد مكتمل ، ولك أيضا ألا تنشغل بالشكل (الذي يفرض عليك أسئلته الخاصة لاحقا ) ، غير أننا نرى أهمية اعتماد مصطلح إجرائي نستطيع من خلاله الوقوف على مجموعة الطرائق التي تسهل للمتلقي مكاشفة تجربة الشاعر بقدر من التنظيم المعتمد على جهاز معرفي وجمالي في آن ، معرفي يقوم على إدراك أسئلة الشاعر وما يطرحه عبرها ، وجمالي يقوم على إدراك الطرائق الجمالية التي تفرضها النصوص في تواليها ، وفي الحالتين يطرح سؤال الشكل نفسه ، خاصة ذلك الشكل القائم على تغييب العناوين الداخلية فليس ثمة قصائد تتسلسل وفق عناوين جديدة متوالية ، عناوين تكون بمثابة العتبات الداخلية التي تنبه المتلقى إلى جملة جديدة أو مشهد جديد يتصل / ينفصل عن سابقه ، والتغييب هنا ينتج نصا يكون اتصاله أكثر من انفصاله ، ففي سياق العناوين المتعددة يكون كل نص قائم بذاته دون طرحه علامة لغوية تربطه بما سبق ([1]).

التفتيت هنا لا يعني انفصال الصور وإنما يعني ارتباطها تماما عبر علامة شبه لغوية شديدة الأهمية ، أعني الرقم المتنامي في تصدره للمقاطع الشعرية (يبدأ من 1 حتى 532 في ديوان الشاعر الأكبر حجما ” مما يجعل من الديوان قصيدة واحدة متعددة الجمل ، ويجعل من القصيدة الواحدة ما يمكن الاصطلاح عليه بالجدارية ، في مقابل المعلقة العربية المعروفة (لك أن تعتمد في قراءة هذا النوع من المطولات الشعرية على مصطلح المعلقة نفسه شريطة إدراك طبيعة النص القديم والجديد وان تدرك الفارق بين المعلقة والجدارية ) ، وهو ما يثير إشكالية المصطلح ([2]) ومشروعية طرحه ، و تطبيقاته في الشعر العربي القديم (بعد العصر الجاهلي ) والحديث ، استمرار تجلياته في شعرية الألفية الثالثة .

والمساحة النصية هنا تؤكد تفوق الجدارية الحديثة على المعلقة القديمة بما يعني تطور الثانية عن الأولى ، ويكفي – تدليلا على ذلك – الوقوف على المقارنة الكمية بين واحدة من أشهر المعلقات القديمة (معلقة عمرو بن كلثوم ) ، وبين الديوان الخامس للشاعر ” غازات ضاحكة ” بوصفه أنموذجا لقصائد الشاعر (جدارياته ) ، والمقارنة فقط من خلال عدد الكلمات بين القصيدتين :

  • عدد كلمات معلقة عمرو بن كلثوم قرابة الألف (1000) كلمة .
  • عدد كلمات قصيدة /ديوان شريف الشافعي قرابة خمسة عشر (15000) ألف كلمة .

وهو ما يعني اتساع مساحة المعلقة الحديثة في تطورها الصاعد نحو تشكلها في قصيدة أخرى مغايرة يمكن مكاشفتها وفق طريقتين للقراءة تفرضهما أساليب الشاعر وتطرحهما طبيعة النصوص :

  • قراءة الانفصال : وهي قراءة تتأسس على التعامل مع النصوص / الجمل البلاغية حال استقلالها عن غيرها من مكونات الديوان / القصيدة ، وفيها يكون التركيز على معطيات الجملة البلاغية في مستواها العميق بوصفها البنية الأساسية المستمدة من مادة خام هي خلاصة رؤية الشاعر لقضية ما أو لمشهد له مرجعيته الواقعية ، تماما عندما يطرح الشاعر رؤيته لصورة من صور واقعه المعيش ، صورة القيود المفروضة على إنسان العصر :”

أشعرُ بأنّ جميع تحركاتي مرصودةٌ

وبأنّ كاميرات مراقَبَة دقيقة

تتلصّصُ على نبضاتِ قلبي

وتسجّلُ تفاصيلَ أحلامي” ([3])

حيث تكون الصورة في مستواها الأبرز (يمكنك أن تراه السطحي دون أن تتغاضى عنه ) كاشفة عن رؤية الشاعر لقيود العصر متدرجا من صورة تقليدية (رصد التحركات ) إلى التلصص على نبضات القلب التي تسجل تفاصيل الأحلام ، وحيث اللغة تنساق إلى التعبير عن مستجدات الأداء العصري للمراقبة ، كل ذلك ممررا عبر مشاعر المتكلم وهو ما يأخذنا إلى مستوى أعمق يتمثل في شعور (قد يكون زائفا ) لإنسان العصر بأن هناك من يناصبه المراقبة بهذه الطريقة العصرية المحكمة التي تخرج من نطاق مجرد رصد التحركات وعد الأنفاس إلى عد الأحلام وتسجيلها .

وهي رؤية قد لا تجد امتدادا لها في بقية الديوان مما يجعلها صورة جديرة بأن تقرأ منفصلة في إنتاجها سياقها الخاص بها ، ذلك السياق الذي يغلق دائرة المشهد الواحد لصالح قراءة عميقة مؤسسة على علامة خارج النص ، حيث هناك علامتان أساسيتان تشتغلان في خلفية القصائد جميعها :

  • علامة مرجعية الواقع الذي تحيل إليه القصيدة ، ذلك الواقع الذي تضيق مساحته في النص لتتسع خارجه بحيث تبدو دائرة أصغر(المشهد ) داخل دائرة أكبر (النص) .
  • علامة مرجعية الذات ، تلك التي تحيل إلى ذات الشاعر أو ذات المتكلم في جملة النصوص عبر خطاب محدد بثنائية (المتكلم – المخاطب ) ،بحيث تبدو دائرة أوسع (الذات) داخل دائرة أضيق (الواقع)، وهي مرجعية تتسع مساحتها في النص خلافا للمرجعية السابقة إذ تبدو العلامتان المرجعيتان (سطحيا ) تسيران في اتجاهين متعاكسين غير أنهما (في العمق ) خلاف ذلك حيث يتكاملان لإنتاج صورة لها دلالتها في سياق تجربة الشاعر .
  • قراءة الاتصال : تلك القراءة التي تعتمد على قراءة الديوان بوصفه قصيدة واحدة ، ولها مستويان : مستوى قراءة القصيدة الديوان ، ومستوى قراءة نصوص الشاعر جميعها بوصفها ديوانا واحدا / قصيدة واحدة يمكن من خلالها رصد مساحات التطور ، وعلاقات الحضور والغياب ، ومستوى المجاز وعلاقاته وطرائق إنتاجه دلالاته

هذه القراءة بدورها تقف بنا إزاء ثلاثة بنى نصية تتشكل منها تجربة الشاعر يمكن لكل منها أن يكون قراءة دالة في حد ذاتها ، لكل منها أسلوبها / أساليبها الخاصة التي تتضام جميعها لتشكل الأسلوبية الكبرى للشاعر ، كما أنها تمثل ثلاثة عناصر / دوائر متداخلة تتدرج من الأصغر للأكبر:

                   الموتيفة – الجملة البلاغية- الجدارية.

أولا : الموتيفة الشعرية

تمثل الموتيفة (motif) ([4]) مساحة من الرؤية القائمة على وسيلة بلاغية / اتصالية يعتمدها الشاعر للاتصال مع متلقيه ،باثا مجموعة من العلامات التي يمكن للمتلقي أن يعتمدها في قراءته التأويلية للنص .

الموتيفة تمثل الجملة البلاغية الأصغر ، وتتشكل وفق أصغر بنية نصية تتوزع عبر مدونة الشاعر جميعها ، ومن سماتها الميل للفلسفة تعبيرا عن وضعية إنسانية أكثر منها فردية تتحرك في عدد من الدوائر التي تبدأ من ذات قائلها بوصفه بؤرة للقول ، ومحفزا له ، الموتيفة هنا تمثل نطاقها الدرامي المختزل كما تحقق منتجها الدلالي في حالتي الانفصال والاتصال ، ويمكن التمثيل لها بصيغتين هما أنموذج لكثير من هذه الموتيفات المتكررة في تجربة الشاعر :

  • السؤال المتكرر:” من أنت ، من أنا ” ويتكرر في عشرة مقاطع (من رقم 135إلى رقم 144) في ديوان “غازات ضاحكة ” ([5])

انقضضتُ عليكِ كنسرٍ

وانغرسْتُ فيكِ كحربةٍ

وتلاشَيْتُ ذرّةً ذرّةً

هكذا انتصرتُ عليكِ،

لأنني فعلتُ ما أريدُ

هكذا انهزمتُ منكِ،

لأنني فعلتُ ما تريدين!

مَنْ أنتِ؟

وَمَنْ أنا؟” ([6])

بطريقة سردية يؤهلها الفعل المسند لفاعله مظهرا فعل الذات ومختزلا فعل الأنثى التي تتحقق إرادتها في فعل الذات ، يطرح الشاعر جانبا من المشهد المنتهي بالسؤال في مجازيته : “من أنت ؟ ومن أنا ؟” ، ذلك السؤال القائم بوظيفتين يحددهما موقعه : وظيفة التعليق على الحدث السابق في محاولة لفهمه ، ووظيفة تأكيد الذات والآخر حال كون السؤال جانبا من الصراع ، ويكاد السؤال المتكرر يمثل الوظيفتين في كل مرة .

  • شعرية الظل : حيث يمثل الظل – بوصفه تمثيلا بصريا- شكلا من العلامات ذات الحضور الدال في سياقها الشعري ، وتأخذ مفردة الظل ثلاثة أشكال تحدد ثلاث شخصيات : المتكلم – الغائب – المخاطبة .
  • ” أحسدُ ظلّكِ

         لأنه يراكِ دائمًا” ([7])

 

  • الذي يقتلني قتلاً

         ليس أن ظلي خذلني،

           وَلَمْ يعد بجانبي

       الذي يقتلني قتلاً

         أنه لَمْ يكن أصلاً ظلي” ([8])

  • “مَنْ فَقَدَ ظلَّهُ المضيءَ

     لا يهمّه أن يبكيَهُ أحدٌ

     إلا ظلّه المضيء

     فإنْ بكاهُ ظلّهُ المضيءُ،

     ضحكَ هو من قلبهِ”([9])

وما بين أنواع الظل التي تتشكل وفق مواقع أصحابها تتشكل شبكة من العلاقات القائمة بينها منتجة ما لا يمكن للمتلقي تجاوزه عند قراءة المدونة الشعرية للشاعر مستكشفا تلك العلاقات ومساحة عملها ، وجماليات هذا العمل المضاف لمساحات التخييل الشعري.

ثانيا : الجملة البلاغية

تتشكل مادة الديوان من (532) جملة بلاغية تطول أو تقصر حسب المشهد المرسوم بعناية و إحكام واضح ، والجملة هنا مصطلح إجرائي يعني ذلك التركيب المحكم المعتمد من قبل الشاعر والمعتمد لتحقيق الاتصال بمتلقيه ، مجتهدا في تحقيق بلاغة قادرة على خدمة عملية الاتصال ، حيث البلاغة هنا لاعب أساسي في تشكيل عملية التلقي وتكون الجملة البلاغية وحدة نصية يقوم عليها / أو تفضي إلى ما يسمى بالجملة النصية في مدونة الشاعر التي يمكن من خلالها رصد نوعين أساسيين :

  • الجملة الصغرى (عشر كلمات ) والشاعر يعتمد أنموذجين :
  • أولهما : ذلك الذي ينبني على جملة تتضمن مفردة لها حضورها في الديوان مما يجعل من المفردة علامة لغوية تقوم بوظيفة الرابط الذي يحول النص ذاته إلى نص تشعبي تترابط فيه مجموعة العلامات المتشابهة لتشكل شبكة من العلامات التي لا تتوقف وظيفتها على استقلاليتها فحسب وإنما تتجاوزها إلى حضورها المتكرر على نطاق أوسع ومنها قول الشاعر :

“أنْ أوقظَ وردةً واحدةً

خيرٌ من أن أنامَ في بستانٍ”([10])

حيث يعتمد النص على مفردة ” وردة ” التي لا ينحصر حضورها على الصورة السابقة وإنما تتكرر أربعة عشرة مرة على مدار مساحة الديوان ليس من المنطقي تجاوزها في سياق القراءة

ثانيهما : ذلك الذي ينبني على علامة لغوية غير متكررة وليست مطروحة في سواها ، وهو ما يلزم المتلقي التعامل معها في سياقها المتفرد والمستقل رابطا بينها وبين النصوص الأخرى من خلال المعنى غير المباشر الذي يتمثله المتلقي هناك في البنية العميقة دون الاعتماد على روابط لغوية تبدو بشكل غير مباشر كما هو الحال في الأنموذج السابق ، ومن ذلك قول الشاعر :

” فواكهُ الجنّةِ لا تعطبُ أبدًا،

لذلكَ لا خوفٌ على فتنتِكِ“([11])

حيث تنفرد العلامة ” فواكه الجنة ” بحضورها المتفرد ، غير المتكرر وهو ما يمنح الأنثى (المتحدث عنها ) فرادتها المستمدة من فرادة العلامة اللغوية نفسها ، وحيث الأنثى يشار إليها بعلامة لغوية لها طابعها الخاص ، المتمثلة في سبيكة المضاف (فتنة ) والمضاف إليه (كاف الخطاب ) تعبيرا عن تفرد الأنثى بصفاتها التي تكافئ تفرد فواكه الجنة .

  • الجملة الأكبر (108 كلمات ) ويعتمد فيها الشاعر على سردية خاصة عبر خيط درامي دال :

“نفى الجنودُ المنضبطونَ

شائعةَ عصيانِهم

أكّدوا التزامَهم التامَّ بعملهم

وطاعَتَهم العمياءَ

أوامرَ القائدِ

في المساءِ،

نفذوا خطةَ الاقتحامِ بدقّةٍ

دكّوا حصونَ القريةِ ومنازلَها

قتلوا سكّانها بلا اكتراثٍ

بذلوا جهدًا إضافيًّا

في مهمّتهم الدّسمةِ

لذلك حصلوا

على وجبةِ عشاءٍ ثقيلةٍ

ناموا بعدها مُتْخَمي الضّمائرِ

في الفجر،

حلموا بعائلاتهم

مارسوا الجنس بنهمٍ مع زوجاتهم

أهدوا أطفالهم العرائسَ والحلوَى

في الصباحِ،

خطر لأحدهم

أن يسألَ قائدَهُ على استحياءٍ

عن النساءِ والأطفالِ

الذين قُتلوا بلا ذنبٍ

وهم نائمون في بيوتهم الطينيّةِ

لكنه تراجعَ بسرعةٍ

عن سؤالهِ السّاذجِ،

لأن هؤلاء القتلى

من النساءِ والأطفالِ

لَمْ يخطروا أبدًا ببالِهِ

حتى أثناء الحلمِ

الآن عليه استئذان القائدِ

للاتصال بزوجتِهِ وأطفالهِ

أملاً في نومٍ أكثر هدوءًا” ([12])

حيث يخرج الشاعر عن دائرة الأنثى المتسعة إلى دائرة الرمز الأوسع من خلال نص يضم عددا من العلامات المقيدة على مستوى أداء وظيفتها المعجمية ، المنفتحة على مستوى الوظيفة الدلالية ، فالجنود ، والقائد والقتلى مفردات محددة على مستوى معناها المعجمي ، غير أنها تتجاوز حدود المعجم لأداء دورها الأوسع (الدلالي ) وفق قراءات متعددة تبدأ من مجرد الوقوف عند المستوى المعجمي وتنطلق إلى ماهو أوسع تتحول فيها العلامات اللغوية لتكون بمثابة الرموز الأكثر دلالة .

كما يطرح النص مجموعة من السمات الأسلوبية لمدونة الشاعر:

  • الإحكام السردي والسرد هنا لا يعني القص فقط وإنما يعني الإحكام والترابط بين المشاهد والمقاطع الشعرية .
  • المفارقة متعددة الأشكال في المقطع الواحد .
  • الاستهلال القائم على الجملة الفعلية قليلة التكرار في المدونة الشعرية (خاصة ديوان : غازات ضاحكة ” ) .

ثالثا : الجدارية الشعرية

اللغة تلعب بموافقة الشاعر ومباركته حين يمنحها الحرية أن تنطلق متحررة دون قيود ، والشاعر في إنتاجه مدونته الشعرية ، وفي تشكيله مادتها ، وفي حرصه على رسم لوحته النصية يجتهد في تشكيل معلقة شعرية عصرية يكون لها طابع المطولة غير أنها في اعتمادها على مقومات تخصها فإنها تأخذ شكل الجدارية الشعرية ذات السمات الفنية الخاصة بها ، تلك السمات التي تمنحها قدراتها على التعبير عن نفسها وفق قدراتها الجمالية الخاصة.

يرسم الشاعر جداريته لتكون دليلا عليه وليكون لها سماتها المقاربة للمعلقة القديمة : الطول – التعدد الموضوعاتي – التنوع والتضاد – تكرار الموتيفات- تعدد الأصوات- حضور الذات الشاعرة – الخلفية المعرفية – التجليات المكانية – ترددات العلامة الشعرية – الاشتباك مع اللحظة التاريخية ، القدرة على الانتشار عبر مدونة يمكنها أن تجد طريقها للمتلقي عبر عدد من الوسائط المتجاوزة الشفوية (الكتابة – وسائل الاتصال الحديثة ) وغيرها مما يمثل تطورا يجعل من الشاعر رساما لجداريات لها جمالياتها المؤسسة لشعرية مغايرة.

…………………

هوامش وإشارات

 

[1] – وهو ما نجده في القصائد التي يتصدر كلا منها عنوان واحد متكرر نصا ولا يفصل بينها سوى الرقم في تدرجه أو تناميه ، مثال ذلك ثلاث قصائد لسميح القاسم يتكرر فيها العنوان : سيناريو الغربة (1) – سيناريو الغربة (2) – سيناريو الغربة (3) (انظر : سميح القاسم : الأعمال الكاملة – جـ 2- دار سعاد الصباح – القاهرة 1993، ص 523، 526، 528).

فيمنحنا الرقم مالا تمنحه العلامة اللغوية من توال وارتباط وامتداد واختلاف قائم على الرقم أكثر من قيامه على العلامة اللغوية في تكرارها ، وهو ما يمنح الشاعر مشروعية تكرار العنوان الواحد لأكثر من قصيدة حيث سيكون للرقم دوره في بيان التفرقة بين القصائد .

  • [2] – ” يستمد مصطلح الجدارية الشعرية مرجعيته من المعلقة العربية المعروفة وما بين المعلقة القديمة والجدارية الحديثة تاريخ طويل من قصيدة تبحث عن مصطلح أعني القصيدة المطولة التي تضاهي المعلقة في طولها وتحمل جيناتها الفنية والشعرية ، الجدارية الشعرية قصيدة مطولة تتضمن ألوانا متعددة وأطيافا متنوعة من الفنون الشعرية تحافظ على جينات المعلقة ، وتشكل لنفسها مسارا حضاريا مغايرا يناسب اللحظة التاريخية التي ولدت فيها ” ، راجع : مصطفى الضبع : جداريات عادل عزت الشعرية – مجلة الشعر – اتحاد الإذاعة والتلفزيون – القاهرة – العدد 152- شتاء 2014. وانظر :
  • اكتشاف المخزون الاستراتيجي لفن القصيدة العامية ، جدارية مسعود شومان “ماتقفشى عند بداية الحواديت “- أخبار الأدب – مؤسسة أخبار اليوم – القاهرة – العدد 1005-28 أكتوبر 2012.
  • شمس سميح القاسم وجدارياته – مجلة الشعر – اتحاد الإذاعة والتلفزيون- القاهرة العدد155 – خريف 2014.

هذه الدراسات جميعها تمثل نواة لكتاب حول المطولة الشعرية بوصفها معلقة العصر الحديث والفارق بينها وبين الجدارية .

[3] – شريف الشافعي : غازات ضاحكة ص 54.

[4] – الموضوع الدال(motif) هو موضوع أو حدث قصصي أو شخصية أو فكرة أو عبارة تتكرر في أدب ما أو مأثورات شعبية ………..وذلك مثل عبارة ” ثم أدركها الصباح فسكتت عن الكلام المباح ” في ” ألف ليلة وليلة ” انظر : مجدي وهبة ، كامل المهندس : معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب – مكتبة لبنان – بيروت ، ط2 ، 1984، ص 396.، وهو ما يمكن اعتماده هنا بشكل إجرائي متمثلا في مجموعة العلامات اللغوية المتعددة والمتكررة تلك التي تفرضها القراءة المتصلة ، المتأملة لديوان الشاعر .

[5]غازات ضاحكة ص 98-107.

[6] – شريف الشافعي : غازات ضاحكة ص 98.

[7] – شريف الشافعي : غازات ضاحكة ص 66.

[8] – شريف الشافعي : غازات ضاحكة ص 42.

[9] – شريف الشافعي : غازات ضاحكة ص 109.

[10] – شريف الشافعي : غازات ضاحكة ص 46.

[11] – شريف الشافعي : غازات ضاحكة ص 85.

[12] – شريف الشافعي : غازات ضاحكة ص 290-291.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)